بويتات والوطن ملحق

فرهاد فيلي
موسوعة صوت العراق،
30/12/2004

كنا صغارا ، نلعب في الحقول الخضراء الممتدة على مرمى البصر ، نمرح بجمال الطبيعة دون أن ندرك تفاصيل ما نحن متمتعين به ، كان الادراك صغيرا والمتعة والتلذذ كبيرين ، كان الوعي صغيرا والاحلام كثيرة ، واروع ماكان يجمعنا نحن الشلة الصغيرة من الاصدقاء هو ان تتقاذفنا كرة كانت هي المركز في ملعب نتجاذب اطرافه ، راكضين شمالا وجنوبا ، شرقا وغربا ، والى حيث تنقذف الكرة كنا نلهث لأن نلاعبها بالارجل ، ومن ثم لتعلو وتهبط ، تبعا لضربات الاقدام العارية الصغيرة ، وكانت من حسن حضنا من النوع المطاطي اللين التي لم تكن لتوذي وهي من ملكيات ابناء متيسري الحال الذين كانوا يأتون على دراجاتهم الى الساحة . كنا بعدها نرمي باجسادنا العارية في ماء النهر لنغسل نوايا لم تظهر بعد ، وعلى ضفاف ذلك النهر كنا نرسم بعض من احلامنا . نبني بويتاتنا التي كانت لم تتجاوز اشكالها أجمل بويتات المدينة ، اذ لم يكن الخيال ولا الحلم قد وجد اشكالا لقصور قد رأيناها مع الايام منتصبة الهامة فوق رؤوسنا .
كانت سياراتنا التي كنا نصنعها من الاسلاك الملونه وسداد قناني المشروبات الغازية ، لم تكن تتجاوز غير العربات التي كنا نتصرها ، وهي العربات الخشبية الكبيرة وبعض السيارات الصغيرة الفارهة لعلية القوم ، لكننا ومع نمو الجسم وتطور الوعي المبكر لدى بعضنا ، حيث تحول البويت الصغير الى حجم الوطن وخارطته التي لم نكن نفقه منا غير النشيد الصباحي ، موطني .. يا موطني ..لكننا ها نحن نرسم أبعاده ونحلل اطياف ساكنيه ومصادر قوتهم اليومي ، لتأخذنا المسؤولية المبكرة الى نوع من المغامرات من أجل هذا الوطن ، ليصبح دين وديدن هذا الوعي ، وبتنا بمقياس الوفاء اليه ، نموت ونحيا ، بل بحبه صرنا نتشرب المبادى والاخلاق العليا ، وبتنا ندرك ما معنى حب الوطن من الايمان ، وصرنا ندرك لماذا استشهد الاولون ، واطبقت جدران السجن على آخريين صاروا رموز ومعلمي نضالاتنا اليومية ، حيث ما حولتهم السجون الى اساتذة الفكر والمبدأ .
كنا صغارا ووجدنا أنفسنا كبارا نتعارض وتحويل الوطن الى سجن كبير ، بل ان يمتد السجن الى حيث امتداد الوعي ، لأن الاحساس بالوطن صار خارج البويتات الصغيرة ، متجاوزا حدود القصر، المحلة ، الشارع والمدينة ، وليصبح الانسان وحريته ، الوطن واستقلاله ، من القيم الاساسية التي على اساسها توضع الابعاد ، وتتكون الاشكال ، في ذات الوقت كان الرئيس السابق قد امتلك الوطن ، واستملك الانسان ، تحول بويته الصغير الى قصور فيها من الحاشية والاتباع ، بل كانت مرافق الوطن يتم تفصيلها بمواصفات أناه ، حيث كان لوحده يستقطع نسبته من مدخول النفط ، وهو العارف بمقدرات بيت العراقيين ، كان لوحده يرسل الوفود حيثما يشاء محملة باللوز والجوز ونفائس العراق ، كان بايعاز منه او من مقربيه تزحف البشرية قطيعا تملؤ الشوارع رافعة راياتها واعلام الخنوع وصور البعل الكبير ، اله الموت والحياة ، الخلق والانبعاث ، كان لوحده يقول للشئ كن فيكون ، وبمراسيم سلطانية تتكون منظمات وتسقط قيم ، كان لصورته فقط ولها فقط ان تعتلي كل الشوارع ، الساحات ، الحدائق ، روضات الاطفال وحتى المقابر ، اذ كان على الموتى وهم على علاتهم يهمهمون ويصلون بكرة واصيلا ، وبحمده يستنشقون رائحة الموت ، كانت الحاشية ، وزراء ، مدراء ، وكلاء ، حتى صبية المدارس والروضات بأمره يتحركون والكل واشي منافق دجال ، كانت المراسيم تحمل بصمته ، وصورة خاتمه الملائكي ، كان لشدة ورعه وتقواه ، وحملاته الايمانية ، يكتب بدمه احرف الكتاب الجليل ، ليمسد بيده أو بيد ابنيه اجساد صبايا العراق ، ليرسم عليها بريشته شرف الماجدات.
كان اعانه الله في محنته ، يقرب الهوامش ، والمصنوعين من ورقه ليخلق فيهم الارواح ، ويعلي من شأنهم ، وهم له في الولاء والطاعة ، يقربها ويتوصى بها ، لتمتد خطوطه في كل مكان ، وصار لك من تولى رسم خط وعلى نسغه ، حاشية واتباع ومريدين يسبحون بحمده تسبيحا ، هذا له سيارة فارهة ، وذاك له قطعة ارض ، وتلك لها من الحلي مايثقل وركها ، وهذه لها ما يكبر صدرها ، وذاك له قصرا معادلا لجمال زوجته ، وتكاثرت السيارات والقردة والاقزام والمخصيين ، كل بحمد سيده ذاكر ، وكانت الحاشيات والاتباع تقررها درجة الولاء ، ونوعية التقارير ، ان كانت شفهية فبألف درهم ، وان كانت تحريرية فبألف ألف منها ، وان كانت مزينة بأنثى بألف من الدراهم الذهبية ، وان اودت بحياة مجموعة او عائلة ، وان استشرت شرفا لمن لم يخضع ، كانت بموازين أخرى ، صارت العشيرة ملكا ، الحسناوات زينة ، القصور هبة ، زوجات الاخريين وبناتهم جاريات من والاه ، فبأي آلأي تتحدثون .
نعم كان الجلاد الاكبر ، وكان الضحايا أكثر ، وتماثلت قيم ، وتشبه به كثيرون ، وتشبث بعباءته أخرون ، وبات الكثيرون من ضحاياه يتصفون ويأخذون من مواصفاته ، ولم تعد تميز بين الجلاد وضحاياه ، ولم تعد تعرف اي العباءات هي الاصيلة ، واي الاحصنة هي لم تتشوه بعد ، واي الابتسامات تركن اليها ، وايهما الباهتة تثق بها ، كلها بلهاء ، صفراء ، فكثر الانتهازيون ، والمتسلقون ، منذ زمن الاولين ، وهم يتبعون ، ليدخلوها من كل فج عميق ، بويتات ، بويتات ، مجاميع ، فرادى ومجاميع ، ضاعت المقاييس واختفت قيم ، وكثر الولاء .
هل بصمت ياسيدي ؟ ان قلت نعم ، لم تعد كذلك فانك واليت وعلى اساسه ستكبر وتنعم .
هل وشيت ياسيدي وكتبت تقريرك الحزبي على رفاقك ؟ بها ستعلى ، لأنك ستنسف مفهموما اصيلا للعمل الجماعي ، وبذلك سينفردون ، وبه سيتشبثون ، ولأجل مصالحهم سيلهثون ، وهم ديدن تفتيت عمل الجماعة ويسهل بذلك ضربهم ، فدينهم دينارهم .
هل رفعت راية الاستسلام والطاعة له سيدي ؟ فانت بذلك لم تعد من أهل الحق وكلهم له كارهون.
مع اي الخطوط تواصلت ، ومن منها واليت سيدي ؟ فانت بذلك كنت ساهمت بتفتيت الوطن الى بويتات تنقسم بين الخطوط ، كل بظله سائر ، وانت التائه بين كلها .
وتقول بأنك بالحق ناديت ، لا سيدي ، الكل متشبث ، فمن منا كان بلا خطيئة ليرمي الأخر بحجر وان لم تكونوا كذلك فلنبدأ بانفسنا ، ونحن على ابواب عام جديد ، نتمنى لكم يامعشر بني البشر ، في عراقنا الجديد ان يكون العراق وطنا للجميع لا ملحقا للبويتات التي كنا عليها صغارا قائمون ، أن ترفقوا بالآخر الذي لا حول له الا طيبته ، صدقه وقوته اليومي ، ومجموعة قيم تعلمها من المعلمون الاوائل ، وهاهم في المسيرة متقدمون ، يشيرون بالابهام ، فتخر الالهة ساجدة ، باتجاهات ومسالك الوطن سائرون بحثا عن منقذ هاد ، في وطن سيسع الجميع ، ويكبر ليسمو ويحتمي به الجميع ، وطن الجميع ، امواتهم واحياءهم ، حتى المقابر نأمل ان تنعم بالاخضرار ، وطن يكون للعربي فيه قيمته ، كما للكردي والتركماني والكلدو أشوري كرامته وكيانه ، وطن يكون فيه للمسلم مسجده ناصعا يخشع فيه لرب الاعليين ، ويكون فيه ليوم القداس ابهة يحضره الاولياء والقديسين ، ويكون فيه لكل ذي حاجة حاجته ، وكل عام وانتم بخيروالوطن للجميع ، كردستانه وجنوبه رغما عن الجاحدين .
كل عام وانتم بخير ، اللهم اشهد اني بلغت .