أوراق كوردية فيلية تطير الى السماء

أرتأيت قبل ان اكتب هذا الكتاب ان آخذ موافقة الكاتب ، وهذا ما حصل ، وهي المجموعة القصصية التي بعنوان (قلعة الحاج سهراب) .

هشام توفيق ، طبعت في مطابع وزارة الثقافة \ دار الشؤون الثقافية ط- 1 في 2007 :(اوراق سرية من مذكرات فتاة شابة) :

حدث في نيسان 1980 :

اذكر انه كان ذات نهار مشرق وجميل . الحافلة تقلني تحث خطاها مسرعة تجاه بدرة مدينتي الحبيبة التي كنت بصدد العودة اليها بعد غياب اشهر .

فما وصلني امس من اخبار تدور حول محاصرة السلطات لقصر الوالي في القلعة ، واعتقال افراد عائلتي وترحيلهم قسرا الى ما وراء الحدود ، باستثناء امي واخي الصغير ، اصابني بالصدمة .

اطلقت الحافلة زمجرة حادة وهي ترتقي سدا ترابيا يفضي الى الشارع الرئيس بعد ان كنا قد اجتزنا ناحية جصان .

في الكراج اترجل من الحافلة حاملة حقيبتي الصغيرة . البلدة على غير عادتها موحشة تبعث على الاسى والحزن ، كما تبعث على الخوف .

لم يعد لنا من قريب . لقد سفروا كما سمعت . او سفر اغلبهم ومن تبقى منهم اقفل على نفسه باب بيته وجلا ، لايدخل ولايخرج منه . تواجهني الحوانيت المقفلة . بعضها لاقربائنا المسفرين . لقد اخبرهم ضابط الامن بتهيئة انفسهم للرحيل خلال ساعة واحدة . لماذا التسفير؟ نحن عراقيون يقولون للضابط ، ويضعون أمامه المستمسكات القانونية شهادة الجنسية العراقية . هوية الاحوال المدنية دفتر الخدمة العسكرية . انظر يقولون له . انظر . فلم التسفير اذا؟! يلوي الضابط شفتيه استخفافا .

انا وحدي من يقول : هذا عراقي ، امامكم ساعة واحدة وبعدها ترمون خارج الحدود وتمضي الساعة تمضي سريعة وعلى عجل تأتي الشرطة ولكننا لم ننته من جمع حوائج الدكان . ابني في الجيش من سيخبره؟ وتعرض البضاعة من يشتري؟! (فديو) جديد بمئتي دينار خذه بمئة وخمسين . جهاز تلفاز لم يستعمل بمئتين بمئة ، ويرتفع عويل ، يا اهل الذمة ، يا نشانى ، ابنتي في بيت خالتها ببغداد ، امهلوني يوما واحدا لاحضارها . كيف نرحل من غيرها؟! وخلف الحدود يرمى الاثاث والبشر من النساء والاطفال والشيوخ كما ترمى القاذورات . ولكن الشباب يحجزون يسلخونهم عن عوائلهم بالقوة والضرب المبرح ويحجزون في معتقلات خاصة . ولكنه وحيدي ومعيلي . وانا شيخ كبير . اتوسل اليكم . الشباب لا .

انهم خطرون قد يشكلون جيشا خلف الحدود تتشبث ام بولدها دخيلكم ودخيل الرب .. اتركوه خذوا كل ما املك واتركوه . هل انت مجنونة؟! الشباب خطرون قد يشكلون جيشا خلف الحدود ..

اختي لو كان لها بيت مستقل مع زوجها ، كنت اقصده على الفور ، غير انها تعيش في كنف عائلة زوجها ، وليس لها من البيت سوى غرفة واحدة . فمن الصعب ان احرجها بزيارة غير متوقعة في مثل هذا الظرف العصيب . هذا ناهيك عن امكانية كونها سفرت مع بقية افراد العائلة . فالاخبار التي وصلتني اكدت على تسفير جميع افراد عائلتي باستثناء امي واخي الصغير .

يتناهى الي صوت يهزني .

ارفع عيني الى السيارة واحملق بوجه السائق المبتسم وتداخلني على الفور فرحة لاتوصف ، الحمد لله انه ابن عم والدتي (صاحب لوري لنقل الحصى من معامل الحصى في وادي الگلال الى المحافظات القريبة .

تعالي ادخلي بسرعة .

لقد بعثك الله في الوقت المناسب .

كيف حالك .

ويتحرك اللوري باتجاه الشارع الرئيس المفضي الى ناحية زرباطية .

لست على ما يرام يا قريبي .

ومن منا على ما يرام ، الوضع لايطاق .

كنت في حيرة من امري ، لاادري كيف اصل الى دارنا .

ولكن ماذا تفعلين هنا؟ ما جاء بك في مثل هذا الوقت؟

جئت لأطمئن . وصلتني اخبار سيئة . ولم اطق صبرا .

بل اكثر من سيئة ، الكل في خطر .

وما اخبار اهلي.

والدتك بخير واخوك الصغير .

والاخرون .

الاخرون سفروا جميعا . ابوك وشقيقتك الكبرى رحلوا من بغداد والبقية من هنا . انهم يجتثون عائلتكم من جذورها كما لو كنتم اشجارا طالحة ، حتى اخوك الجندي المكلف حجزوه مساء امس ثم رحلوه في الليل ، لا أحد يدري الى اين؟! .

يوقف السيارة في الركن المواجه لبوابة القلعة ، الحجية تعدو صوبنا لاهثة : حبيبتي ... حبيبتي ، أرأيت ما فعلوه بنا يا ابنتي اخذو ابني امس ايضا .

لماذا جئت ماذا تفعلين هنا بحق السماء؟

كذت اجن وانا اسمع خبرا من هذا وخبرا من ذاك ، فلم اعد اطيق نفسي .

يجب الا يراك احد هنا ، انت شابة جميلة وستكونين لهم كهبة لاتقدر بثمن ، انهم وحوش كاسرة لاتعرف قلوبهم الرحمة ولايفهمون نوازع الضمير .

يطل اخي الاخر من البستان

متى قدمت

قبل نصف ساعة

ويلطم جبهته : يا الهي نسيت ، الشرطة قادمة في غضون دقائق .

تصرخ امي في هلع .. قادة الى اين؟ الى هنا؟! يا للمصيبة

يقول اخي : تركتهم يعبرون القنطرة

لتختبىء في السيارة (يقصدني) يقول قريبي ريثما يغادر هؤلاء .

واهرول الى خلف اللوري ، وسرعان ما المح غطاء من قماش الچوخ يستعمل لتغطية الحمولة ، اتوارى تحته .

يقول الضابط حال دخوله القصر ووقوع عينه على امنا : اهلا..

ترد الام : اهلا...

تبدين كما لوكنت تنتظرين مجيئنا؟

في الحقيقة نعم ولست بخائفة؟!

ولم الخوف ؟ طالما واجهتنا ظروف اقسى

ولكن الحالة الان تختلف هذه المرة طرد ... طرد خارج الحدود

ولم الطرد .. انا تميمية عراقية

اذا كان ما تقوليه صحيحا فما الذي جاء بك الى هذا الوكر المملوء بالمخربين واعداء الدولة؟.

انه بيت زوجي ..تقول باعتزاز .

يستدير الضابط لافراده طالبا تفتيش القصر ، وتمر دقائق من الصمت يحلق الضابط خلالها بوجه قريبنا .

لاشيء سيدي .

بالطبع لاشيء .. اخذوا احتياطاتكم سلفا ، ولكني لهم بالمرصاد .

هيا خذي صبيك واجلسوا على ظهر السيارة ، انتم محجوزون بامري وقد ترحلون غدا او بعد غد .

الى اين؟

الى حيث رحل زوجك وبقية افراد عائلتك .

(ان امي كانت ابنة شيخ من شيوخ بني تميم)

لست اليوم غير امرأة تابعة لزوج معاد للسلطة . زوجة في بيت قذر هو وكر للعملاء والجواسيس واعداء الدولة . وستعاملين انت وصبيك على هذا الاساس .. هل فهمت الان؟

المح جسد الام المسربل بالسواد قابعا على ظهر سيارة الشرطة الى جوار اخي ، ومن حولها الشرطة . يستقل الضابط المقعد الامامي جنب السائق وتنطلق بهم السيارة حتى تختفي عن الانظار .

تغادر الحافلة حدود بدره ، واستدير برأسي الى الوراء . وارى من جديد الشارع العريض وبيوت الموظفين . وهناك بالقرب من الجامع ، تتراءى لي صورة أمرأة بعينين دامعتين ووجه متعب شاخ من الحزن قبل اوانه فاجهش بالبكاء .

(رغم انها لم تسفر ، سوف لايعرف الضحك طريقه الى شفتيها . بل وسوف لاتعرف طعم السعادة ، وبعد عام سطا لصوص مسلحون على القصر ، يجمعون اثاثها ومدخراتها ، ستشاهدهم بأم عينيها ، ستتظاهر بالنوم ، مشلولة من الرعب . ستهطل دموع غزيرة ولكنها لاتجرؤ على النبس بحرف سيسرقون كل شيء وسوف تبكي بصمت) .

اعداد : ادم محمد

المصدر: شفق نيوز، 12/4/2012