كفكفي دموعك يا بلقيس الفيلية .. فأنت سيدة العراق اليوم وغدا

د. علي ثويني، معمار وباحث
thwanyali@hotmail.com
موسوعة صوت العراق، 3/4/2004

وصلني خطاب مؤثر من سيدة عراقية أسمها بلقيس الفيلي حمل إطراءا عما كتبته عن مصاب الأكراد الفيلية، وقد لمست الدموع في ثنايا كتابها الوردي الشفاف، لقد شكت جلل الهم الذي سببته جريمة التسفير البعثية، وكيف أنها فقدت في أتونها روحين عزيزتين هما أخت وأخ وصفتهم بأنهم كانا (مهندسين) غيبوا في سجون صدام، ولم يعثر لهما عن أثر. قرأت لسان حالها وكأنها تشير الى أنني أخوها الذي أحاكيهم، وكم أمني النفس بذلك وان أحل أو يحل العراقيون كلهم محلهما ليجبروا خاطر أمة الله بلقيس المفجوعة الذي يندى كيانها من الدموع. وأقتبس من شكواها كلمات عفوية تقول فيها (إي كلمه تعبر عن مأساتنا فهي تخفف منها، صدقني لو كتبوا عن مأساتنا بلغات ألعالم كلها فلن تكفي كل الكلمات لوصف بشاعتها. لقد قالت لي صديقتي ألسويديه حين كنت أسرد عليها قصتنا وألدموع تنهمر من عينيها: "لو لم تكوني أنت ألتي تحدثيني لتصورت قصتك إسطوره من وحي الخيال". توجد عوائل مصائبهم يصعب على ألعقل البشري تخيلها).
وفي خطاب وارد من الأخ سجاد كاظم أعتبر فيه أن حق الفيلية برقابنا قالها نصا (برقابكم أنتم شرفاء العراقيين) ويجب أن نتجند جميعا لإرجاعه لهم، ويسري نافذا لكل من أضطهد وظلم في العراق. وخطابا آخر كان وقع قصتة مؤثرا للغاية، حينما وصف لي قصته مع التسفير، و كيف مات أبوه وأمه في المسيرة بين الوطن والمنفى على الحدود، ولم يتسنى له نقلهم، فدفنهم بيده في العراء دون أن يعلم الموقع اليوم أو يزوره خلال الثلاثة وعشرين عاما منذ رحيلهم رحمهم الله وأسكنهم جناته. وهنا كم أتمنى أن يضع كل حر منا نفسه في موضع هذا العراقي الصابر الذي همه جلل، حينما تكالبت الدنيا بين تسفير قسري وإهانة بعثية وفقدان وطن وبيت، وفراق أحبة وفقدان والدين.
كنت قد دونت قبل ثلاث اعوام خاطرة أستقيتها عن لسان أحد المسفرين الفيلية (أبو دنيا الفيلي) الذي أجده صورة مجسدة للمعاناة وكان عندما أقابله دائم الشكوى من لوعة الغربة ووطأتها عليه، كان دائم الحسرة على فقدان الهوية والوطن و الأحبة وإذ أرتئي أعاده صياغتها وإهدائها الى جميع الأخوات و الأخوة الكرام:

هل ثمة كائن ليس له أسم أوهوية أوإنتماء أو أصل أوفصل؟ ..نعم أنه أنا الذي حرمت من تلك النعم ..لقد حرمت منها ولم أكن انافس عليها احد، أو اتجنى لانتزاعها من أحد، ولم أطمع وأطالب أكثر منها، لكني لم انلها في حيثيات هذه الدنيا المتناقضة .
كنت انتمي لبلد طار أسمه في الآفاق وبزغت على ضفاف فراتيه المباركة أولى أشعة الفكر البشري، لقد كنت خيطا من نسيجه الزاهي بألوان الطيف، أنتفخ زهوا وفخرا بذلك "العراق" محتضن الأعراق .وعلى حين غره لفظني ، ولم أعد أملك منه سوى الحنين وحس الانتماء إليه، يتأجج داخلي ويزيدني هما على هم. لم نسمع في سابق وادينا الأخضر مقولة العراقيين "طير ينقر طير" من ورائها وبسبب ذلك العرق أو تلك الملة، فطين العراق مشاع لكل من تطأ أقدامه مسالما، يصنع منه البيت والأحبة والشئ الجميل. حتى وطأته يد أبليس البعثي اللعين،فأتى بالرمل وأهله ، فشتت أهله مشارب وشيع، وحزبهم وسيسهم حتى امسوا شذرا مذرا، سهلي المنال خانعين خاضعين. لقد عمم الخسة ، فمقت الأخ أخيه وأرتاب الجار جاره، وطفحت لعنة "تقارير الحزب" على صدق المعاشرة وإسترسال السجايا،وكرس التقية والتلون والمواربة والدجل. ثم عمت الفرقة في النفوس وطفق الناس يبحثون عما يفرقهم عن أخوة الأمس ،حتى نخرت النفوس ورخصت الأجساد ،وهبط التخلق من عليائه الى الحضيض، حتى أبتاع الناس أبنائهم بثمن بخس أو سيارة "برازيلي" على مذبح الرياء الحزبي أو ما دعوه رياءا "الوطني أو القومي".
لم أكن عابئا،ومارست مسالمتي ومسامحتي ثم كظمت غيظي . وفي فجر أحد الأيام استيقظت على صوت زوار الليل الأجش ،بعدها وجدت نفسي ملفوظا وسط الصحراء الفاصلة بين العراق وإيران،أتذكر حقول الحب الخضراء في حديقتي وأتحاشى حقول الألغام التي كنت أسير خلالها .وصلت بعدها لأرض أدّعوا أنها أرض أجدادي و مصدر جذوري، فلم أجد في تربتها عرقا سنتيميا واحدا يخصني ،بل على العكس وجدت للجذور العراقية تمتد في خلدي آلاف الكيلومترات لتأجج في داخلي شوقا. ثم نفثت الحسرة تلو الحسرة على فردوسي الذي أضعته مجبرا مطرودا، بالرغم من عدم اقترافي ذنبا أو اقترابي من تفاحته المحرمة .
لقد وسمنا "بالتبعية" ولم أجد لهذا المفهوم إلا معنى واحد هو تبعيتي لله الواحد ولأرضي العراقية وقبابها الذهبية التي مكثت خلفي تنتظرني. وخلال أجواء التسفيرات التي تشبه السبي في أساطير التاريخ، أسمع الهمس والعويل هنا وهناك من ثكلى تبكي ابنها في سجن أو على حال زوجها الذي ودعته قسرا ،ثم نسمع عن قصص اب وأم وعمة وخالة فقدوا جلهم في المسيرة"الكبرى" بين شوطي الوطن والمنفى. لقد مات الناس حنقا أو حسرة أو إرهاقا أو تمنوا من الله الموت راضين، تخفيفا لوطأة الألم عن كاهلهم وكاهل ذويهم، وبكوا الناس أحبابهم الذي بقوا وراء الحدود، وأنقطعت سبل الوصل والتواصل،والأكبر هما هو على من قبع وراء القضبان من ورود شبابنا اليانعة .. و لم نسمع لهم صوتا بعد ذلك.
فهل من ضيم اكبر وهل من مصاب أعظم .. فدائك روحي يا أبا عبدالله، فقد أصاب أهلي ما يفوق مصابك بأهلك وعيالك، وهمي جلل لا أطيقه مثلما كضمته وأهل بيتك "الكاظمين الغيض". لست متيقنا أن يأتي زمان يبكي الناس على مصابنا، مثلما يبكون على مصابك كل زمان.
أطمع بالجنة مثل أقراني المغبونين، وتحليت بالرحمة و ارتضيت الظلم قدرا لامناص منه، لكني رفضت أن أظلم أحد .. أي من كان، لم يعد في قلبي مكان يقطنه كرها حتى من الجلاد وأعوانه الظالمين . كنت أمني النفس بملاذ يحميني، كنت ظانا أن أبناء جلدتي في الجوار يؤمنون كما آمنت في سجيتي بمبدأ رسول الله الكريم "من أوى منكم غريبا مأواه الجنة"، لكني لم أجد بعد جهد جهيد إلا آخر الأصقاع ياويني وعيالي. بلد أهله ليس مني ولا بي، روحانياتي غير روحانياتهم، ولكنهم كانوا أرحم روحا بحالي من المرائين.
شكواي اليوم لله و للوطن، وربما يتذاكر ويتظامن معي أهل الحس الإنساني، عن الأحباء اللذين فقدوا شبابهم في سجون الطغيان البعثي، بعد أن عذبت أجسادهم وناحت نفوسهم قهرا ثم لفهم النسيان. لقد بقينا نرجوا الفجر والعدالة الربانية، و جاءنا الفجر ولكن بدونهم فقد ضمتهم أرض العراق الى صدرها الحنون، فهنيئا لهم جماعة أو أفرادا.. أنهم أحسن حالا مني على الأقل.. سوف أحكي لهم يوم اللقاء عند بارئ النفوس وطأة الشوق لهم وللوطن المفدى.