تاريخ تهجير الكورد الفيليين ـ نكبة وانتكاسة
في سنة 1963 بدأت السلطات العراقية بشن حملاتها الظالمة على الكورد الفيلية ، والقبض عليهم في الاسواق والطرق وأماكن العمل في الليل والنهار وتقييدهم أذلاء من محل سكناهم
ومنازلهم وابعادهم عنوة الى ايران وتسفيرهم ومن ثم تسليمهم الى المخافر الحدودية الايرانية !!.
ليس من السهل تصوير ماجرى لهم وماكان يجري يومياً بلا انقطاع في بغداد العاصمة وباقي الألوية(المحافظات الاخرى) في العراق وفي سائر النواحي والأقضية والقرى والقصبات
والارياف ، ناهيك عن صنوف الضرب والاهانات والسباب والسلب والنهب والاحتقار. تفاقم الأمر وإذا بالدوائر الحكومية أصابتها هستيرية غير طبيعية خصوصاً دائرة الـ(سي آي دي)
التي أسستها قيادة الاحتلال البريطاني حينذاك ، والتي هي فرع من فروع -سكوتلنديار-سيئة الصيت، ومهمتها ظاهرياً معاملات -السفر والجنسية والاقامة وباطنياً مطاردة الشعب الكوردي
ومحاربته بأبشع صورة وبحجج واهية وهي(ان الكورد الفيلية هم من التبعية الايرانية) !1!، ويجب طردهم من العراق واخلاء العراق من وجودهم ، رغم عراقيتهم ووجود المستمسكات
القانونية الثبوتية والوثائق الرسمية لديهم..وانكار حق المواطنة في هذا البلد منذ مئات السنين ولانقول آلاف السنين.
بعد سقوط حكومة(أحمد شاه) في ايران واستيلاء(رضا شاه بهلوي) على سدة الحكم في ايران، ولجوء(حسين قلي خان)مع قواته الى العراق والاقامة في (منطقة الباغات)العطيفية حالياً، ولما
كانت الحكومة البريطانية هي التي أوصلت (رضا شاه بهلوي) العميل الأول للحكم وخوفاً من تفاقم الأمر أن لايشجع _(حسين قلي خان) الكورد الفيلية في العراق، وتجنيدهم للقيام بغزو
ايران، والقضاء على حكم (رضا شاه) حرضت بريطانيا جميع العاملين في دوائر الدولة العراقية قرار إبعاد الشعب الكوردي خارج الحدود الى ايران لحماية سلطة رضا شاه وتأمين بقائه في
الحكم لمصلحة بريطانيا وتضييق الخناق على الشعب الايراني وسيطرتها على خيرات ايران ومنابع النفط فيها. من أجل كل هذا وبأمر من بريطانيا سارعت الشرطة العراقية ووكلاء
الشرطة والجواسيس بشن غاراتهم الشعواء على هذا الشعب المسالم دون جريرة أو ذنب ،سوى انهم كورد وابناء عمومة (حسين قلي خان) حاكم أقاليم كوردستان لعشائر الكلهور واللور في
منطقة (بشتكوه) ايران، هذه العشائر التي تقطن غالبيتها على الجانبين من الاراضي المقسمة بين العراق وايران. وتثبت المصادر القديمة والحديثة، انهم من سكان هذه المناطق المتاخمة منذ
الآف السنين وقبل الفتح الاسلامي للعراق سواء أكانوا يستوطنون في المدن الحدودية في ايران او في المدن العراقية ، من العمارة والكوت وديالى ، فهم بالطبع أبناء عمومة لغتهم مشتركة
ولهم نفس العادات والتقاليد ، مثلما عشائر العرب في مناطق الاهواز الحدودية والمناطق الحدودية في البصرة ففي الجهتين أبناء عمومة القسم الايراني والقسم العراقي !! لقد استمرت هذه
المعاملة اللاإنسانية القاسية بحقهم من جانب الحكومات المتعاقبة في العراق طيلة قرن أو أقل بعد الحرب العالمية الأولى. ومن الغريب في الأمر ان الحكومة الايرانية لم تقم بتسفير او طرد
أي عربي من القاطنين في الحدود مع العراق ولم نسمع بمثل هذه اللعبة التي جرت في العراق قد اتخذتها وعملت بها حكومات ايران لحد الآن !!. لقد تحملت هذه الشريحة الكوردية في
العراق من صنوف الويلات والقسوة والقهر الاجتماعي والسياسي مالم تتحمله الأطياف العراقيةالأخرى ، رغم مشاركة الكورد الفيلية في نهوض العراق وخدمة عموم الفئات المتأخية خدمة
صادقة أمينة وباخلاص طيلة حياتهم ومعاشرتهم مع الآخرين ومشاركتهم في السراء والضراء ، إذ بينهم وبين الاشقاء العرب علاقات متينة وصلت التزاوج والتقارب يشهد لها التاريخ
القريب .اما الذين يصطادون في الماء العكر فالانسان المسامح الكريم الطيب لايبالي بهم مطلقاً وبنعيقهم وحقدهم الأسود المستديم. وتتكرر هذه المأساة المؤسفة والمنافية لأبسط حقوق الانسان
ومنها حق المواطنة بطرق وحشية لم يقم بها النظام النازي سابقاً . ففي عهد رشيد عالي الكيلاني استمرت الحملة القاسية نفسها بالقبض على الكورد الفيلية وحجزهم ومن ثم إبعادهم خارج
الحدود العراقية. وعند احتلال العراق من جديد مرة أخرى وبالرغم من وجود القواعد البريطانية في العراق وهروب حكومة الانقاذ الوطني ، توقفت الملاحقات نسبياً ، لأن بريطانيا وفي
نفس الوقت احتلت ايران ايضاً. ان من يتمعن قليلاً في هذه الصورة المضحكة -العراق وايران- تحت الاحتلال البريطاني في الحرب العالمية الثانية ، ليس هناك من يتحرش بالكوردي
الفيلي !! سواء أكان في العراق او في ايران ، وماالسبب في ذلك !!. هنا تبدو المهزلة صارخة تماماً!!. لافرق لدى بريطانيا ، ان كان (الفيلي) يعيش في العراق أو في ايران ، إذ كانت
بريطانيا في ذلك الحين بحاجة ماسة الى عمال وفنيين للعمل في المعسكرات العديدة المنتشرة والمقامة في العراق، فأستخدمت الكورد الفيلية للقيام بهذه الخدمة لقاء اجور ، فضلاً عن تزويد
العمال بمواد تموينية غذائية يومياً بعد انصرافهم من العمل ، وهكذا كانت المسرحية الخادعة !. انتهت الحرب العالمية الثانية في 1945 وعادت حليمة الى اساليبها القديمة بالتحرش والايذاء
بالكورد من جديد ، وكما يقولون -نفس الطاس والحمام - أو (العادة الخبيثة بالبدن مايغيرها الإ الكفن). ولكن المعاملة غير الانسانية في هذه المرحلة، بدت أشد ضراوة وقسوة ومن دون
رحمة او شفقة ، يالهول المصائب المتعاقبة التي مرت على هذه الشريحة المسالمة المتسامحة في تلك العهود المظلمة ، والتي ذاقت الامرين لا الكورد الفيلية وحدهم ، بل عموم الفصائل
الاخرى في العراق ، وبطرق وحشية ساخرة ، دون رادع من ضمير أو وجدان، وبقساوة متناهية. وتعاقبت السنين العجاف بهذه الصورة المؤلمة ، حتى قيام ثورة 14 تموز 1958 ، فتنفس
الجميع الصعداء ، لا الكورد الفيلية وحدهم بل الشرائح الاجتماعية والأطياف كلها من عرب وكورد وتركمان وكلدو آشوريين وباقي المجتمع العراقي، لأنهم بشروا بمطلع فجرجديد يحررهم
من قيود الاستغلال والاجحاف والظلم والتعدي وصنوف العبودية المطلقة المتسلطة على رقاب الجميع دون أستثناء واللامبالاة بقيم الأرض وشرائع السماء والأعراف ودون النظر بأن
الانسان هو أثمن رأسمال على وجه الارض! ولكن الامور والايام لم تمر كما كنا نحلم بها و(تجري الرياح بما لاتشتهي السفن) فانطلقت خفافيش الظلام من مكانها وجحورها لتعيث في
العراق فساداً وحيكت المؤامرات والدسائس والتواطؤ المكشوف والمبيت مع الخارج وطبخت الانقلابات العميلة ، وزاد الطين بلة في صبيحة يوم الجمعة 8 شباط 1963 ، لتبدأ من جديد
مجازر ابشع من قبل بالآف المرات ، ولتحرق الأخضر واليابس ، ولتقضي على خبرة ابناء شعبنا بالقتل والبطش والتدمير ، نكابة بنا جميعاً ، لاننا فضلنا حق تقرير المصير ، والحياة
الحرة الكريمة ، فسحقوا هذه الامنيات وبددوا الطموحات المستقبلية وداسوا عليها ، خدمة لمصالح الاجنبي ، وتحديا اجرامياً لارادتنا ، واستمر على هذا المنوال والنهج العدواني يوماً بعد يوم
وانقلاب بعد انقلاب حتى عام 1968. واذا بالأمر اسوأ من أمس وليس هناك من مهرب او خلاص من هذه الدسائس المستمرة، فالمعاناة طالت وتطول والعذابات تشتد وانعدمت الحلول
وضاعت المقاييس ، اذ تبين آخر الأمر بأن هذا النهج يرمي الى التيئيس ودفع المواطنين للهروب من العراق للنجاة بأرواحهم وترك الحبل على الغارب للمجرمين واللصوص..! وهكذا
ماأرادوه وبينوة لهذا الشعب اذ بلغ الأمر لمن فرمن العراق او طلب اللجوء الى دول اخرى خوفاً من البطش والقتل والغدر والاغتيال والدفن احياء في المقابر الجماعية. وهكذا اختمرت
واكتملت الصورة المأساوية للهجرة والتهجير والفرار من جحيم الاوضاع المتردية طلباً للنجاة والتوجه نحو مصير مجهول...!!
محمد دارا
جريدة آفاق الكورد، العدد: 51- 1/8/ 2006