متى يُرد الإعتبار للكرد الفيلية ؟

د.علي ثويني
IraqiWriter.com
13/1/2004

نسمع هذه الايام نغمات عن "كردستان" و"تركمانستان" و"نهرايا أو بلد آشور" ونسمع مثلث سني ومربع شيعي، وتقوقعات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم نسمع أحدهم ينادي بحق الكرد الفيلية في إعادة الإعتبار لما جرى ضدهم من إحجاف، في الوقت الذي لم نجد بينهم البته من يطالب بتكوين كيان أسمه "فيلستان" مثلا، بالرغم من أنهم أكثر من أحترق بأتون محرقة البعث. ويحز بالنفس أن الأجيال العراقية الصاعدة لاتعرف من هم الفيليين ،فقد مورست ضدهم حالة من التشويه والتمويه. وكثير من المغرر بهم اليوم مازال يكرر ما دجله البعثيون بإعتبارهم "أعاجم" وردوا العراق من إيران، ولا مكان لهم فيه.
والكرد الفيلية تجمع سكاني عراقي تمتد أراضيهم في دجلة الأوسط ويمتد تاريخيا في أقاليم (عيلام) و(لورستان) المتأخم اليوم للحدود العراقية ـ الايرانية حتي تخوم كرمنشاه،. ويطلق علي اقليمهم عادة (بشت كو) وتعني ظهر الجبل والمعني بذلك ظهر جزء من سلسلة جبال (حمرين) الممتدة من شمال العراق حتى وسطه. ويمتد تواجدهم عادة باتجاه الجنوب علي الضفاف الغربية لوادي (السيمرة) (الذي يمكن أن يكون حدود سومر القديمة) حتى عربستان في الجنوب عندما مصب هذا النهر في نهر (الكرخة) الذي يصب بدوره في (شط العرب). ونجد فروقاً بسيطة بينهم وبين قبائل (اللك ستان) و(لورستان) القاطنين عادة علي الضفة الشرقية للوادي ويمتدون جنوبا حتى قبائل (البختيارية) الجبلية البدوية.
ويمتد نشاط التجمعات (الفيلية) غربا ليعبر دجلة حتى الحي والديوانية ومدن الفرات. وقد تواصلوا وتداخلوا مع سكان مدن الكوت والعماره وتوابعه وقراه مثل (الحي وواسط وعلي الشرقي والغربي والعزيزية وبدرة وجصان ومندلي وبلدروز وزرباطية). ومن أقدم مدن المنطقة هذه هي بدرة أو (بيث ذرايا) الآرامي الذي يعني مكان تذرية الحبوب. وثمة دلائل علمية تثبت بأن تلك الأصقاع قد وطأتها عدة أقوام قبل وبعد السومريين، وقد تجانسوا وتهاجنوا في مراحل لاحقة من التاريخ مع محيطهم العربي لأسباب عديدة منها طيبتهم المفرطة وطبعهم المهادن ناهيك عن السبب المذهبي كونهم من الشيعية.
وتعود مشكلة الفيلية الى جذور تخطيط الحدود السياسية بين الدولتين الفارسيتين (الصفوية) ثم (القجرية) من جهة والتركية العثمانية من جهة أخرى. حيث إنها لم تضع فاصلاً منطقياً معقولاً للتضاريس الطبيعية والبشرية ولم تتمكن من الوصول الى الحد الأدنى من امتداد الأجناس والسحن والملل والنحل علي جانبي الحدود. ولنأخذ نماذج من ذلك فها هي السليمانية لا تختلف عما يقابلها في إيران، ثم (خانقين) وقصر (شيرين) ثم (بدرة) و(جصان) مع ما يحاكيها في (بشت كوه) وانحدارا الى الجنوب تبدأ (الحلفاية) و(العمارة) و(هور الحويزة) مع ما يقابلها في (البسيتين) الى الحد الذي تنقسم فيه العائلات علي جانبي الحدود. ثم تليها البصرة والمحمرة في عربستان (خوزستان). وكانت قد أنصفتهم تقسيمات الحدود الأولى لاتفاقيات (ارضروم) المتعددة المراحل، عندما جعلتهم من حصة العراق ولكن الحال لم يستمر طويلا فقد رضخت الدولة العثمانية لابتزاز (الروس) إبان ضغوطهم في حروب (القرم) المتتالية ثم البلقان فامتدت الحدود في اتفاقية (ارضروم) الأخيرة التي تجسدت عام 1905 لتترك لهؤلاء سوء العاقبة بعد أن فصلتهم عنوة عن محيطهم العراقي ومنحدرهم الطبيعي الى سهل دجلة المتداخل مع فطرتهم التاريخية.
لقد جرى حينئذٍ وضع الحدود بحيث أعطيت منطقة (سومار) الفيلية الى إيران مقابل (هورين شيخان) و(قوتو) التي ردتا للعراق. ووضع (بشت كوه) يدخل في تلك الفوضي الحدودية والتي أضحت إحدى ضحاياها، حيث قسموا الى أشلاء فمثلا مدينة (مندلي) التي تقع اليوم علي الحدود كانت حدودها تقع حتى (دير اله) داخل الحدود الإيرانية اليوم وما يدلل علي ذلك هو وجود مخفر داخل عمق الأراضي الإيرانية يسمي (مخفر العثمانيين) وكان لها ومازال عدة قرى تحمل أسماء عراقية مثل (طيب) و(بيات). ويتذكر المسنون من أهل المنطقة أو الناقلون عنهم بأنه عندما كانت تتقوى العشائر الواقعة داخل الحدود الإيرانية على حكومتها المركزية من أمثال عشيرة (كلهور) أو (لورستان) التابعة الى (بشت كوه) تنزح عند الضرورة الى مندلي، وحينها يحدث تفاوض بين الأهالي وبين أميرها أو حاكمها مستغلين مجيئه للصيد داخل الحدود العراقية وبعد شيء من الرشوة يغض الطرف عن رجوعهم أو حتى عن تقنين قدوم المياه الوارد إليها أو المراعي التي يستغلها العرب والكرد والترك من سكان المنطقة التي يتهاجن فيها الجميع دون أي حساسية.
وأسم "فيلي" غير وارد إلا في العراق حيث يسموهم في إيران (لوريه) وذهب الكثيرون مذاهب شتى في تفسير مصدر الكلمة ،ومنهم من خرج من طور المعقول الى الأساطير.والمجتمع الفيلي مجتمع تحكمه العشائرية مثل العرب وعكس الفرس ومن أكبر عشائره قبيلة (ملك شاهي) وتليها (آل علي شيرواني وآل شيرواني) و(البابا جابري) و(الكردلية) و(الداراواني) و(السيسية) و(الزورية). و سحنهم وأشكالهم هجين بين السمرة والحمرة حتى نجد بينهم الاشقر الفاقع والاسمر الداكن، ولكنهم عموما صبوحو الوجوه. ونجد منهم قبائل عربية قد "تفيللت" مثل عشيرة (عرب رودبار) الذين يتكلمون فيما بينهم بالعربية العراقية (اللهجة الشرقاوية)، ومع الآخرين بالفيلية. ونجد منهم من يحاكي الأصول الافريقية مثل عشيرة (الكاكا) الذين لا تفرقهم مع الخلاسيين الافارقة في البصرة والخليج ويتكلم بعضهم العربية والفيلية على حد سواء. وقد اختلطوا الفيلية مع عرب بني لام وربيعة وشمر الطوقة والبو محمد من أرض العراق الوسطي والجنوبية وتجمعهم بهم أواصر تصاهر حميمة بالرغم من بعض بقايا أدران المنافسة علي المراعي في منطقتهم التي ليس لها حدود معلومة ومحددة مع جيرانهم من (بني لام). وعموم الفيلية يحملون طيبة طين العراق وعبقه وصدق أهله في المعاشرة ورهافة المشاعر ولماحيتهم وذكائهم الفطري. وهم أصحاب نكتة وفكاهة ومجالسهم تعج بها. ولغتهم تبدوا مكتسبة لما علق بها من تراكمات ،حتى تجد كلمات سومرية في ثناياها. وعلى العموم فهي لهجة كردية لاتشبه السورانية أو البادنانية وهي الاقرب للفارسية في بعض مفرداتها وقواعدها ويذهب بعض الباحثين الى إنها كانت اللغة التي اعتمدتها الحضارات في (عيلام) و(ميديا) في الألف الأول قبل الميلاد. أما من سكن منهم بغداد فقد تعرب أو امتزجت الكلمات العربية البغدادية بها بهجين جميل يتندر عليه البعض منهم، فهم يتداولون الكلمة البغدادية مع مخارج حروفها بالفيلية.
ولقد شهدت سنوات الجفاف والقحط في أراضيهم هجرات باتجاه سهل الرافدين وآخر تلك الرحلات الكبري كان إبان الجفاف والكساد العالمي الذي حدث في الثلاثينيات ثم تلاه جفاف آخر في الاربعينيات من القرن العشرين عندما أوصلتهم أقدامهم الي بغداد. ومن الوارد في كتب التاريخ أن (الفيلية) قد اعتادوا سكن بغداد ووردت أخبارهم في تاريخها خلال القرن العاشر الميلادي وما تلاه. لقد اتصف القادمون في الثلاثينيات وما تبعها بالجدية والأريحية العراقية و كسبوا ثقة كل أهل بغداد بجدهم وصدقهم ومنهم تجارها اليهود.وعندما نُكب يهود بغداد وطردوا من ديارهم خلال سنوات الخمسينيات من القرن العشرين، حل الفيلية محلهم وأنشاوا طبقة من الحدادين والتجار الحاذقين المتسمين بالتواضع والشهامة. وظهر منهم الكثير من أعلام بغداد في الثقافة والرياضة والإبداع. ومن أكثرهم شهرة الشاعرالزهاوي والشخصية الموسوعية العالم مصطفي جواد.
وأنخرطت أجيالهم الصاعدة في الحركات السياسية العراقية بين أقصى اليمين واليسار بما لا يميزهم عن أي عراقي، و أيد جلهم الحركات اليسارية في العراق وهبوا بصدورهم مدافعين عن حرمة العراق ومكاسب الجمهورية أمام دبابات انقلاب البعث في 8 شباط عام 1963. ويذكر الجميع كيف عصي حي (شارع الكفاح) و(عقد الاكراد) و(القشل) سلطة الانقلابيين لأيام معدودة حتى راح من جرائها ضحايا وسالت بسببها دماء غزيرة كتب الفيلية خلالها صفحات ناصعة من التاريخ العراقي الحديث التي نعتز ونفتخر بها جميعا.
وكانت الضغينة وتصفية الحساب السابق أخذت أولوية في ممارسات سلطة البعث بعد عودتها بقوة في انقلاب 17 تموز (يوليو) عام 1968، حيث بدءوا خطابهم الغامز بكون هؤلاء الفئة (أعاجم) من ذوي (التبعية الايرانية). وهذه التسمية الجائرة رسمها الرعيل المتترك خلال قانون الجنسية العراقي العنصري عام 1925، للتمييز بين الشيعة وغيرهم من أهل العراق، والتي لم تجد لها مثال في قوانين الدنيا. فشرع البعثيون بتهجيرهم أفرادا وجماعات ابتداء من العام 1970، وكان وطيسها تصاعد بعد عام 1979 وخلال الحرب ضد إيران، حيث سُبُوا وانتزعوا من ديارهم بقسوة وصودرت كل ممتلكاتهم ولا سيما التجار الكبار الذين كانوا يشكلون عماد التجارة العراقية. وقد عملت السلطة (كماشة الانكشارية) علي تجار بغداد وجلهم من (الفيلية) حيث استدعتهم الى اجتماع موسع لـ(غرفة تجارة بغداد)، واقتادتهم من هناك مباشرة لترميهم على الحدود ثم نعتت لهم جهة إيران، وودعتهم باطلاقات ترهيبية في الهواء.
واستثنت السلطة من كل عائلة ممن في عمر الشباب (كرهينة) رموا بهم في غياهب السجون منذ عقدين ونيف، وتبين اليوم بأن حصتهم كانت الأكبر في المقابر الجماعية لسلطة البعث. و رمت سلطات البعث المهجرين من أهاليهم في المنطقة المحرمة المزروعة بالالغام علي حدود البلدين ليسيروا حفاة عراة عشرات الكيلومترات ليصل منهم القوي القادر ويموت منهم الضعيف من الشيوخ والمرضي والنساء إرهاقا وحنقا على عراقهم. ثم يتلقفهم الإيرانيون ليضعوهم في ملاجئ وخيم يعانون فيها من شظف العيش. ثم انخرطوا تباعا في حياة المدن الإيرانية ليجدوا أنفسهم غرباء وليعانوا من القهر والفاقة ناهيك عن العنصرية المقيتة التي فرزتهم ووسمتهم (عربا) تهكما، والحال نفسه حدث من لدن بعض غلاة الكرد العراقيين. لقد ذاقوا الامرّين وهم بين (حانة ومانة) يعانون من دعاوي التعجيم (التفريس) والتعريب علي شقي الحدود. ولم تسنح لجل الجيل المهجر من أخذ قسطه في التعليم ولاسيما العالي في إيران لما مورس ضدهم من فرز عنصري.
لقد حمل الفيلية في المهاجر مفاتيح بيوتهم في بغداد ومدن العراق كأوسمه على صدورهم وكرسوا خلال هجرتهم حالة عراقية لا نجدها لدى الكثيرين من العراقيين في المهاجر. ووجدنا الجيل الثاني المولد قد ختم اللهجة العراقية "العربية" ولايحلوا له التكلم إلا بها. مما يؤكد عمق أصالتهم العراقية التي لاينافسهم بها أحد. واليوم يؤكد تأريخ هذه الفئة من العراقيين بأنهم الأكثر تضحية في الدفاع عنه ضد البعث والأبعد نظرا وحنكة وفراسة حينما عرفوا بلماحيتهم خسة البعثيين منذ بواكيرهم عندما كان العراقيون في غفلة من أمرهم، ثم أنهم دافعوا عن مكاسب العراق وحرمته في أحلك الظروف. واليوم يفخر العراق بإنتمائهم إليه، وينظر الى إعادتهم الى صدره الحنون من أولياته ، فهم الأجدر أن يشاركوا في بناء صرحه الجديد.
واليوم وبعد إنقشاع الغمة وغروب الطغيان الى دون رجعة فقد حان الوقت أن يعتذر رعاع العراقيون إليهم، ممن هتف منهم يوما (تسفير العجم مطلب جماهيري)، ومن صادر وتمتع بأموالهم وديارهم ، أو مارس الإبتزاز بحقهم وأعتبره "فرهود" أو كتب "تقرير حزبي" على جاره ليوقعه فريسه بيد البعثيين. ونطالب قوى الشعب الواعية بأن تمارس أخلاقياتها العراقية التي جبلت عليها والتي أراد "البعث" اجتثاثها، وتطالب باعتذار رسمي وشعبي في جانبيه المعنوي عما أقترفته سلطة البعث من سفاهات، والمادي عما صودر من حلالهم وممتلكاتهم وإعادته إليهم، مع خطة علمية لمخاطبة الجهات الإيرانية والمهاجر المشتتة بعودتهم وإعادة اندماجهم في المجتمع، واتخاذهم قدوة في انتمائهم العراقي.