ضحايا جرائم التطهير العرقي، الكورد الفيليون نموذجاً ! الجزء الثالث ...

د. مهند البراك
موسوعة صوت العراق،
22/7/2004

شنّت سلطة البعث العفلقي باستلامها السلطة عام
1963، وتحقيقها لهدف اسقاط الحكم الوطني التقدمي وضرب وتحطيم الأحزاب الوطنية والنقابات والمنظمات الجماهيرية ، شنّت حملات شوفينية دموية ضد القوميات غير العربية والأقليات القومية والدينية، وسعت لتكريس وتعميق الطائفية. وقد سيق عشرات الألوف من النساء والرجال الى مسالخ الموت والسجون الكثيرة القائمة منذ السابق والتي اقيمت على عجل في النوادي الرياضية والملاعب والقصور، وتفننت بصياغة مفاهيم اتهام كانت تؤدي الى الموت بمجرد الأشتباه، كاتهام مثلث اعداء البعث : ش3 (شيوعي، شروكي(1)، شيعي)، واتهام الأعداء الألداء للـ (العروبة والأسلام) على حد وصفهم : (مسيحي موصلي)، (كوردي) و(كوردي فيلي) . . التي بضوئها السئ الصيت قتل الوف من البشر دون تهم محددة . .
بعد اعدامات الشوارع بتهمة مقاومة الأنقلاب، حيث تمت تصفية عوائل بكاملها في المناطق التي قاومت، وخاصة عوائل الفيلية في عقد الأكراد ببغداد، اضافة الى الأخرى .

ويرى الباحثون ان من الضروري الأشارة الى ان مقاومة الكورد الفيلية العنيفة لأنقلاب شباط الدموي، كانت اضافة لأهدافها الوطنية ـ مع الأطراف الشعبية الأخرى ـ في حماية مكتسبات الحكم التقدمي، كانت مقاومة للدفاع عن النفس، عن هويتهم العراقية ووجودهم في ارض الآباء والأجداد، امام الخطر الذي تمثّل باستلام غلاة القوميين الشوفينيين الذين اجمع غالبية الناس آنذاك على مخاطر ماسيقومون به بحق العراقيين على الأساس القومي المتعجرف والطائفي البغيض .

ثمّ بدأت سلطة شباط بشنّ حملة دموية وحشية على كردستان العراق تميزت ولأول مرة بطابع الأبادة الجماعية للقرى ولأحياء كاملة في المدن وللتجمعات السكانية الكردستانية على اساس العرق القومي ـ كورد ـ والأنتماء الديني بحق ابناء وبنات المسيحيين الكلدان والأيزيديين ( اضافة لعدد غير قليل من قرى ومدن الجنوب بتهمة ـ الأنتماء الطائفي ـ اضافة الى الصابئة والمسيحيين) وادخلت بذلك نظام العقوبات الجماعية والأعدامات الجماعية بتهمة الأنتماء القومي والديني والطائفي ـ دع عنك السياسي ـ التي لم ينج منها النساء والأطفال، اضافة الى مسح القرى والمدن بالأرض، الذي كان يجري لأول مرة بذلك الشكل الهمجي الواسع ( منذ سنوات ثورة العشرين، ثم مذبحة الآثوريين في ثلاثينات القرن الماضي . . التي كانت رغم وحشيتها اقل دموية واقل سعة بما لايقاس بما اقترفته سلطة شباط 1963 بتقدير الباحثين)، وبدأت بتطبيق جريمة التطهير العرقي النكراء المحرّمة دولياً، ووضعت اساسا وحشياً لجرائم التطهير العرقي الهائلة التي اقترفت بعدئذ على ايدي نفس الطغم وورثتها وعلى النهج (العروبي) الشوفيني ـ والعرب منه براء ـ، فكراً وممارسة .

ثم بدأت بتغيير قانون الجنسية العراقية مجدداً والغت بموجبه ماتحقق من اجراءات تقدمية في عهد ثورة تموز، ولتطلق يدها باسقاط الجنسية العراقية عن (غير المرغوب بهم) وعلى اساس (مقتضيات المصلحة العامة) لتعود الى اعتماد الجنسية العثمانية في منح الجنسية العراقية ـ التي تجاوزتها قوانين ثورة تموز
1958 ـ والى اسقاطها عمن حاز عليها في عهد الجمهورية الأولى، الأمر الذي اوقع الفيليين بمحنة جديدة تمثلت باستمرار وجودهم القلق المُهَدد في وطنهم من جهة، اضافة الى ما واجهه نشطاؤهم السياسيون الذين ان فلتوا من الموت فانهم لم يفلتوا من السجون والتشرد بلا جنسية، مواطنين بلا وطن .

ورغم كلّ الصعاب بقى الكورد الفيليون بأعمالهم ونشاطهم وامكاناتهم التجارية والمالية في بغداد والمدن الأخرى ـ اضافة الى مشاركتهم الفعلية ـ قاعدة مالية وسياسية وجماهيرية قوية للثورة الكردية المندلعة في ارياف وجبال كوردستان العراق، وللديمقراطية في العراق. وقد احتل بجدارة عدد من وجوههم نساءاً ورجالاً، مواقع هامة في صفوف الثورة الكردية واحزابها القومية التحررية اضافة الى الأحزاب الوطنية عامة.

وبعد انقلاب تموز
1968 ومجئ البعث العفلقي ثانية واتباعه اسلوباً اكثر مراوغة وديماغوجية في التعامل ومواجهة القوى الوطنية، توصّل الى الموافقة على الجلوس الى مائدة المفاوضات مع الثورة الكردية المتصاعدة، والتحضير لأعلان بيان 11 آذار 1970 الذي شكّل اعلانه بعدئذعيداً حقيقياً للكورد (ولعموم العراقيين) ، حين تم الأعتراف رسمياً ولأول مرة بحقهم في الحكم الذاتي ضمن اطار الدولة العراقية .

وفي الوقت الذي اعتبرت غالبية القوى الوطنية العراقية ذلك التقارب خطوة كبيرة تؤشّر لفتح طريق لنجاح نضالها وركيزة هامة نحو الديمقراطية في العراق . قامت سلطة البعث العفلقي بهجوم اعدت له بدقة وجاء مفاجئاً على احياء الكورد الفيليين في بغداد وخانقين والكوت وغيرها من المدن التي تسكنها عوائل فيلية، وقامت قوات خاصة وبشكل سريع بالقبض على كلّ فيلي وفيلية ضمن قوائمها المعدّة واحرقت اوراقهم الثبوتية ووثائق عائديتهم العراقية، وحمّلت مئات الشاحنات العسكرية بعشرات الآلاف ممن وُجد والقي القبض عليه (
2) من ابناء وبنات العوائل الفيلية بشيوخها ونسائها وحواملها واطفالها ومرضاها ، بملابسهم فقط دون ابسط الحاجات . . والقت بهم على الحدود العراقية الأيرانية مطلقة عليهم النار لأجبارهم على اجتياز الحدود نحو ايران، وسط الصراخ والعويل والبكاء على النفس وعلى الوطن المفقود والخوف من الغربة !
لقد جاءت تلك الضربة الغادرة للفيليين، واطراف القوى الوطنية ( منشغلة كلّ منها بهمومها) في ظرف آفاق كانت تتفتح ببطء وسط انواع العراقيل، بعد سنوات الستينات الحافلة بالمصائب، الصاخبة بالنداءات، التي فتح البعث العفلقي ومَن ورائه في مطلعها حمم الموت والدمار واندحر، ليعود في نهاياتها (فاتحاً صفحاته الجديدة كما ادّعى)، في وقت زاد ادراك القوى الوطنية العراقية فيه، وهي تعيش الألم وتلملم جراحاتها العميقة، بأن لا معين لها سوى تعاونها وسعيها لكسب الشعب وتمثيل ارادته .

ويرى كثيرون ان القوى التحررية الكردية مدعومة بالقوى الوطنية آنذاك، كانت مشغولة بتثبيت اسس للحكم الذاتي الذي كان مازال وعداً ، وتحاول ان لاتنجر الى صراعات قد تنسف ماتجري التهيئة له. اضافة الى ان القوى الوطنية والشيوعي والديمقراطية مشغولة بـ (حوار الجبهة) الذي كان (الأشقاء) يدفعون بقوة نحوه رغم التضحيات، الأمر الذي جعلها تحاول التغاضي عن تجاوزات كانت تجري (سعياً لأفق افضل ـ كما جرى التنظير حينه ـ)، اضافة الى الأخرى التي كانت محطمة تواًّ وتلملم جراحها.
جاء اقتلاع عشرات الآلاف من الكورد الفيليين من قلب العاصمة بغداد في ليل بهيم، والجميع تقريباً كان مشلولاً بهموم وموازنات اكبر ان صحّ التعبير، وان اهتم بشئ، كان غير قادر بكفاية وقد لايلوي على شئ آنذاك، في بغداد والمدن الأخرى التي جرى فيها ذلك الهجوم بتقدير عديد من المراقبين . بل كانت كردستان العراق تترقب لعرس نصر انتظرته برغبة عارمة بعد ان حرمت منه طويلاً، كما مر. ويرى عدد من المحللين ان تلك الضربة الوحشية، كانت مدروسة بكل شيطنة على اساس ان لايتحول (تنازل البعث) بالأعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي، الى حقوق ثابته للكورد وان لايؤدي الى دفع العملية الديمقراطية في عموم البلاد الى الأمام (بمنطق حقود مغالط كان يفيد: انتم تريدون اخذ كردستانكم، ونحن لنا كل العراق) (
3). في اشارة الى ان الدكتاتورية كانت ماضية منذ البدء في مخططها الشوفيني الداعي الى (تنقية اعراق) الجزء العربي من العراق ـ كبداية على الأقل كما رددت ـ من (الأغراب الأنجاس) وان (موضوعة ديمقراطية البعث، والطريق الخاص للثورة) لم تكن الاّ خطة كانت ترمي الى بقائه وحده في السلطة، وكي (لايخسرها)، بعد ان قدم ضحايا دونها؟! (4). لقد كانت الدكتاتورية بتلك الجريمة تطمئن غلاة المتعصبين الكلاسيكيين الغاضبين جراّء (تنازلها للكورد)، بانها ساهرة! على ( نقاوة العرق من الشوائب)، وفق الزمان والمكان، على حد تعبير متعصّب التطهير العرقي (الأكثر تحديثاً ) صدام التكريتي .

وعلى نفس الوجهة تلك، رمى اقتلاع الكورد الفيليين من بغداد الى قطع ارتباط الثورة الكردية بالعاصمة بغداد شعبيا واجتماعياً، في محاولة غبية لحصر الكورد في (منطقة الحكم الذاتي التي ستقرر) لتسهيل السيطرة عليهم من جهة ولتطويق تأثيرالحركة التحررية الكردية الديمقراطي وحصره في منطقة واحدة آنذاك، حتى مرحلة لاحقة . ويرى مراقبون ان الجريمة تلك هدفت الى محاولة تمزيق الحركة الكردية واحراج موقفها باثارة صعوبات و عراقيل لجعلها تنسحب من المفاوضات، وسط اجواء عراقية وكردستانية كانت تميل نحو السلام، وان لم تنسحب من المفاوضات فهي محاولة لأجبارها واجبار كل القوى الوطنية على السكوت عن تجاوزات، الأمر الذي سيؤدي الى اضعافها (
5) . الاّ انها لم تسكت، بل اصدر الفرع الخامس للحزب الدمقراطي الكردستاني في بغداد، بياناً ندد بتلك الجريمة الهمجية ودعى لأيقافها، في تحدي لمنع الأعتراض علناً في الظروف الحرجة تلك، واصدرت كل القوى الوطنية وخاصة الحزب الشيوعي بيانات ادانت تلك الجريمة ودعت الى صدّها ، فيما انطلقت مظاهرات صاخبة تجمّعت باعداد متزايدة في نهاية شارع الكفاح ـ ساحة التحرير، قمعت بعدئذ بوحشية سادية بعد ان اشتبكت مع قوى الأمن قرب سينما غرناطة، وبعد ان انتشرت اخبار واستنكار الجريمة تلك بحق الكورد الفيلية، الأمر الذي ادىّ الى توقف (تأجيل) استكمال الجريمة، بعد ان هجّر عشرات الآلاف حتى ذلك الحين، كما مرّ .

ومن الضروري الأشارة الى ان السلطة المجرمة قد قامت آنذاك، بالأستيلاء على اموال المهجّرين الكورد الفيليين، فيما وزّعت محتويات الدور والمحلات على افراد عصابات صدام ، كما نقل ابناء المنطقة وفق ما شاهدوه ولمسوه بانفسهم .

(يتبع)

مهند البراك
20/7/2004