هكذا أصبحت عراقياً
أبو دارا
موسوعة النهرين، 9/1/2003
منذ أربعين عاما، وفي نفس العام الذي جرى فيه الانقلاب البعثي على الزعيم عبد الكريم قاسم، كنت قد اجتزت امتحان شهادة البكالوريا مرتين، والسبب أن
أسئلة الامتحان قد سربت وقتها بفعل فاعل لبعض الطلبة وتناقلتها الأيدي لاحقا مما حدا بالمسئولين لإعادة الامتحان في عموم العراق كله، ظهرت النتيجة
وكنت من الناجحين، لم أكن سعيدا تمام السعادة فالأهم من النجاح وقتها وحتى الآن الحصول على ورقة شهادة الجنسية العراقية للالتحاق بالجامعة، ذهبت مع
اثنين من أصدقاء الطفولة من الكرد الفيلية إلى مكتب الأمن العام والدوائر المنوط بها إتمام هذه المعاملة لنا، واستمر الحال لأكثر من شهر نذهب كل يوم لمكتب
مختلف دون جدوى، حتى وصلنا إلى مفوض شرطة عراقي اسمه " أحمد " والذي ألقى أوراق المعاملة بكل ازدراء أمامنا منهياً كل آمالنا بقوله " يالله ...
روحوا انتوا مو عراقيين ... وقانون الجنسية ما يطبق عليكم "، عدت لبيتنا مغتما، إذ ضاع لدي كل أمل في إكمال تعليمي بالجامعة، هدأت أمي من روعي،
وجاء بعد قليل أحد أعمامي وكان تاجر صابون رگي حلبي بالشورجة ببغداد، فطمأنني طالبا مني الذهاب بعد يومين لمفوض الشرطة ذاته، وفعلا ذهبت إليه في
الموعد ولم أصدق عيني فقد عاملني الشخص بمنتهى الأدب بل وأفسح لي مكانا بجواره وأعطاني شهادة الجنسية العراقية، عدت لبيت العائلة أحكي على عجائب
الأمور التي حدثت وأبحث عن سر هذا التحول لدى عمي الذي قال أنه أرسل حقة صابون زنابيلي إلى هذا المعتمد فأتت بالنتيجة الفورية، نعم أربعة كيلوهات من
الصابون حددت مصيري العلمي والعملي لاحقا !!
أما صديقاي : فالأول اختفى مع آلاف من الكرد الفيلية أوائل الثمانينات بينما كان الثاني يبيع اللعب في الأسواق ببغداد للإنفاق أثناء دراسته معنا في المدرسة،
ومع ذلك لم يشفع له كفاحه هذا في مواصلة تعليمه ولعله لازال هناك يبيع اللعب على الطرقات والنواصي!
المهم أكملت دراستي الجامعية وذهبت إلى بريطانيا، وفي العام 1974 عادت السلطات العراقية وسحبت عني الجنسية ونشر الخبر في جريدة الوقائع العراقية،
فأكملت حياتي بعد ذلك وقد عرفت سبب أخذي الجنسية العراقية وهو الصابون بارك الله فيه، ولكن لم أعرف حتى الآن ورغم مرور 28 عاما سبب سحبها
عني، وهل من الممكن استعادتها مرة أخرى بأطنان من الصابون حسب تغير الأسعار والأهواء !! وسبحان مغير الأحوال!!
وما حدث معي ومع صديقاي مجرد مثال على العقلية التي تدير البلاد بالعراق حيث تخضع المعاملات الرسمية كلها لهوى القائمين عليها من أصغر موظف
وحتى رئيس البلاد، يسحبون الجنسية عمن يشاءون، ويعطونها وقتما يريدون وبالطبع بمعايير حزبية ومالية خاصة بهم، ويخترعون للناس مواقيت ومحال
ميلادهم، وحتى تصنيفهم عربا وكردا وغير ذلك، فهناك مثلا مئات الآلاف من العراقيين الذين خرجوا من بلادهم بوثائق سفر عليها تاريخ واحد هو الأول من
يوليو ـ تموز وهذا دليل على مدى الامتهان الذي تعامل به سلطات البعث أبناء هذا الشعب إذ تحرمهم حتى من تسجيل يوم ميلادهم الحقيقي، هذا طبعا إن هي
تنازلت وأعطتهم وثيقة رسمية تثبت عراقيتهم، فياترى كم من العراقيين تغيرت حياتهم بناء على تصنيفهم مواطنين من الفئة " أ " أو من الفئة " ب "، أو أعطوا
شهادة جنسية أو حرموا منها لكنهم بقوا في العراق، كيف يعيش هؤلاء في بلد يرفض الإقرار بانتمائهم إليه يعيشون فيه منقوصين الكرامة، و يرفض حتى
خروجهم منه ـ حيث اجراءات السفر هي الأخرى معقدة وتتطلب الكثير، كيف سارت الحياة بمن خرجوا من العراق فتلاعبت بمصائرهم الظروف والمهربون
عبر الحدود أو حتى سلطات اللجوء في البلد الذي ألقت به الصدف أمامهم ـ هذا إن وصلوا لها سالمين ـ
، كل هذا العناء لمجرد أن بلادهم لم تعطهم وثيقة تقر فيها
انتماءهم لها وتحترم هذا الانتماء وتبعاته عليها، وغير ذلك الكثير.
الآن والحديث عن عراق جديد بعد سقوط طغمة آل صبحة فإنه من الضروري سن قانون عادل ومنصف للجنسية العراقية، لا يفرق بين المواطنين على أي
أساس واضعا إياهم على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، هذا ما نطمح إليه من القائمين على أمر العراق الجديد.