مقابر الأحياء الجماعية

زهير كاظم عبود
صحيفة الرافدين الالكترونية،
28/7/2004

شكلت المقابر الجماعية في العراق عنواناً كبيراً لفداحة الجرائم التي أرتكبها صدام حسين ، بالأضافة الى قرينة على الصمت الأنساني الكبير الذي وقفته الأمم المتحدة والعالم ، حين أخذت الدول الممثلة بمجلس الأمن تجد البحث عن أسلحة الدمار الشامل والسلاح الكيمياوي ، وتهمل الأنسان الذي أستهان به صدام وأرتكب بحقه المجازر الأنسانية بسبب كراهية شعب العراق له ، والمقابر الجماعية التي تضم أكبر مقابر للأحياء تم دفنهم فيها في العالم وتم العثور على رفات بعضهم ، بالأضافة الى كون هذه المقابر كانت تضم رجالاً ونساء ، شيوخ وأطفال ، شباب وعجزة ، تم دفنهم بملابسهم ودون تحقيق ودون محاكمة بل ودون أن يكونوا قد أرتكبوا مايعاقب عليه القانون ، كما أن مقابر أخرى لم يتم اكتشافها لحد الان ، وسجل الطاغية أنتقاماً خسيساً ونذلاً من أبناء شعب العراق الذين انتفضوا عليه في آذار
1991 .

لكن مقابر أخرى لحقت بشريحة كبيرة من شرائح العراق المناضلة وصارت جزءاً من تاريخها ، تم التخطيط لها بأمعان وتم تنسيب من يتخصص بها ، وقد اهتمت السلطة الشوفينية بها منذ أول أيام أستيلائها على السلطة ، وهم الكرد الفيلية .

وشنت السلطة الصدامية حملاتها الشرسة بواسطة ذيولها وعناصرها وفق حجج واهية ، واتخذت من ذريعة اقدام شاب من الكرد الفيلية في فورة الغضب العراقي على التصدي لبوق السلطة الصدامي طارق عزيز قرب الجامعة المستنصرية كسبب واهي ومكشوفللأنتقام من الأكراد الفيلية ، أقدمت السلطة على تشريد وتسفير الالاف من العوائل الكردية من الفيلية وأسقاط جنسيتهم عنهم دون ذنب ، ودون أي قرار قضائي ودون أي منطق او سند أو نص دستوري يبيح للسلطة ذلك .

وليس هذا فقط فقد أقدمت السلطة بواسطة أجهزة الأمن على مداهمة بيوتهم ليلاً أو نهاراً في ساعات غير معلومة وبطرق غير قانونية والتفتيش عن شبابهم كأي مطلوبين للعدالة ، ولو تمعنا في الأسلوب الذي يقضي بتفريق الشباب الذكور من أعمار
15 الى 40 سنة حيث تم اقتيادهم الى السجون دون جريمة ودون تهمة ودون قرار من جهة قضائية مختصة ودون علم القضاء ، كما تم أقتياد قسم منهم ليكونوا وسيلة من وسائل فتح حقول الألغام الآيرانية في الحرب التي كانت دائرة ، فكانوا وقود للألغام ، في حين أرسل آخرين ليكونوا الاجساد التي تجري عليها التجارب الكيمياوية والبايلوجية القاتلة .

أبعدت العوائل والنساء والأطفال الى منطقة سجن نقرة السلمان الصحراوي النائي ، وتم تحديد حركتهم ومعيشتهم فمات الكثير منهم جراء الطقس والحشرات والضياع في الصحراء الجنوبية القاتلة ، كما تم حجز وأعتقال المئات منهم في سجن ابي غريب دون قرارات حكم تبيح سجنهم ، وضمت زنزانات الأحكام الخاصة المئات من شبابهم الذين تمت تصفيتهم تدريجياً ، وتم تهجير مئات الالاف منهم الى آيران على أعتبار انهم مواطنين أيرانيين .

لم تستقبلهم السلطات الآيرانية لكونها تعرف حقيقة كونهم من أكراد العراق فأسكنتهم في مخيمات لاتقي من برد ولاتحفظ من حر ولم تنمحهم أيران حقوق اللجوء المعمول بها دولياً ولامنحتهم الوثائق التي تعبينهم على العمل والأنتقال والزواج والسفر ، فبقوا تحت رحمة الطقس وعذابات المخيم وسلطة الأمن وحياة التشرد واللاجنسية واللا وطن ، لم تلتفت لهم منظمة أنسانية ولاألتفتت لهم الأمم المتحدة ولامجلس الأمن رغم هول مأساتهم .

قامت السلطات العراقية الشوفينية ببيع عقاراتهم بأبخس الأثمان لعناصر الأمن والمخابرات والحزبيين ، ووزعت أموالهم المنقولة كأسلاب على العناصر الأمنية والبعثية التي سجلت نصراً كبيراً عليهم .

وسلبت منهم جميع وثائقهم التي تثبت وطنيتهم وعلاقتهم بالعراق وبقوميتهم الكردية ، وسلبت منهم أيضاً كل مايتعلق بالحاجات الأساسية للأنسان وكل مايمكن أن يحمله معه في مثل هذه المواقف ، وخرجوا من العراق سيراً على الأقدام يحملون شيوخهم وجثث موتاهم الى المجهول لايملكون غير ارواحهم العراقية الطاهرة .

باشرت السلطات العراقية بأصدار قرارات أعدام شبابهم بشكل جماعي وتفننت في تعذيبهم قبل أن يلقوا حتفهم ، وأقدمت السلطات العراقية الشوفينية في الزمن الصدامي البغيض على بعثرة قبورهم ودفنهم في مناطق مجهولة من العراق .

وبقيت مصائر الناس الذين اختطفتهم السلطة البعثية وعناصرها المجرمة مجهولة ، فلم يتحرك ضمير واحد يشير الى مصير هذه الناس ليوقف عذابات الأمهات والأطفال في الأنتظار الطويل !! وبقيت أماكن قبور من قتل منهم سواء تحت التعذيب أو بقرار من الطاغية مجهولة ، لم يتحرك ضمير واحد متحجر ليدل على قبور هذه الناس ويجعل قلوب الأباء والأمهات تتوقف عن الحزن بمعرفة مصير فلذات أكبادها ، وهو يعرف علم اليقين أن لاذنب لهم في قوميتهم الكردية ، فلم يكونوا عرباً وأبدلوا قوميتهم ، وهو يعرف علم اليقين أنهم وجدوا انفسهم من أتباع المذهب الجعفري ومحبة آل البيت ، وهو يعرف علم اليقين أنهم ضحوا من اجل العراق وأعطوا وقدموا للحركة الوطنية في العراق ككل ، ولم يختصوا بالعطاء لقوميتهم وحركتهم الكردية المسلحة .

وبعد أن سقط الطاغية وأنتهت لعبته ودوره وفاعليته في العراق والمنطقة وتخلى عنه صانعوه ، وبعد أن تم القبض عليه و تقديمة للمحاكمة ، لم تزل العوائل الكردية من الفيلية تستصرخ ضمائر العراقيين في أستعادة العوائل التي اكلت الخيام اعمارها ودمر الطقس على مناطق الحدود انفسها وشتت أرواحها ، هذه العوائل العفيفة والمستورة والتي لاتستحق كل هذا العذاب والظلم ، وبعد أن سقط الطاغية لاأشارة لوقوف أحد مع الكرد الفيلية ، ولاالتفاتة تدلل على الأهتمام بمعاناتهم ومحنتهم ، فلم يلتفت لهم مجلس الحكم ولاالحكومة المؤقتة ولاالأحزاب الوطنية ولاالشخصيات المهتمة برسم معالم العراق الجديد وكأنهم باتوا منسيين ومهمشين وكأن الجميع راضي عما نالهم من ضيم .

وبعد أن سقط الصنم لم يفكر أحد في اسلوب أو وسيلة لأستعادة اخوتنا وأهلنا من الكرد الفيلية بطرق تليق بهم وبنضالهم وبتضحياتهم ، وبما يليق بمكانتهم الوطنية وماقدموه للعراق ، وأن نتذكر أن الجنسية العراقية هي من تتشرف بهم وليسوا هم ، فالجنسية رابطة قانونية بين المواطن وبين الدولة ولم تكن في أي حال من الأحوال لاالجنسية ولاالوطن أغلى من الأنسان .

الكرد الفيلية الذين انتزعت اموالهم وممتلكاتهم وعقاراتهم ينظروا بعيون دامعة مايجري في العراق فلم يتذكرهم أحد ، ولم يتعاطف مع مصيبتهم أحد من غير رجالاتهم ليتفرد في معالجة معاناتهم وجراحهم وبلوتهم ومصيبتهم ووجعهم .

العوائل التي تشتت في مجاهل الأرض منهم من يعيد لها بهائها وجمعتها ؟ والعوائل العفيفة والعطرة من بنات العراق الكرديات من الفيلية من يعيد لهن أيامهن وسكون ارواحهن واختلاطهن في مجتمع النساء في العراق ، وبيوتهم الجميلة والمتواضعة التي بنوها وأشتروها بعرق جبينهم وحلالهم وكدهم من يعيدها لهم بسرعة لاتقتلها النصوص القانونية ولاتعرقلها الأجراءات الروتينية ، لم تكون القرارات ضدهم الا حاسمة ، ولم يقف الروتين في سلبهم ممتلكاتهم وخصوصياتهم فلم لايصير أعادة حقهم بقرارات حاسمة تتخطى الروتين وتختصر المحنة .

المخيمات التي تشبه قبور الأحياء والتي يسكنها قسراً الكرد الفيلية بالالاف آن الآوان لآستعادتهم بدلاً من هذه الحياة المروعة ، وآن الآوان أن نؤجل الكثير من طلباتنا ونتمعن في محنة الكرد الفيلية ، وأن نضع المرهم العراقي فوق جراحهم فهم يستحقون منا كل شيء فقد اعطونا كل شيء .

خاص الرافدين