الكرد الفيليون

زهير كاظم عبود
موقع ايلاف،
3/4/2004

ضمن التقسيمات القومية في العراق ترد كلمتين تشيران الى مجموعات بشرية تشكل جزء مهم من تاريخ العراق الحديث وتدخل ضمن القوميات التي تسكن العراق، هما الفيلية والشبك، يجمع بينها الأتهامات الباطلة في خلط الأنتساب والأصل كما يجمع بينها توحد المذهب، بالأضاقة الى ثبات وأصرار السلطات التي تعاقبت على حكم العراق على ظلمهما وتهميشهما والتنكيل بهما سوية، ثمة من يحسم أنتساب الأولى الى القومية الكردية، وثمة من يختلف في نسبة الثانية الى القومية الكردية، وينسبهم البعض الى خليط متشابك من القومية العربية والكردية والتركمانية والفارسية.
المجموعة الأولى التي حسمت الحقيقة والتاريخ قوميتهم وأصالة أرتباطهم بالأكراد هم الأكراد الفيلية، أما الثانية فهم الشبك في العراق.
وأذ فكرت السلطة العراقية البائدة في أجبار الشبك على تغيير قوميتهم بالنظر للأختلاف في نسبتهم وأختلاط قوميتهم، ومارست بحقهم أسوأ الأساليب والطرق التي تغير من قوميتهم أو خارطة مدنهم وقراهم البائسة، لإن السلطة نفسها لم تستطع أن تلعب لعبتها مع الأكراد الفيلية لعدم وجود خلاف لدى الباحثين في كرديتهم أولاً ولعدم وجود عشيرة أو فخذ منهم ينتسب للقبائل والعشائر العربية ليتم التعكز عليه ثانياً، بل العكس حدث من ذلك فثمة عشائر كردية غيرت قوميتها بعد أن سكنت مناطق الفرات الأوسط منذ زمن قديم.
ولأعتبارات سياسية كانت على الدوام تثار قضية التشكيك في قومية الكرد الفيلية، كما يشاع ظلماً أنهم ليسوا بأكراد وأنما نتاج هجين للمجتمعات المتجاورة بين ايران والعراق، وهذا الزعم لايعوزه المنطق والأثبات ولايخالف الحقيقة فقط، وأنما يشكل واحد من الأتهامات العديدة التي الصقت بالكرد الفيلية، الذين ارتكبوا بحق الشوفينيين الذين تسلطوا على الحكم في العراق جرائم ثلاث لايمكن أن تعفيهم من العقاب، أولها كونهم جزء لايتجزأ من الأمة الكردية التي يراد لها أن تتشرذم وتصمت وتضعف على الدوام وأن لاترفع صوتها تطالب بحقها وحقوقها، وثانيهما أنهم من أتباع آل البيت ومن تابعي المذهب الجعفري تحديداً ومايلاقيه أتباع هذا المذهب من محاربة وتهميش وأضعاف من قبل السلطات التي تعاقبت على حكم العراق، وثالثها أن الأكراد الفيلية أنخرطوا منذ وقت مبكر في الحركة الوطنية السياسية العراقية وخصوصاً في الأحزاب اليسارية منها بالنظر لشعورهم بالحيف والظلم الذي لحقهم من السلطات الحاكمة.
وهذه الأتهامات الثلاث التي تشكل قمة الفخر الأنساني لدى المواطن العراقي وتشعر الكردي الفيلي بالزهو والعطاء العراقي الأصيل، فأنها تبقى على الدوام مؤشر يشير الى تواصل النضال والعطاء لدى هذه المجاميع البشرية، مثلما يشير الى تواصل الأعداء ألصاق الأتهامات بهم دون سند أودليل.
ويشير المؤرخ العراقي السيد عباس العزاوي في كتابه العراق بين احتلالين – الجزء الثاني في الصفحة 17، ان بلدة العمارة العراقية الحالية ( ميسان ) التي كانت تسكنها عشيرة من الكرد الفيلية كانت تدعى دوزاده من اللر الفيلية.
وأن أصولهم العيلامية القديمة لاغبار عليها، أذ تنتشر عشائرهم من العمارة جنوبا مروراً بالكوت ومن ثم ديالى والى كركوك حيث تلتقي ببقية العشائر الكردية الأخرى من غير الفيلية، وتسكن في جانبي الحدود العراقية – الأيرانية.
ولهذا فقد عالجت السلطة العراقية البائدة عبثاً حالهم في ترحيل عدد من القرى التي يسكنها الكرد الفيلية في مناطق الحدود الأيرانية – العراقية، بزعم حماية الحدود أو احتلالها عسكريا من قبل الوحدات العسكرية، ومحاولة تجميع الناس في قلاع أو مخافر أو مجمعات أشبه ماتكون بمعسكرات الأعتقال، دون أن تستطيع نفيهم الى مدن الوسط والجنوب لمعرفتها الأكيدة بما يكنه العراقي في هذه المناطق من تقدير ومحبة وأحترام للأكراد الفيلية، لذا عمدت الى أساليب أخرى سنتطرق اليها.
وكانت المنطقة التي تقع ضمن اراضي العراق المحاددة لايران والمنطقة الايرانية المحاددة للعراق تنتشر فيها العشائر الكردية من الفيلية، وكانوا يستقرون بها قبل مجيء القبائل العربية التي انتشرت ابان الفتح الاسلامي للعراق، ومع أن الأسلام أنتشر بين هذه العشائر بشكل سهل ودون مقاومة، الا أن حالهم بقي كحال بقية الناس التي أسلمت بعد الفتح وأنتشرت الشريعة الأسلامية بينهم، غير أن ماميزهم عن بقية العشائر العربية في مناطق أخرى ميلهم للألتزام بمذهب آل البيت وتمسكهم به ودخولهم لعبة الصراع الديني والسياسي التي عمت الأمة، فصاروا شيعاً من أتباع المذهب الجعفري، وشدد من هذه الناحية كونهم كانوا يشكلون محطات لأستقبال القوافل القادمة من أيران والهند وأفغانستان والصين وروسيا لزيارة العتبات المقدسة.
ولم تكن كلمة ( الفيلي ) مستعملة للأشارة اليهم بالنظر لماعرفوا عنه بأسم عشائر اللر، مع أن التسمية محلية اكثر منها معجمية، وبالرغم من الأشارة التي يوردها بعض المؤرخين في أمتهان بعضهم مهنة تدريب الفيلية، فأن هذا الأمر يتناقض مع واقع المنطقة الجغرافي الذي يعيشونه، فقد أشتهرالكرد الفيلية في مناطق العراق وأيران بأمتهان الزراعة والرعي والصناعة والأعمال التجارية، وتشير بعض الدراسات أن الأسم مشتق من الملك العيلامي ( بيلي ) ومنها تم تحريف الكلمة الى فيلي، ومهما كان اصل التسمية فانها لايمكن ان تحط من قيمتهم او قدرهم، وبالعكس فان ممايزيد المرء فخرا انتسابه للكرد الفيلية، وليس بين اهل العراق من يستعمل اللفظ للحط من قيمتهم بل العكس فأن العراقيين بما عرف عن الكرد الفيلية من خصال الأمانة والوفاء والكرم فقد كان لهم منزلة اجتماعية متميزة بين العشائر العراقية العربية في الوسط والجنوب، كما اكتسبوا الأحترام والمحبة لماعرفوا به من اعتزازهم بقوميتهم ومذهبهم، وهم من قبائل متعددة من اللر بين العراق وايران.
ويتفق جميع المؤرخين على أن عشائر اللر من اصول كردية، بالأضافة الى حقيقة دامغة تشير الى عدم وجود عشيرة أو قبيلة عربية أو تركمانية أو فارسية بينهم، مما يؤكد الزعم الذي يقول بكرديتهم.
وأستمرت العشائر الفيلية من الكرد تعيش في العراق وتنسجم مع المجتمع العربي بالنظر لظروف الأختلاط والتمازج والتزاوج، وتغلغل الكرد الفيلية في مجتمعات المدن العربية وصاروا من ابنائها المتميزين وبقيت مكانتهم محفورة في ضمائر الناس بالنظر لما جبلت عليه اخلاقهم من نوازع ال،دفاع نحو الخير وبناء المدارس ومساعدة المحتاجين لأحساسهم بالظلم الذي وقع عليهم، وأثبت الكرد الفيلية كونهم من المجموعات الفاعلة أجتماعياً وأقتصادياً وسياسياً في حركة المجتمع العراقي، غير أن ماميزهم عن غيرهم هو أنتشار الفقر بينهم بالأضافة الى شدة تمسكهم بالمذهب الجعفري ومحبة آل البيت مما أغاض السلطات التي تعاقبت على حكم العراق منذ ظهور الدولة العثمانية ومروراً بالحكم الوطني الملكي ومن ثم الجمهوريات التي تعاقبت على حكم العراق.
غير أن مالفت السلطات الى خطورتهم في وقفتهم الشهيرة لمقاومة السلطة الفاشية التي قادت الأنقلاب الشباطي سيء الذكر، والذي لقي مقاومة صلبة من الأكراد الفيلية بالرغم من كونهم لاعلاقة لهم بسلطة عبد الكريم قاسم، ولم يكنوا يشكلون طرفاً في التناحر السياسي القائم في العراق، وأزاء هذا الوقوف بوجه الأنقلابيين تمت مواجهة الأكراد الفيلية مواجهة قاسية وتم التنكيل برجالهم ونسائهم، وتم أعدام البعض منهم وأودعت أعداد كبيرة منهم في السجون.
وأكتشفت السلطات العراقية أن الأكراد الفيلية كانوا من العناصر التي تشكل عمود من أعمدة الحركة الوطنية في العراق.
ويخطيء البعض ممن يتصور أن السلطات العراقية بدأت حملاتها الشوفينية المضاعفة ضد الأكراد الفيلية بعد وقفتهم للدفاع عن الجمهورية والنظام الوطني بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، بل أن الحملة بدأت بشكل سري وغير ملحوظ في اول أيام سلطة العهد الملكي حين تم التنسيق بين السلطتين الأيرانية والعراقية في أضطهاد الكرد الفيلية، أذ كانت ايران تفصل في التعامل بين أكراد الشمال وأكراد اللر الفيلية، في حين بقي العراق يتبع سياسة دقيقة في أيجاد شروخ أو حدود في التعامل بين أكراد الشمال وبين الفيلية الذين حرمهم من تبوء الوظائف المهمة في الدولة أو تطوعهم كضباط في الجيش أو الشرطة أو تمثيلهم في المجالس النيابية أو النظر اليهم نظرة مساواة في الدستور العراقي.
توجهت السلطة الملكية بالتوجيه حول انكار كردية الفيلية واعتبارها اقلية قليلة الاهمية، ودابت على التركيز على اعمال الطبقة الدنيا منهم حيث اشاعت انهم خلقوا لاعمال الخدمة الثقيلة، وصرفت انظار العالم عن الابداع والامكانيات التي يتمتع بها مجتمع الكرد الفيلية، بالاضافة الى قدرة هذا المجتمع بالرغم من الظروف القاسية والصعبة ان يلد رجال ضمن المجتمع العراقي ومن شتى التخصصات يشار اليهم بالبنان.
ومما زاد النقمة عليهم مبادرتهم للانخراط في الثورة الكردية المسلحة، مما دفع السلطات الملكية الى حرمان العديد منهم من شهادة الجنسية العراقية التي كانت تشكل الحجة والتبرير التي تتعكز السلطات عليه في محاربة العراقيين، ثم أقدمت على تسفير البعض بحجة التبعية، وكانت قمة المأساة أن الكردي الفيلي الذي يتم تسفيره بأعتباره أجنبياً ومن التبعية الأيرانية الى أيران يتم أعتباره في أيران كردياً وأجنبياً عن الأيرانيين، فيقع وسط محنة أنسانية لاحل لها ولم تلتفتت لها الأمم المتحدة ولاأعارها العالم المتمدن الأهتمام والحل الذي يليق بأنسانيتهم.
وأشتدت الحملة عليهم بعد مجيء الحكم البعثي الثاني في العام 1970، وتطور التسفير ليشمل الشباب منهم حيث يتم سلخهم عن عوائلهم وحجزهم في أماكن ومواقف سرية وبعيدة عن المدن والأنظار، ومن ثم يصار الى دفنهم وهم أحياء أو اعدامهم دون ذنب أو جريره ارتكبوها، ومن ثم طورت السلطة الصدامية من عملها المرعب بحق الكرد الفيلية فقامت بتشتيت الأطفال عن الأمهات والرجال عن النساء والشيوخ عن أولادهم زيادة في الأمعان بأيذائهم والتنكيل بهم، ثم عمدت الى تعذيب الشباب منهم وزجهم في السجون العراقية المعروفة والأيعاز للمحاكم الصورية بأصدار قرارات حكم بحقهم بالأعدام، وتنفيذ هذه الأ؛كام تحت مرأى وبصر العالم دون أي مسوغ قانوني أو تهمة تصل بالعقوبة لحد الأعدام.
وبقي الكرد الفيلية بالرغم مما لحقهم من ظلم وحيف ومحاربة غير متكافئة من سلطة تملك كل شيء حين لايملكون هم سوى ضمائرهم ومحبتهم للعراق وأعتزازهم بقوميتهم الكردية، بقي الكرد الفيلية يناضلون ويقارعون السلطة البعثية ويساهمون مع كل الحركات السياسية بقدرة فاقة وجهد كبير من أجل أسقاط السلطة الدكتاتورية التي تحققت بفضل الله تعالى.
وبعد أن سقط الطاغية حري بالعراق أن يستذكر هذه الشريحة الفاعلة والمؤثرة في تاريخ وحياة شعبنا العراقي، وأن نستذكر معها وقفتها التاريخية ضد الظلم والسلطات القمعية، وأن نستذكر معها ماقدمته من شخصيات بارزة وأسماء عبقة تشع وطنية في تاريخ العراق السياسي والثقافي، وما ساهمت به من مساهمة أيجابية في الاقتصاد الوطني، وحري بنا أن نسجل هذا لها بفخر وأعتزاز وأن نذكر الأجيال القادمة بما عانته الأم والأخت والبنت الكردية الفيلية التي تحملت الظلم ثلاث مرات مضاعفة لما تحمله غيرهم.
حري بالرعاق أن يضع هذه الشريحة الأجتماعية في مكانها المميز لما تتميز به من تضحيات وعطاء، وأذ نفتش بين ضحايا العراق سنجد أن مايميز الكرد الفيلية هو ظلمهم قومياً وظلمهم مذهبياً وسياسياً وأجتماعياً وطول مدة الزمن الذي بقوا فيه مظلومين، وآن الآوان أن نتخذ من القرارات مايعيد الحق الى نصابه، وأن نجعل هذه الشريحة العراقية الكريمة أن تشعر بأن تضحياتها لم تذهب سدى أو هباء الريح، وأن العديد من الأقلام والضمائر المنصفة تقف معهم وتنتصر لقضيتهم، وأن العراق الجديد سوف لن يغمض عينيه عنهم ولاعن جسامة التضحيات التي قدموها بصمت ودون صراخ.
فهل نستطيع أن نعطي بعض ما أعطاه الفيلية للعراق؟