دراسات في الشخصية الكردية
( الحلقة التاسعة عشرة )
أضواء على الفولكلور الكردي
1 - الأزياء والأغاني الشعبية

مدخل: ما هو الفولكلور؟
ظهر مصطلح فولكلور Folklore سنة (1840م)، من قِبل عالم الآثار الإنكليزي وليام جون توماس W.J.Thomas، واستخدمه بدل عبارة (الأزياء الشعبية)، ويتألف هذا المصطلح من كلمتين: Folk (ناس)، وLore (معرفة/حكمة)، ومعناه: معارف الناس، أو حكمة الشعب، وتوسّع معنى فولكلور بعدئذ في الدراسات الحديثة، فصار يدل على التراث الشعبي عامة؛ كالمعتقدات، والعادات والتقاليد، والأزياء، والأمثال، والألعاب، والموسيقى، والأغاني، والأحاجي والألغاز. (انظر كراب: علم الفولكلور، ص 17. عبد الغني عماد: سوسيولوجيا الثقافة، ص 159).
والفولكلور من أهم عوامل تجانس المجتمع، وهو الممثل الأكثر صدقاً لروح الشعب، وفيه يتجلّى قدر كبير من أصالته وشخصيته العفوية، وإن إقبال الشعوب على فولكلورها أحد أشكال تقمّص أرواح الأسلاف، والتمسك بالهوية الوطنية والقومية، وصحيح أن الفولكلور يتصف بقدر كبير من الثبات، لكن ثباته ليس أبدياً، إنه- كغيره من البنى الثقافية- عرضة للتطوّر والتحوّل، والتقلّص والإضافة، وقد تختفي بعض عناصره مع مرور الأيام، وخاصة في مواجهة الحداثة.
ويتأثّر الفولكلور خلال تشكله بخمسة عوامل: أولاً البيئة الطبيعية. وثانياً الميثولوجيا والدين. وثالثاً القيم الأخلاقية السائدة. ورابعاً الجنس (ذكور/إناث). وخامساً مستوى الذوق الجمالي، وهذا الأخير يتحدد بدوره وفق المستوى الثقافي والحالة الاقتصادية لكل من الفرد والجماعة. ومن المفيد أن نأخذ هذه العوامل بالحسبان في دراسة الفولكلور، ونتناول في هذا المبحث والذي يليه المكوّنات الآتية من الفولكلور الكردي: الأزياء، والأغاني، والموسيقى، والرقص، وفولكلور المراعي.
أولاً- الزِّيّ الكردي الرجالي
الكرد بصورة عامة محبّون لزيّهم الفولكلوري-يسمّونه (الوطن/القومي)- متمسّكون بارتدائه، وخاصة في المناسبات كعيد نوروز، يقول زِنار سَلُوپي (قدري جميل پاشا)، في أوائل القرن العشرين، أثناء دراسته في إستانبول عاصمة السلطنة العثمانية: "كنت أشعر بغبطة وسعادة كبيرتين تغمر قلبي، حينما كنت أشاهد الأكراد يتردّدون على المقهى بزيّهم القومي، وبشكل خاص أُعجبت بالمنظر الرجولي للمرشد ملاّ سعيد [نورسي] الذي كان يرتدي زيّاً كردياً خاصّاً". (زنار سلوبي: في سبيل كردستان، ص 17).
ويتألف الزيّ الكردي الرجالي الخارجي في أغلب مناطق كردستان من أربع قطع رئيسة، هي العمامة، والقميص، والحزام (پِشْت) Pişt، والسروال، ومما لا شك فيه أن للبيئة الجبلية والمُناخ البارد دوراً مهماً في شيوع هذا الزيّ بين الكرد، باستثناء بعض المناطق الكردية السهلية المتاخمة للبدو العرب في سِنْجار والجزيرة، وفي مناطق عين العرب والباب والسِّفيرة في شمالي سوريا، إذ يرتدي الرجال الدِّشْداشة بدل القميص والسروال، ويتعمّمون بالغَتْرة (الشِّماخ) والعقال بدل العمامة.
وتتكوّن العمامة الكردية من طاقيّة صوفية قوية مرتفعة تسمّى (كُُلاو) Kulaw و(كُمْ) Kom، تُلفّ حولها قطعة قماشية طويلة، والملاحَظ أن الطاقيات في لورستان بأقصى الجنوب، وفي الشمال والغرب تكون صغيرة، وتتنوّع العمامة حجماً وشكلاً وتكويراً ولوناً بحسب البيئات والعشائر، والملاحَظ أنها في المناطق الكردية الشرقية والجنوبية أكبر منها في الشمال والغرب، وإلى جانب تأثير المُناخ في اتخاذ العمامة لحماية الرأس من البرد والحر، فإنها تشبه الجبل بشكلها شبه المخروطي، وبتكويرها طبقة فوق أخرى، ويقوى هذا التفسير حينما يلمح المرء العمائم الضخمة لبعض زعماء قبائل شرقي كردستان، في أواخر القرن التاسع عشر. أما في مناطق صُوران بجنوبي كردستان فتزدان حوافّ العمائم بأهداب وكشاكش، كحوافّ الأرائك القديمة الطرز حسب وصف دانا آدمز، وحسبما هو مشاهَد في أيامنا هذه. (انظر دانا آدمز شمدت: رحلة إلى بلاد شجعان، ص 271).
وأما القطع الثلاث الأخرى (القميص، الحزام/پِشْت Pişt، السِّرْوال) فهي أيضاً متنوّعة الأشكال والألوان، وأكثر ما يلفت الانتباه هو نوع التطريز على القمصان والسراويل من ناحية، وأحجام الحزام من ناحية أخرى، فهو كبير جداً عند القبائل الشرقية والجنوبية، وقد يبلغ طوله من (4 – 5) أمتار، ويُغرز فيه الخنجر والمسدّس، وربما توضع في طيّاته النقود وعلبة التبغ أيضاً، والمُلاحَظ أيضاً أن السراويل تكون ضخمة الحجم وفضفاضة في شرقي كردستان، وتصبح أقل ضخامة في الجنوب، وتبدو أصغر في لورستان وعند كرد الشمال والغرب، ويصبح السروال على شكل بنطال فضفاض عند بعض قبائل الشمال، ويكون مخطّطاً أحياناً طولياً بالأبيض والأسود، ويستحق هذا النمط بجدارة أن يُعَدّ السلالة الأولى للبنطال الأوربي الحديث.
وقد مر سابقاً أن دولة ميديا حقّقت قدراً كبيراً من التجانس في مجتمع أسلاف الكرد ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، فهل يشتمل الزي الكردي الرجالي على بعض مكوّنات الزي الميدي؟ قبل الإجابة دعونا نعرف الزي الميدي، فالميدي كان يرتدي رداء، ويربطه بحزام، شُدّت إليه حربة قصيرة، ويضع على الرأس غطاء يسمّى (Backlyh)، وهو غطاء خاص بالرعاة، كان يُصَنع من الصوف على هيئة قبّعة مدبَّبة مزوَّدة بشريطين طويلين، يتدلّيان حول الرقبة، ويوضع في الرجل حذاء له رقبة. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 592).
وذكر دياكونوف أن الزي الميدي كان يتألف من: " رداء طويل، له أكمام طويلة مرتفعة، وسروال مَطويّ الثنايا، بأذيال طويلة، مع روب قصير من قطعة أخرى ملوَّنة، ومصنوعة من الحرير، ويلبسون الطاقيات العالية، ... هذه الملابس للأقوام الميدية الشرقية كانت سائدة في جميع أنحاء أراضي ميديا بشكل رسمي، وفي القرن السادس قبل الميلاد كان الفرس أيضاً يلبسون هذه الملابس". (دياكونوف: ميديا، ص 348 – 349).
وأحسب أن بعض مظاهر الزي الميدي ما زال ماثلاً في أردية رجال الكهنوت الأيزدي، وفي السروال الكردي المطوي الثنايا، وفي الخنجر المغروز في الحزام، وفي الطاقية المرتفعة التي تُلَفّ العمامة حولها، وفي الطاقية المدوَّرة الأقل ارتفاعاً، إنها تُرتدى من غير عمامة، ويظهر شعر الرأس من تحتها، وكلما لمحت رجال الدين الفرس والكرد المسلمين، وخُصلة الشعر بادية من مقدّمات عمائمهم، تذكّرت الطاقية الميدية، بل يجمح بي الخيال، فألمح في الطيّات المتراكبة على شكل نصف قوس من جانبي مقدمة العمامة رمزَ إشراقة شمس آهورا مَزْدا، ومعروف أن الفرس يلتقون مع الكرد في القرابة الإثنية والعقيدة الزردشتية، إضافة إلى أن أسلافهم كانوا مغرمين بالزي الميدي، قال هيرودوت يصفهم: "فهم يرتدون أزياء الميديين...، لاعتقادهم بأن تلك الأزياء أكثر أناقة من أزيائهم". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 96).
وقد ذكر دياكونوف أن أفراد شعب لوللو يظهرون في كتابات الملك الأكّادي نارام سِن نارام- سين Naram - Sin (2260 – 2223 ق.م) بملابس خفيفة وطويلة، ويضعون قطعة جلد على أكتافهم، وأن هذه كانت ملابس الميتانيين، والميديين الغربيين، والكاشيين في الألف الأول قبل الميلاد. (دياكونوف: ميديا، ص 108). ولا أستبعد أن تكون قطعة الجلد باقية في المعطف الجلدي القصير المصنوع من جلود الخراف، والذي يُعرف في هَوْرامان Hewraman بجنوبي كردستان باسم (كُلَه بال) Kolebal، وينتهي فوق كل منكب ببروز قصير، ويُسمّى في منطقة صُوران (پَسْتَك) Pestek، ويسمّى في منطقة بادِينان Badînan (چُوخْ) oxÇ، لكن من غير بروز على الكتفين، حسبما أفاد الأستاذ نجات ناوي (من جنوبي كردستاني) مشكوراً.
وثمة في الأزياء الكردية ظاهرات تلفت الانتباه، مع أنها قد لا تكون عامة، ومنها أنني وأبناء جيلي بمنطقة عِفْرين كنا نرتدي- ونحن صبية في خمسينيات القرن العشرين- قَلَنْسُوَة كانت تُنسج من الخيوط القطنية، بيضاء مخرّمة مخروطية طولها حوالي شبر ونصف، تنتهي من قمتها بكرة صغيرة من الخيوط، وكان الكبار يلفّون حولها عمامة تسمّى (شَعْرا كِسْرَواني)، وكان الشباب يرتدونها بلا عمامة، وكنا- نحن الصبية- نرتديها في الأعياد والأعراس ومناسبات الختان والاحتفال بختم القرآن. وبعدئذ تقلّص ذلك الزيّ بسرعة، وانحصر في بيئات محدودة، ثم ظلت آثاره عند بعض المطربين الشعبيين (الطبّالة) Gewende، ثم دخل متحف التاريخ، وظهر حديثاً في أزياء بعض الفرق الفولكلورية.
وبعد نصف قرن عرفت أن تلك القلنسوة هي من سلالة القبّعة الميدية المخروطية المدبَّبة التي مر ذكرها، والأغرب من هذا أنني اكتشفت في لحظة من اللحظات، وأنا أشاهد قباب المزارات الأيزدية المخروطية البيضاء المدبَّبة، أنني كنت ذات يوم أحمل فوق رأسي قبّة صغيرة من تلك القباب، لكن على شكل قلنسوة، وكنت أشرت في مبحث سابق من هذه الدراسة إلى رمزية الجبل البادية في تلك القباب، إضافة إلى رمزية الضياء والشمس (البياض والإشراق) المتأصلة في صميم الميثولوجيا والأديان الكردية، بدءاً من الأزدائية والمِثرائية، وانتهاء بالزردشتية.
وثمة ظاهرة أخرى مثيرة للانتباه في الزي الكردي الرجالي والنسائي معاً، وهو وجود رُدْن أبيض طويل عند الرُّسغ، وهو عند الرجال ملفوف في الغالب، وقد يُطلق في المناسبات، أما عند النساء فطليق على الغالب، وقد يُربط الردنان خلف الظهر، ويرتبط ظهور هذا الزيّ بالأعراس والمآتم والحروب، وأفاد الأستاذ نَجات ناوي أن ذلك الردن يسمى بالكردية (لَوَنْدي) Lewendî، وذكرنا سابقاً أهمية اللون الأبيض في الميثولوجيا والأديان الكردية قبل الإسلام، وأن الزردشتية كانت تسمّى (الدين الأبيض)، وكانت العادات والتقاليد الكردية الأصيلة تسمّى في الملاحم الشعبية (الكُرمانجية البيضاء) Kormanjiya sipÎ؛ فهل الردن الأبيض من رموز الدين الأبيض؟ إن ما يرجّح ذلك هو عدم وجود أيّة قيمة نفعية عملية لوجوده في الرُّسغ.
والعجيب أن زيّ (لوندي) موجود في فولكلور رجال الأسرة السعودية المالكة، إنه يظهر في (عَرْضة) مهرجان الجنادرية السنوي؛ إذ يرتدي كل رجل رداء مرقَّطاً، وتتدلّى من رُّسغيه لونديان أبيضان، ويلوّح بالسيف، وهو يرقص باتّزان على إيقاع الطبول، واللونديان يتمايلان يَمْنة ويَسرة، وهذا أمر يثير الانتباه، ولا نعرف إلى الآن تفسيراً له، ودعونا نستأنس برأي دبليو آر حاكم أربيل البريطاني، إنه يقول:
" ولا بد من كلمة تقال في الأردان البيض الطويلة التي يستعملها كل كردي، إن العرب في الأغلب يستعملونها أيضاً، لكن ذلك من دون مبالغة في طرزها. ولقد سألت مرات كثيرة عن السبب في طولها، فأُجبت: إنها لِتُمكّن لابسها من ربط نهايتها خلف رقبته، وبذلك يستطيع أن يسحب أردان سترته حتى تبلغ مرفقيه، فتغدو ذراعاه حرّة للعمل والأكل أو الاغتسال والقتال على وفق الحاجة، وعندما لا تكون هذه الأردان مشدودة إلى وراء الرقبة فإنها تُلفّ حول الذراع فوق الرسغ، وتُفكّ هذه عند إقامة الصلاة". (دبليو آر . هي: مذكرات دبليو آر، ص 59).
إن جملة دبليو آر الأخيرة "وتُفكّ هذه عند إقامة الصلاة" مهمة، إنها تعزّز رأينا في الرمزية الزردشتية- وربما ما قبل الزردشتية- الكامنة في اللوندي، لكن رأينا هذا يضعنا أمام إشكالية أخرى أكثر تعقيداً؛ وهي وجود زي لوندي عند بعض القبائل العربية حسبما أفاد دبليو آر، وعند الأسرة السعودية حسبما هو معروف الآن، فما علاقة القبائل العربية بهذا الرمز الديني الزردشتي؟ هل دخل هذا الزيّ إلى الفولكلور العربي منذ ما قبل الإسلام؛ أيام كان الفرس يسيطرون على الجانب الشرقي من الخليج، وكانت الزردشتية دين بعض قبائل العرب في شرقي شبه جزيرة العرب؟ الحقيقة أن في طيّات ثقافات غربي آسيا أسراراً كثيرة، وهي بحاجة إلى حفريات عميقة، وقد تغيّر تلك الحفريات كثيراً من الأمور التي أُنزلت لأسباب أيديولوجية منزلة المسلَّمات.
ولنستمع أخيراً إلى رأي نيكيتين بشأن الزي الكردي عامة، قال: " وهناك صفة واحدة تبدو مشتركة بالنسبة لجميع الكرد في ملبسهم؛ إن الزيّ الكردي لن يكون أبداً مُعتَماً وبلون واحد، بل يدهش الناظر إليه دوماً بجماله وامتزاج ألوانه المتضادة. ويكاد المرء يعتقد أن الطبيعة التي تحيط بالكرد من مراع خضراء مزيّنة بالأزهار، وثلوج تلمع من بعيد، وسماء زرقاء صافية، ومياه وسهول وجداول، أسهمت كلها في أن تنمّي لديهم هذا الذوق الفني الذي نراه رَأْي العين في زيّهم، وفي دقائق وتفاصيل تجهيزات سكناهم العائلية". (نيكيتين: الكرد، ص 163-164).
وعلى العموم يمكن القول بأن الزي الكردي الرجالي- مجتمِعاً- يوحي بدلالات الجد والمهابة والوقار والحشمة، ولا يخلو في البيئات الفقيرة من دلالات الخشونة أيضاً، وأعتقد أن اجتماع مظهر هذا الزيّ المهيب الخشن مع ملامح الكرد الجادة، وشواربهم الكثّة الضخمة، كان يخلق انطباعاً غير مريح عند بعض الرحّالة الأوربيين، كما أن الزيّ الكردي الرجالي يجسّد في بعض مكوّناته بنًى عميقة جداً من بنى الميثولوجيا والأديان الكردية قبل الإسلام، هذا إضافة إلى أنه ملائم جداً للبيئة الكردية الجبلية التي تغلب عليها البرودة، وملائم لطبيعة الأعمال الرعوية والزراعية التي يمارسها الكرد.

ثانياً- الزيّ الكردي النسائي
في الغالب تتمحور قيم (الجلال) حول الرجل، فيوصف بأنه مَهيب، وقور، قوي، بطل، إلخ، وتتمحور قيم (الجمال) حول المرأة، فتوصف بأنها لطيفة، ناعمة، هيفاء، إلخ. ومن حيث الشكل يوصف الرجل الحسن الشكل في اللهجة الكردمانجية بكلمة Camêr، ويعني هذا الوصف في سياقات أخرى معنى الكرم والأَرْيَحيّة أيضاً، وتوصف المرأة الجميلة بكلمة elengÇ، إلى جانب كلمات أخرى قريبة الدلالة جداً من هذه الكلمة، ومثل هذا موجود في العربية أيضاً؛ إذ يقال للرجل الحسن الشكل (وسيم)، وتوصف المرأة بأنها (جميلة).
ويبدو أن البيئة والمُناخ، والمؤثّرات الدينية، والضوابط الأخلاقية القبلية، قلّصت الفوارق بين (الجلال) و(الجمال) في الزي النسائي، وامتزجت فيه دلالات الوقار الحشمة بدلالات الجمال، مع غلبة دلالات الجمال عامة. وقد قال رحالة أوربي لا يحضرني اسمه ما معناه " تبدو المرأة الكردية في ثيابها كأنها في قلعة محصَّنة"، وهو على صواب، ففي مجتمع عفرين مثلاً- وهو غير قَبَلي- يتألف الزي النسائي التقليدي من غطاء الرأس، وثوب طويل غير شفّاف، وتحته ثوب أقل طولاً يسمّى Keras، ويخفي هذا بدوره سروالاً فضفاضاً يسمّى Hevalkeras ، وقد تشدّ المرأة إلى مقدمة نصفها السفلي قطعة قماشية بطول ثوبها تسمى (چارِك) arikÇ، وكانت تتحزّم في الأعراس خاصة بحزام معدني مطرَّز ذي لون ذهبي وفضي، وترتدي قميصاً خمريّ اللون مطرَّزاً أنيقاً.
أما في المجتمعات الكردية القبلية الطابع فكان زيّ المرأة التقليدي أكثر وقاراً وحشمة، كان غطاء الرأس كبيراً كثير الطيّات، تحلّ محلّه، في الأعراس، كوفية مدوّرة جليلة، يطرّزها من الأسفل عِقد صُفّت فيه قطع ذهبية دائرية، وكانت الثياب أوسع وأكثر سمكاً وطولاً، وكان الهڤال كراس فضفاضاً، يصل إلى أخمص القدم، وكان ثمة رداء سميك تلبسه المرأة فوق ثيابها، وله طيّات من الجانبين، وعقدة من الخلف، فكانت المرأة تبدو حقاً كأنها في قلعة محصَّنة من الثياب.
وأفاد الدكتور مَهدي كاكايي (من جنوبي كردستان)- مشكوراً- أن الزيّ النسائي الكردي في الجنوب يتكوّن من رداء ملوّن لمّاع فضفاض طويل، ومن زخمة ذهبية محلاّة بأقراص فضية أو ملوَّنة، ومن سروال طويل، تتناغم ألوانه في الأطراف السفلى مع لون الرداء، ومن غطاءُ رأس مزيَّنٌ عادة بالحُلِي والإكسسوارات الذهبية أو الأحجار الكريمة والخرز، فتُضفي عليه جمالاً مميَّزاً. وأفاد الدكتور مهدي كاكايي أيضاً أن الزي النسائي أكثر حشمة في مناطق أربيل ودُهوك، بسبب زيادة نسبة وجود العادات القبلية، إضافة إلى تأثير الدين الإسلامي، ومن ملاحظاته أيضاً أن الزي النسائي الأكثر أناقة يوجد في منطقة السليمانية؛ بسبب أن النساء هناك أكثر انفتاحاً وتحرراً، نتيجة عوامل تاريخية وسياسية وثقافية متنوّعة.
وأرى أن ملاحظة الدكتور مهدي صائبة؛ لأن منطقة السليمانية (شَهْرَزُور قديماً) كانت تقع على حافّة طريق الحرير القديم، ذلك الطريق التجاري الرئيسي الذي كان يربط ثقافات وحضارات غربي آسيا وجنوبي أوربا بثقافات وحضارات شرقي وجنوبي آسيا، ولا سيما الصين والهند، ومعروف أنه حيثما تمر التجارة تمر المدنية والحضارة، ويمرّ دعاة الأديان وجيوش الإمبراطوريات، ولذلك أنجبت منطقة السليمانية (شهرزور) كثيراً من المثقفين- علماءَ وأدباءَ- في العهود الإسلامية وفي العصر الحديث.
ولا يخلو الزيّ النسائي الكردي بدوره من ظاهرات خاصة، منها أن نساء عشيرة (دِنّا/دِنّان) Dinna/Dinnan- في منطقة السِّفيرة بجنوبي حلب، والمتزوّجات حصراً- كن يتعمّمن بكوفية في مقدمتها شبه قرن مخروطي قصير، مصنوع من قماش الكوفية. ومنها أيضاً أن نساء شمالي وشرقي كردستان، وربما في أرمينيا وكازاخستان، يتعمّمن بكوفية تنتهي من الأعلى- تحت المنديل- بطاقية صغيرة. ولم أجد للقرن والطاقية وظيفة نفعية عملية، حتى ولا جمالية، فهل من دلالة ميثولوجية أو وطنية؟ دعونا نولِّ وجوهنا شطر البنى العميقة في الثقافة الكردية، فلعلها تمدّنا بتفسيرات مقبولة.
أما بالنسبة للقرن الصغير فإن عشيرة دِنّا- وهي إحدى عشائر تحالف بَرازي- كانت أيزدية قبل حوالي قرنين، وما زال قسم منها موجوداً في منطقة شَنْگال (سِنْجار) على الدين الأيزدي، فهل كان ذلك القرن المخروطي القصير رمزاً مصغَّراً- كالطاقية الرجالية المخروطية- لقبّة المعبد الأيزدي المخروطية؟ ربما. وأما بالنسبة للطاقية الصغيرة فألمح فيها صورة مصغَّرة للطاقية الميدية التي مر الحديث عنا في الزي الكردي الرجالي، والحقيقة أن المرأة الكردية كانت- بحكم ندرة اختلاطها بالمجتمعات غير الكردية- متحفاً تراثياً كردياً، واحتفظت أكثر من الرجل بالتراث الكردي الأصيل لغةً وزيّاً وقيماً.
وعموماً يتّصف الزي النسائي الكردي بأنه محتشم، ومناسب للبيئة والمناخ، ولطبيعة عمل المرأة في المراعي والحقول، ويتّصف بقدر غير قليل من الجمال، وهو يستمد ذلك الجمال من تنوّع ألوانه، ونستعرض فيما يلي بعض آراء وملاحظات وانطباعات الأجانب الأوربيين بشأن الزي الكردي النسائي، ولنبدأ بملاحظات دانا آدمز بشان التنوّع اللوني، قال:
" ولم يسعني- ونحن نمرّ بالقرى الصغيرة أثناء الأيام التالية- إلا الإعجاب بالنساء الكرديات، بمشيتهن المنتصبة، وأقدامهن الثابتة الفخورة، وبأزيائهن الجميلة جداً، الأنثوية جداً، المتعددة الألوان، ومعظمها طويل الأكمام جداً، حتى يمكن أن يُعمل من نهايته عقدة تُدفَع إلى الخلف وراء الظهر... هكذا ينجزن أعمالهن وألوان ثيابهن تمرق من أمام العين منسجمةً بشكل ما: أزرق، وأصفر، وأحمر، وأخضر، وأرجواني، شيءٌ من الجمال والرقّة في كل عالمهن القاسي. ما أروع وأسنى هذه القرويات التيّاهات بألوانهن ووجوههن السافرة! وما أسماهنّ على تلك المخلوقات البائسات المنطويات؛ نساء المدينة في عباءاتهن وبراقعهن السود! إن هؤلاء القرويات هن أكثر حرية في شتّى النواحي من نساء المدينة حتى المدن الكردية نفسها". (دانا آدمز شمدت: رحلة إلى بلاد شجعان، ص 234).
وأكثر من توقّف عند جماليات التنوّع اللوني في الزي الكردي النسائي هي البريطانية ليدي درور، وكانت قد عاشت فترة بين الكرد الأيزديين، ولعل حسّها الأنثوي هو الذي جعلها تركّز على هذا الجانب الجمالي، وها هي ذي تصف أزياء النساء الكرديات، في احتفالات أحد الأعياد المقدسة في لالَش قائلة:
" كانت النسوة اليزيديات [الأيزديات]، بقلنسواتهن من القطع النقدية اللامعة، وعمائمهن، وأبازيم أحزمتهن الفضية، وسلالهن وتعويذاتهن وخرزهن، متألّقات إلى حد كبير، لكن النسوة الكرديات من القرى كن يفقنهن تألّقاً؛ كانت أولُ من رأيناها ملكةَ سَبَأ [الملكة بَلْقِيس] حقيقية، حبستْ أنفاسنا، مزوَّقةً بالمعادن الثمينة والخرز، وكانت الألوان في ثيابها المتعددة أكثر مما يستطيع المرء أن يرى. وصل المزيد منهن، وحتى سليمان [النبي العبراني] في جلاله لم يكن لابساً مثل واحد منهن، كن جميعاً في ألوان متلألئة، بينما توّجن أنفسهن على عروشهن على السطح، وأغطيةُ رؤوسهن تلمع في الشمس. ... كم كنّ يمتّعن أنفسهنّ بألوان فوق الألوان!
الأحمر الضارب إلى الأرجواني، والأرجواني، والقرمزي، والبرتقالي، أو ألوان زهر الربيع، والأخضر المٌفْعَم بالحيوية، والأصفر، والبنفسجي الزاهي والزهري؛ كل هذه الألوان كانت تتجمّع معاً بجرأة فاخرة، ولكن الأسود كان يُضاف؛ لجعل قوس قزح هذا أكثر تألقاً بالتغاير الصارخ كانت تتدلّى منهن خرزات كبيرة كهرمانية وملوّنة، سلاسل فضية، زينة وتعويذات، وكانت رؤوسهن قد أثقلها الذهب والفضة والمناديل الخضراء والحمراء؛ التي كانت تتألّف منها العمائم المثبّتة بدبابيس فضية كبيرة". (ليدي درور: طاووس ملك اليزيدية، ص 164 – 165).

ثالثاً - الأغاني الشعبية الكردية
ثمة خمسة محاور تشكّل بنية الأغنية الكردية: العشق الصوفي للطبيعة، والمزاج الرومانسي، والهموم الذاتية ولاسيما الحب، والصراعات البينية القبلية، والصراعات الخارجية ضد الذهنيات الإمبراطورية الغازية. وقد نقل نيكيتين عن المؤلف الأرمني (آبوفيان) قوله: "تطورت القصائد الشعبية الكردية كثيراً، وبلغت حدود الكمال، ... إن كل كردي- رجلاً كان أم امرأة- شاعر بفطرته...، إن واقع تَقبّل الأرمن للغناء الكردي بكل تقدير واحترام، يؤكد بصورة بالغة الجاذبية الشديدة في الشعر الشعبي الكردي- ويؤكد واكنر أن العديد من الأغاني الكردية والأيزدية انتشرت في آسيا القديمة (آسيا الصغرى) بعد ترجمتها إلى اللغة التركية". (نيكيتين: الكرد، ص 222-224).
وأفاد الدكتور مهدي كاكايي أن الأغاني الكردية الشعبية في جنوبي كردستان تتألف من الأنواع الآتية:
أ. گوراني Gorani: مجموعات شعرية مستقلة، لكل مجموعة أو مجموعتين معنى مستقل، وهذا النوع من الغناء ينتمي إلى لورستان.
ب. لاوك Lawik: ملحمة غرامية أو حربية في منطقة سوران، وتشتهر أربيل خاصة بهذا النوع من الغناء.
ج. حَيْران Heyran: نثر مسجوع، تكون نهاية ثلاث مقاطع منه موزونة على الأقل، ويعبّر في الغالب عن المعاناة و الهموم، وهذا النوع من الغناء خاص بمنطقة سوران أيضاً.
د . هووره huraa : نوع من الغناء يفتقد إلى أوزان شعرية، وتتألف كل أغنية من عدة ألحان مختلفة، فالمغني هو الذي يبدع بذوقه أداء هذه الأغنية، وتدور موضوعاته حول مسائل الحياة، مثل السلم والحرب والفرح والحزن وآلام القلوب العاشقة، إلى جانب الحكمة والعظة والعِبرة.
هـ . الله وَيسي: نوع من الغناء تشتهر به منطقة گَرْمِيان Germyan (كركوك).
ونقل نيكيتين عن باحث يدعى (بلو) تعمق في دراسة المناطق الشمالية الشرقية من كردستان، قوله: "إن أشد العشائر الكردية بؤساً غنيّة في أغانيها وفي ألحانها، ولا ترنّ أقاصيص غنائهم، التي تسرد وقائع الحروب، عندما يتحركون صوب المراعي الجبلية، أو يتوقفون فوق القمم الصخرية فقط، بل بين حضريّيهم المستقرين في الوديان أيضاً. ويجمع المغنّون حولهم في الأماسي أهالي القوية، ويثيرون شجونهم بأغانيهم عن أبطال شعبهم من المحاربين القدماء، أو بقصائد عن الحب والفراق وآلامه". (نيكيتين: الكرد، ص 223).
وكشف نيكيتين عن الصلة الوثيقة بين الأغنية الشعبية الكردية وقيم المجتمع الكردي، قائلاً: "ويَعزو الرحّالةُ والعلماء جودةَ الأغاني الكردية وسُمُوَّها إلى صفات الفروسية التي يتحلّى بها الكرد أنفسهم. ويقول (مار): إن لم أكن مخطئاً، فإنهم [الرحّالة والعلماء] لم يوجّهوا السؤال التالي إلى أنفسهم: ألا يمكننا تفسير الأمر على العكس بأن هذه الصورة الرومانتيكية والبطولية للكرد تتجلّى في هذه المواضيع، وعبر الثورة الشعرية البليغة التي توارثوها منذ الأزمنة السحيقة في القِدم؟ ". (نيكيتين: الكرد، ص 224).
والأغنيات الكردية الفولكلورية شفهية، انتقلت عفوياً من جيل إلى جيل عبر الذاكرة الجمعية، وفي كل جيل ثمة أناس من فئات مختلفة (رجال، نساء، شيوخ، شباب) يمثّلون الذاكرة الجمعية على صعيد الأغنية، فيحفظونها عن ظهر قلبٍ كلماتٍ ولحناً، رغم طولها، وتشعّب موضوعاتها، وتحوّلات السرد والحوار فيها، وهؤلاء كانوا- وما زالوا- الحماة الحقيقيين للتراث الكردي الغنائي، ومعظمهم من بيئات رعوية وريفية فقيرة، تَرى ملامح الفاقة والبؤس بادية على وجوههم وفي هيئاتهم، لكن ما إن يضع أحدهم يده اليمنى على أذنه- كما هي عادة الكرد عند الغناء- حتى تتدفّق العبارات من بين شفتيه متتابعة ومتسلسلة، لا يخطئ فيها ولا يتعثّر، ويندفع صوته متهدِّجاً عالياً مسرعاً تارة، ويتباطأ هادئاً تارة أخرى، ورغم غلبة الوقار على المغنّي الكردي حينما يغنّي، حتى لكأنه يؤدّي طقساً دينياً مقدساً، فإنه لا يتمالك نفسه من الاندماج في أحداث الأغنية، فيتمايل يمنة ويسرة، ويلوّح بيده من جهة إلى أخرى.
وكان بعض الشعراء الشعبيين يتجولون بين القرى والقبائل في أوقات معيَّنة من كل سنة، فيلتفّ حولهم الكبار والشباب، ويصغون إليهم باهتمام، وما زلت أذكر الشاعر الشعبي الكهل الجوّال (جَوْهر)، كان يرتاد منطقة (جُومَه) في حوض نهر عفرين شتاء، قادماً من الشرق، وما زلت أذكر احتفاء جدّتي مَدو (مدينة)- رحمها الله- وأخوالي به، وجلوسه في الصدر قرب المدفأة الجدارية (پِخارَه) Pixare العامرة بقطع الخشب المتقد، واندفاعه في الأغنيات الملحمية العريقة (مَمى آلان، دَلال، جَبَلي، سيامَنْد، إلخ)، مع رشفات كؤوس الشاي المعطَّر بالدارصيني (دارچِين)، وبعد أن كبرت، وقرأت عن الشاعر اليوناني الجوّال هوميروس، صاحب ملحمتي (الإلياذة) و(الأُوديسا)، تذكرت الشاعر الشعبي الجوّال جوهر، وعرفت أنه كان للكرد أيضاً هوميروسهم، وكانت لهم أيضاً إلياذتهم وأوديساهم، وقد قال مينورسكي في هذا المعنى: " الأدب الشعبي غنيّ جداً عند الأكراد، فيه حكايات غزيرة عن التقاليد القومية، وفيه الأغاني والملاحم". (مينورسكي: الأكراد، ص 39).
وفي حدود ما بين يدي من مصادر أجد أن الكردولوجي نيكيتين أبرز من اهتم بالأغاني الكردية الشعبية، وأكثر من توسّع في الحديث عنها، باعتبار أنه عاش بين الكرد الرعويين فترة لا بأس بها، وسمع المغنّين الشعبيين عن قرب، إنه يقول: " أوّلُ ما يحيّر المرء لدى قيامه بدراسة الأدب الكردي والتحقيق فيه، هو نضج الفولكلور الزائد عن الحد، على تعبير البروفيسور فيلجيفسكي". (نيكيتين: الكرد، ص 392).
وذكر نيكيتين أن فيلجيفسكي أرجع ظاهرة النضج الشديد للفولكلور الكردي إلى البعد الطبقي والنظام الإقطاعي؛ إذ إن قدراً غير قليل من القصائد يتمحور حول شخصيات قبلية وإقطاعية بارزة. لكن نيكيتين يختلف معه في ذلك، ويرى أن أسلوب الطبقة السائدة وأسلوب الجماهير الشعبية لا يختلفان في الأغنية الكردية إلا قليلاً، ويرى أيضاً أن المغنّي الكردي الجوّال عندما كان يتغنّى بمآثر شخص من النخبة إنما كان يفعل ذلك لإيمان الجماهير بأن ذلك النخبوي كان يجسّد روح الجماعة وهويتها، سواء أكانت في دائرة القبيلة أو الشعب/الأمة. (انظر نيكيتين: الكرد، ص 397).
والحقيقة أن لنيكيتين نظرات ثاقبة في الأغنية الكردية الشعبية، إنه أورد مقاطع كثيرة من الأغاني القصيرة المعروفة باسم (لاوِكْ) Lawik، أي الشاب العاشق، وعقد مقارنة بينها وبين الشعر العربي الجاهلي (قبل الإسلام)، فقال:
" وفي الوقت الذي يكتفي فيه الكرد في نظم أشعارهم الغنائية بنمط لا يجمعه وزن ولا تنظمه قاعدة، نمطٌ شديد سريع، دونما خضوع إلى أيّ أسلوب أو قانون، فإن العرب- وعلى العكس منهم- يتحدثون وهم يبنون أحاسيسهم بصورة يتجلّى فيها التفكير والتأمل، ويصوغون كلامهم في إطار كامل التحديد، دون أن يتخلّوا عن ذلك حتى النهاية، حتى إن القصائد العربية كلها متشابهة فيما بينها، ولا فرق بينها إلا من حيث وجوه الاختيار الشكلية، لقلّة أو كثرة الاستراحة، وفروقاً طفيفة في التعبير؛ في حين اللاوكات الكردية متحررة من كل قيود التصنيف، ولا يشبه أحدها الآخر، إلا من حيث تماثل المواضيع الأصلية، أما في اختيار الشكل والصياغة فلكل منها حرية تامة في الانتقاء". (نيكيتين: الكرد، ص 430).
والأهم من هذا تحليل نيكيتين للفروق بين الشعر الشعبي الكردي والشعر العربي، ووجهة نظره في العوامل البنيوية المؤثّرة في هذا وذاك، إذ يقول:
" إلامَ ينبغي أن نعيد هذا الاختلاف الذي أشرنا إليه آنفاً؟ إننا نعتقد أنه باختيارنا العربَ البدو لِما قبل الإسلام من جهة، والكردَ القاطنين في بيوت الشعر من جهة أخرى، من أجل المقارنة بين البيان الغنائي لدى الطرفين، نكون قد أخذنا بعين الاعتبار بيئتين وحالتين روحيتين متساويتين ومتماثلتين- لَمْسَ اليد- في مستوى التطور الاجتماعي. وفي هذه الحالة يتحتّم علينا أن نعيد جمال النظم في الشعر الغنائي العربي- مهما كان بدائياً بالقياس إلى الفوضى التامة في الشعر الفولكلوري الكردي- إلى سبب آخر غير السبب في التناقض الموجود بين خصائص الشعبين. فالعرب الذين هم من عنصر سامي، رغم أنهم بسبب من خصائصهم البدوية والعشيرية قوم فرديون يبحثون بطبيعتهم عن المنازعات والمشاكل، هذه الصفات الموجودة في الكرد كذلك، إلا أن في طباعهم [العرب] إحساساً بالنظام والاستقرار، وحالة من حسبان الأمور ورعاية القواعد والأصول ينعكس في شعرهم الشعبي، في حين أن الكرد الآريين (أو الآسيويين القدماء) يفتقدون كل هذه الأوجه". ( نيكيتين: الكرد، ص 431).
ويضيف نيكيتين موضّحاً: " إن رعاية الوزن والقافية وقواعد العروض أمر مشهود تماماً في الشعر العربي، ويسهل قراءته بالتقطيع على أساس التفاعيل، في حين أن أمراً كهذا غير متيسّر للشعر الفولكلوري الكردي. بَدَهي أننا نقصد بالشعر الفولكلوري الكردي البيت أو الشعر الفولكلوري الحقيقي، وليس الأشعار الكردية المنظومة على أساس العروض تقليداً للشعر العربي الفارسي". (نيكيتين: الكرد، ص 431).
وكما هو شأن الدارسين الذي يسبرون أعماق الظواهر، ولا يكتفون بالوقوف عند التوصيف، يعمّق نيكيتين تحليله قائلاً: " وكيفما كان هذا الاستعراض للفولكلور الكردي، فإنه يعيدنا إلى الملاحظات التي كنا قد أبديناها في شرح وتفسير العلل والأسباب التي أدّت إلى عدم فوز الكرد حتى الآن بدولة كردية قابلة للدوام، إنهم في السياسة- شأنهم في الشعر- لم يستطيعوا أن يتجاوزوا المرحلة القَبَلية المبنيّة أساساً على الفردية وعدم الانتظام، ويبدو أن طبيعتهم لا تنسجم بالقدر المطلوب مع الانتظام وقبول التنظيم في أيّ مرفق من مرافق الحياة". (نيكيتين: الكرد، ص 431 – 432).
إن آراء وملاحظات نيكيتين هذه جديرة بقدر كبير من الاهتمام، وينبغي أن يقف عنها المرء وقفة متأنّية، فالرجل- حسبما هو معروف- باحث واسع الاطلاع بثقافات غربي آسيا، وهو متّزن في عرض الموضوعات التي يتناولها، إضافة إلى أنه خبير بالشخصية الكردية، وصحيح أنه يتعثر أحياناً، ولا يصيب الهدف بدقة في بعض آرائه، لكنه عموماً قادر على توجيه الانتباه إلى قضايا إشكالية في الذهنية الكردية، وعلاقة ذلك بتخلّف الكرد عن جيرانهم الفرس والعرب والأرمن والترك على الصعيد السياسي العام.
ومن الظاهرات المثيرة للانتباه في الغناء (الشعر الشعبي) الكردي موقع المرأة فيه مضموناً ودوراً وأداءً، فقسم كبير من الشعر الشعبي الكردي يدور حول المرأة والحب، أي أنه شعر غزلي المضمون، وثمة في هذا المجال شبه شديد بينه وبين الشعر العربي القديم، والأغلب أن هذه الظاهرة موجودة في الشعر الشعبي لمعظم الشعوب، لكن الخصيصة التي أجدها في الشعر الشعبي الكردي، ولا أجد لها مثيلاً في الشعر العربي القديم، هو أن الرجل لا ينفرد فيه بدور البطل، وإنما تشاركه المرأة في ذلك الدور، فتقول مقاطع كثيرة تتغزّل فيها بحبيبها، لكن على نحو عفيف ورزين، وبما ينسجم مع القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع، وتشيد في الوقت نفسه بخصال حبيبها شكلاً وقيماً، وقد تُجري مقارنات بينه وبين آخرين، لإبراز مزاياه التي يتفرّد بها.
ولهذه الظاهرة علاقة وثيقة بموقع المرأة في المجتمع الكردي، وقد مرّ أنه موقع رفيع، وأن المرأة تحظى فيه بكثير من الحرية والأهمية، ولا يخفى أن المرأة تقوم، عبر الأغاني، بتعزيز قيم الرجولة والبطولة في المجتمع، وتنتقل من مواقف (الانفعال) السلبي إلى مواقع (الفعل) الإيجابي المؤثّر، وأبرز مثال يحضرني هو الملحمة الشعبية الكردمانجية (دلال/دَوْريشى عَبْدي)، فإن القسم الأعظم منها يُنْشَد على لسان بطلة القصة (غَزال). وعدا هذا فإن كثيرات من النساء الكرديات يحفظن الشعر الشعبي عن ظهر قلب، ويغنّينه في مجالس الرجال، وقال نيكيتين في هذا الصدد: "إن غالبية الأشعار الوجدانية الكردية تتغنّى بالمرأة، بل إن جزءاً كبيراً من الأغاني والأناشيد والقصص الشعبية من نظم النساء وتأليفهن". (نيكيتين: الكرد، ص 174).

المراجع
1. ألكسندر كراب: علم الفولكلور، ترجمة رشدي صالح، وزارة الثقافة، القاهرة، 1967م.
2. باسيلي نيكيتين: الكرد، ترجمة الدكتور نوري طالباني، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثانية، 2001م.
3. دانا آدمز شميدت: رحلة إلى رجال شجعان في كردستان، تعريب جرجيس فتح الله المحامي، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1990م.
4. دبليو آر . هي: مذكرات دبليو آر، ترجمة فؤاد جميل، الدار العربية للموسوعات، بيروت، الطبعة الأولى، 2008م.
5. دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت محمد، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.
6. زنار سلوبي: في سبيل كردستان: ترجمة ر. علي، رابطة كاوا للثقافة الكردية، بيروت، الطبعة الأولى، 1987م.
7. الدكتور عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، دار النهضة العربية، القاهرة، 1967م.
8. الدكتور عبد الغني عماد: سوسيولوجيا الثقافة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2006م.
9. ليدي درور: طاووس ملك اليزيدية، ترجمة رزق الله بطرس، دار الورّاق للنشر المحدودة، لندن، الطبعة الأولى، 2008م.
10. هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله المَلاّح، المجمَّع الثقافي، أبو ظبي، 2001.
ــــــــــــــــــ
د. أحمد الخليل / في 1 ـ 8 ـ 2010
dralkhalil@hotmail.com