العراق ودوامة الاختناقات ـ سلسة من التصفيات أفرغت هيكلية الدولة من قوة الشعب

جاسم مراد
جريدة الزمان، العدد 1435، 22/2/2003

في العراق شعب مسلوب الارادة ينتظر ما يتقرر عليه من الخارج، وما ينتظره مزيد من المصادرة في الداخل، ومثل هذه الدوامة ليست وليدة الاحداث القريبة، وانما ولدت بولادة المؤامرة التي صار اكتشافها مهمة كل أجندة وأجنحة الدولة العراقية واصبح المواطنون جميعا متهمين بها اذا ما دخلوا في نفق السلطة في البحث عن المتآمرين. والمتآمر ليس بالضرورة ان يكون قادما عبر الحدود، وانما أنت وأنا وبائع البندورة وصاحب النكتة والمتخلف عن العسكرية والدلالات والاولاد والمشاكسون الذين يلعبون علي كنف دجلة مقابل نصر اله النار واولئك الباحثون في قلب القمامة عن فضلات الميسورين. إذن لماذا ولدت نظرية منظومة المؤامرة، وماهي اسباب اشغال العقل العراقي في البحث عن المتآمرين والطماطم علي حد سواء ووصول البلاد الي دوامة الاختناقات المستمرة منذ عام 1968 حتي هذه اللحظة. فبعدما حط الرئيس العراقي صدام حسين قدمه علي المركز الاول في الدولة وبعد تصفية التحالف مع الشيوعيين العراقيين والاكراد والاشتراكيين القوميين وكتلة البعثيين تحول الوطن الي معسكر اجباري تطوقه نظرية المؤامرة وتجبره مفاعيل البحث عن الخارجين علي عقل النظام، وصارت عمليات السباق في كتاب التقارير والوشايات والبلاغات والوعظ اليومي في اسواق البلاد عن شروط وبرامج السلطة مهمات وطنية الداخل فيها مولود والخارج عليها مفقود، وعلي وفق ذلك تم سحق الشيوعيين وابعاد الوطنيين عن مراكز عملهم وقتل الاكراد وتهجيرهم وابادة الاسلاميين من حزب الدعوة ومراقبة المستقلين وتغيير اساليب العلاقات العامة بين المواطن والمواطن والعائلة ومنابعها والمحافظة الجنوبية عن شقيقتها الغربية، وصار المتبرعون بازالة ما تبقي من حواظن الاستقلالية الشخصية اكثر من حكماء البلاد. وبالتالي تحولت البلاد الي ثكنة من الوشائيين والمتزلفين واصحاب الرأسين في الجسد الواحد. في ظل اختلاطات هذا الوضع بدأت ازمات الوضع المعيشي للمواطنيين واختفاء المواد من الاسواق وشيوعها رغم الامكانيات المالية والموارد الضخمة التي يتمتع بها العراق دون غيره من اشقائه العرب وجيرانه واصبحت عمليات التلاعب في اختفاء المواد الغذائية من الاسواق مصاحبة لبروز الازمات السياسية الداخلية والاقليمية التي ينتجها النظام بغية تصديرها الي الخارحج لالهاء الناس عن اسباب ودوافع الاهداف السياسية ومنذ نهاية السبعينيات اخذت القوة الشرائية للمواطنين لا تتناسب مع الارتفاعات شبه اليومية للمواد المطروحة في السوق مما جعل المواطن خاصة اولئك ذوي الدخول المحدودة وهم اغلبية عامة الشعب نيشغلون في البحث عن خلق التوازن بين دخولهم اليومية وحاجاتهم من السوق مما دفعهم لاستنزاف طاقاتهم البدنية بعمل مضاف اكثر جهودا من عملهم الاعتيادي بهدف سد النقص الحاصل بين الطلب اليومي لعوائلهم وارتفاعات القوة الشرائية فمثلا كانت طبقة البيض تساوي دينارا ونصف الدينار ارتفعت لاكثر من 3 دنانير والكيلو الواحد من الطماطمة البندورة كان سعره لا يتجاوز المائة فلس اصبح 180 فلساً وكيلوم اللحم الاحمر بـ 300 فلس ارتفع الي 500 - 600 فلس في الوقت الذي كان فيه راتب معلم الابتدائية الشهري من 75 دينارا الي 80 دينارا . فيماكانت اجور العمالة الاعتيادية اليومية لا تتجاوز نصف الدينار وايجار السكن في بغداد وخاصة في اطرافها مثل مدينة الشعب الزعفرانية حي العامل الثورة الدورة وغيرها بحدود 15 دينارا للشهر الواحد، في ظل هذه الاوضاع التي شغلت اهتمامات العقل العام العراقي شنت اجهزة السلطة السلطة سلسلة واسعة من الاعتقالات والتصفيات الجسدية ضد أصدقاء وكوادر ومؤيدي حزب الدعوة الحزب الشيوعي الحركة الاشتراكية حزب البعث الناصريين الاكراد، الديمقراطي والاتحادي وطرد العديد من العناصر بأجنحته الوطنية والقومية والاسلامية المستقلة من مؤسسات التعليم والتعليم العالي والجيش والوزارات والمديريات التي لها علاقات مباشرة بالمواطنيين او تلك التي تري فيها السلطة مقفلة لها.

تحولات خطيرة
في ظل هذه التحولات الخطيرة في التركيبة الاقتصادية والاوضاع المعيشية للمواطنين انشغل الناس بقضيتين وهما توخي الحذر من مؤسسات الدولة والابتعاد عن كل ما يصطدم باجهزة السلطة الامنية والحزبية ومن ثم استغفال او ما يسمي بادارة الظهر عن حملات القمع الواسعة التي تشنها اجهزة السلطة ضد القوي السياسية والشخصيات التي تختلف معها في وجهة النظر. وقد رافق هذا الوضع اشاعة المؤامرة علي العراق وما يسمي بثورة البعث في 17 ـ 30 تموز (يوليو) عام 1968 والقائد صدام حسين الذي جاء من السماء حيث من الله به علي هذه الامة. وبدأت في الفترة نفسها واستمرت عمليات التهجير الجماعي للعوائل العراقية تحت يافطة الاصول الايرانية والكردية الفيلية من غير العراقيين حيث تم فصل الاولاد والاطفال عن ابائهم وامهاتهم وايداعهم السجون فيما يتم نقل كبار السن ورميهم عبر الحدود بطريقة ووسائل لم يشهدها تاريخ العراق الأكثر ظلامية.
والسيطرة علي منازلهم وممتلكاتهم من قبل أجهزة السلطة الامنية والأكثر عهدا في هذا التصرف السلطوي ان لهذه العوائل ابناء في الخدمة العسكرية فعندما عادوا الي مساكنهم في الاجازات الاعتيادية وجدوها خالية من اهاليهم فبعضهم هرب من العسكرية والبعض الاخر هرب الي عشائر اخري.
هذا السلوك البربري الهولاكي لم يجد ما يمنعه او يحتج عليه من المواطنين العراقيين حيث الجميع علي قائمة الاتهام. فمثلا في بداية الثمانينيات قبل الحرب العراقية الايرانية نظم شيوخ وكبار رجال احدي المدن العراقية في محافظة بابل عريضة اكدوا فيها ان هذه العوائل التي يتم طردها هي عوائل عراقية ومعروفة منذ اكثر من 200 عام في هذه المدينة ولهم جنسيات عثمانية ومزارع وعلاقات عشائرية الا ان مدير امن تلك المنطقة التي لا اريد ذكر اسمها قد ابلغ هؤلاء بالترحيل ايضا اذا ما استمروا بمطاليبهم فجبروت السلطة وعنفها الدموي قد جعل الناس في موقف حيادي ازاء مجمل السلوكيات اللامنطقية لاجهزة النظام.

الرصد والترصد
كانت حرب النيابة الخليجية الاولي المفصل النهائي الذي قطع اي تصور بامكانية بناء علاقة بين المواطن العراقي واجهزة الدولة، حيث تحول كل العقل السلطوي وخاصة رأس النظام وحزب البعث الحاكم الي عقل امني استخباراتي تجسسي وصارت عمليات متابعة المواطنين والتقصي عن اخبارهم الخاصة والعامة تتم عبر ابنائهم الصغار في المدارس الابتدائية والروضات ومن خلال الجيران وابناء الحي والعشيرة وغيرها حتي اصبح المواطن متهما بكل شيء ويخشي كل شيء وتحولت العلاقات الانسانية العامة الي اشبه بعمليات الرصد والترصد ويخشي الانسان ان يتحدث بقضايا تخص الدولة خوفا من سقوط كلمة في غير موقعها وتتحول الي قضية اتهامية ويدخل في نفق منظومة المؤامرة التي اصبحت شعارا لمنظمات الحزب واجهزة النظام لتصفية الخصوم وتخويف المواطنين.
ان الحرب العراقية الايرانية التي أكلت تحت عباءتها الآلاف من العراقيين قد اسهمت في توفير المواد الغذائية في السوق وبأسعار معقولة تنسجم مع القوة الشرائية للفرد العراقي لكنها في الجبهة الثانية حولت الشعب وفئاته المعرفية الي سوق عكاظ كل يغني للقائد تحت شعار حماية الامن الوطني، في حين كانت في الصوب الاخر جهنم احرقت كل القوي والعناصر والشخصيات التي لها موقف مغاير لموقف النظام وتحولت الي حادلة حديدية ضخمة سحقت عظام الشعب الكردي، وترعرعت في هذه المرحلة منظومات البحث عن المؤامرة. انها حرب كارثية بكل معني الكلمة، حرب ادت رسالة ومخططات الاجنبي في سحق البني الاجتماعية العراقية وصولا لتهيئة المناخ لحرب الخليج الثانية. وفي هذه الحرب التي شكلت منعطفاً حقيقياً في مسار الوطن العراقي. فهي قد اسكتت كل التساؤلات الوطنية والشعبية عن مصير نتائج الحرب الاولي وكيفية معالجة الازمات الداخلية المتمثلة بجيوش العاطلين والفوارق الطبقية الهائلة بين عامة الشعب وطفيليي السلطة الذين نموا وكبروا علي دماء العراقيين وبارود المدافع. وفي ظل اختلاطات هذه الظروف برزت مرة اخري الازمة المعيشية القاتلة. وجمع الرئيس العراقي صدام حسين كافة قنوات الدولة في يديه وصار رئيساً لمجلس الوزراء بغية معالجة ما وصفه بحاجات الشعب المعيشية لكن هذه المسؤولية زادت الطين بلة فبينما في السابق كانت المواد المنتجة محليا موجودة في السوق باسعار تفوق القدرة الشرائية للمواطنين عشرة اضعاف فقد اختفت نهائيا وصاحبها بيع كل مؤسسات الدولة الانتاجية للقطاع الخاص. وبدأت عمليات التفكيك لتكوينات المجتمع العراقي علي قاعدة حماية الانتصار المقتول علي ارجوحة جيوش الحلفاء.
وهكذا فبينما واقع الحال يؤكد هزيمة النظام ودولته ومؤسساته لكن ممارسة القمع الشمولي ضد الشعب العراقي تشير الي قوة اجهزة السلطة وهذه المفارقة التي لم يشهدها تاريخ الانظمة المهزومة تشير الي عمليات الدعم الخفي والمعلن الخارجي للنظام بغية وصوله الي الحدود التي لم يعد بعدها مقبولاً بقاؤه . ومن هنا يمكن التوكيد بان النظام القائم الذي عاش علي كتف الازمات وخلق الذرائع والحروب لتدمير البنية الاجتماعية العراقية لا يمكن ان يساوي بين ضرورات الحاجة الوطنية ووجوده علي رأس السلطة فان السلطة بالنسبة له اهم من الوطن ومشروعية حق الشعب في الاختيار، لذلك فان المحاولات الجارية لتجنيب العراق الضربة الامريكية القادمة سوف تبوء بالفشل اللهم الا اذا شعر النظام بانه مقصي لا محالة، هنا يمكن ان يعد الخط التنازلي. وفي كل الاحوال سيبقي المواطن العراقي رهن مجموعة من الصفقات والمصالح بين اطراف الصراع، فمثلما نخرته الازمات المعيشية المصنوعة من قبل السلطة وحروب الوكالة سوف تحطم جسده الاحداث القادمة.