حول تزييف التواقيع ومداهمة مقر طريق الشعب

لا شك أننا محظوظون لكوننا نعيش في عصر الانترنت، هذا النتاج العلمي العظيم الذي يعتبر ثورة في التقنية المعلوماتية، والتواصل والتقارب بين البشر، ونقل المعرفة والمعلومات بسرعة البرق وعلى أوسع نطاق. لقد وفر الانترنت الفرصة لاستخدامه كوسيلة حضارية لنقل الرأي والرأي الآخر، وإسماع صوت من لا صوت له إلى العالم في مختلف المجالات، ومنها نشر نداءات وحملات الدفاع عن قضايا مشروعة وعادلة، أو تدشين حملات احتجاج ضد إجراءات تعسفية تقوم بها حكومات ضد جهات دون وجه حق، فصار بإمكان أية جماعة عرض مظلوميتها على الرأي العام ضد التعسف ومن أي مصدر كان. ولكن في نفس الوقت، فالانترنت، وكأي منتج علمي آخر، هو سيف ذو حدين، يمكن استخدامه لأغراض نزيهة وغير نزيهة في آن.

مناسبة هذه المقدمة المقتضبة أن نظم عدد من المثقفين العراقين (حملة احتجاج ضد نشاط جهاز المخابرات العراقية ضد أعضاء الحزب الشيوعي العراقي)، نشروها على موقع (الحوار المتمدن) الموقر، وهو تقليد حضاري اتبعه الموقع منذ تأسيسه لدعم هذه الحملات، وكان كاتب هذه السطور قد نظم عدداً منها، ونشرها على نفس الموقع وبدعم هيئة التحرير مشكورين، وكان آخرها مطالبة الحكومة العراقية برد الاعتبار لثورة 14 تموز وقيادتها الوطنية.

والمعروف أني نشرت مقالاً شككت فيه بصدور مثل هذا الكتاب من الأجهزة الأمنية ضد الشيوعيين، إذ لم يصدر تأكيد من قيادة الحزب الشيوعي حوله، عدا بعض التلميحات غير المؤكدة، خاصة وهناك جهات تدفع الحزب إلى صدامات مع السلطة في محاولة لا تخدم الحزب ولا العملية السياسية الهشة. وفسر عدد من الكتاب المحسوبين على اليسار مقالي هجوماً على الحزب، رغم أن النقد من مبادئ الماركسية، ولكن للأسف الشديد يعتبر النقد في العراق هجوماً يستوجب التأليب ضد الناقد، فظهرت مقالات صاخبة ضدي لعدد من الكتاب (فزعة عرب!)، وبأسلوب متشنج ومتوتر أبعد ما يكون عن روح الحوار الهادئ الهادف إلى خدمة الحقيقة وتنوير الرأي العام.

كل ذلك طبيعي ولا غرابة فيه وفق المعايير العراقية، ولكن الغريب في الأمر، أن فاجأني أصدقاء بخبر مفاده أنهم رأوا توقيعي برقم ( 459) على قائمة الموقعين لدعم الحملة، أضيف بتاريخ 26 آذار المنصرم، أي يوم نشر مقالي المذكور أعلاه وذلك لإحراجي، لأن إضافة توقيعي على الحملة يتناقض مع المقال. والأكثر غرابة أن توقيعي المزعوم هذا مرفق بمعلومات لم تكن مطلوبة عادة في مثل هذه الحالات مثل مكان إقامتي افي بريطانيا والعراق، وانتماءاتي السياسية السابقة... الخ. وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل قام البعض منهم بتعميم رابط الحملة على معارفهم، يحثونهم على التوقيع، ذاكرين لهم أن عبدالخالق حسين قد وقع على النداء، إذ اعتبروا وجود اسمي (دون غيري) على قائمة الموقعين كعامل ترويج للحملة، وهذا اعتراف منهم على مكانتي بين القراء الكرام لتزكية الحملة. كما وراح آخرون ينشرون الخبر كتعليق على مقالي في موقع (عراق القانون) وربما في مواقع أخرى، مما اضطررت للرد على القارئ الكريم، فأوضحت له، أن مجهولاً أضاف اسمي دون علمي، وهذا تزييف وعمل لا يليق بسمعة الحملة وأهدافها ومنظميها. ففي الوقت الذي أدين فيه أي عدوان على الحزب الشيوعي العراقي من أية جهة أمنية أو غيرها، أو على أي حزب آخر مؤيد للعملية السياسية في العراق، ولكن توقيعي هنا أضيف بدون علمي وهو عمل مدان، وكما وصفه أحد الأصدقاء بـ(القرصنة).

وأخيراً، وبعد الإتصال بالأستاذ رزكار عقراوي، رئيس مؤسسة الحوار المتمدن، قام مشكوراً بحذف توقيعي من قائمة الحملة.
*****

حول مداهمة مقر جريدة طريق الشعب
ومما زاد في تعقيد المشكلة والطين بلة، أن قامت مجموعة من القوات الأمنية ليلة 26/27 آذار المنصرم بمداهمة مقر جريدة (طريق الشعب)، وهو عمل أدينه أشد الإدانة كما أدانه غيري. وبهذه المناسبة، كتب لي صديق شيوعي، رسالة جاء فيها: (لعل ما حدث ويحدث يجعلك تقلل من دفاعك المستميت عن حكومة المالكي وزمرته لتعود - كما عرفناك قبل هذا- محللآ رصيناً وسياسياً موضوعياً...الخ).

في الحقيقة نزلت هذه المداهمة نعمة من السماء على أولئك الذين يريدون تصعيد الصراع بين الحزب الشيوعي والسلطة. وتفسيري لهذا العدوان على مقر صحيفة الحزب هو كما يلي:
الكل يعرف أن السلطة، من القمة إلى القاعدة، وبالأخص الأجهزة الأمنية، هي مخترقة من قبل البعثيين وغيرهم من الإرهابيين والمخربين الذين يعملون ليل نهار لإفشال العملية السياسية، وما قضية طارق الهاشمي إلا الجزء المرئي من الجبل الجليدي في هذا الخصوص. والآن صار من المؤكد، وكما صرح أحد المسؤولين في السلطة، أن معظم العمليات الإرهابية تقوم بها عناصر من داخل الأمن. وعليه فلا عجب أن تتم مداهمة مقر الحزب الشيوعي لإحراج موقف المالكي، ولإعطاء ذخيرة حية لخصومه ضده، بل وحتى المالكي نفسه معرض للإغتيال في أي وقت من قبل عناصر اخترقت الأمن وربما حتى من حمايته.

فشرحت الوضع للصديق الذي عاتبني على موقفي من السلطة بما جاء أعلاه، وسألته: ماذا يريدني أن أفعل، هل أنضم إلى جوقة الهوسات والصراخ، والمساهمة بحرق مؤسسات الدولة، وأسميها انتفاضة شعبية ضد حكومة المحاصصة الطائفية الفاسدة؟. وهل هذا الإجراء يقدم العلاج الناجع للعلة العراقية المستعصية؟

أقولها للمرة الألف، أني لم ولن أدافع عن المالكي ولا عن السلطة، بل أرفض تصديق الأخبار الكاذبة، وشخصنة المشاكل العراقية المتراكمة بشخص واحد اسمه نوري المالكي لا لشيء إلا لأن وضعته الأقدار في موقع المسؤولية الكبرى. ولذلك، شخصياً أدنت في مقال سابق لي قرار السلطة في العام الماضي بإخلاء الحزب الشيوعي لبعض الأبنية الحكومية، وكذلك أدنت تجاوزات الأمن أو مجلس بغداد على نادي الأدباء، ولكنني في نفس الوقت أعتقد أن الأزمة لا يمكن حلها عن طريق التحريض والتأليب ضد الحكومة المنتخبة وإسقاطها في الظروف الراهنة، بل بالحوار الهادئ، والنقد البناء، فالتحريض وإثارة العداء ضد السلطة، تصب في خدمة البعثيين وغيرهم من أعداء الشعب العراقي، واقترح على الذين يختلفون معي أن يقدموا الحل العملي الصائب إن كان لديهم مثل هذا الحل السحري.

والجدير بالذكر، أن قيادة الحزب الشيوعي عممت بياناً لها إلى منظمات الحزب في الداخل والخارج يوم 28/3/2012 جاء فيه: "قامت قيادة اللواء الثامن (شرطة اتحادية) والتابعة لقيادة عمليات بغداد، بالمجيء إلى مقر الحزب والاعتذار، عما قامت به مفرزة من نفس اللواء قبل يومين بمداهمة مقر جريدة الحزب في "أبو نؤاس" ورفض هذا الأسلوب وأدانته، مع استعدادهم لدفع كل التعويضات المطلوبة. وسيكررون زيارتهم لغرض الاعتذار ثانية إن تطلب الأمر. للعلم"

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: في أي وقت من تاريخ العراق، أو غير العراق، قامت أجهزة أمنية بمداهمة مقر لحزب شيوعي أو غير شيوعي، وقدمت الحكومة الاعتذار للحزب، وتعهدت بدفع التعويضات المطلوبة عن الأضرار؟ ألا يدل هذا على أن هناك اختراقات لأجهزة الدولة تعمل على خلق صراعات بين الحزب الشيوعي والحكومة؟
ومن الجانب الآخر، أخبرني صديق مقرب لقيادة الحزب الشيوعي، أن الانتقادات التي أوجهها للحزب يطلقها حتى شيوعيون من داخل الحزب نفسه، وأن هناك صراع داخلي بين جناحين في الحزب، جناح معتدل يريد تجنب الصدامات مع السلطة، وحل المشاكل بالوسائل الديمقراطية الهادئة، بعيداً عن الأساليب الغوغائية والديماغوجية، وجناح آخر لا يعرف من النضال سوى النزول إلى الشارع والعمل على تصعيد الصراع والصدام مع السلطة، وأن السيد حميد مجيد موسى هو رجل السلام بين الجناحين المتصارعين، وإذا ما خرج من القيادة فسينشق الحزب إلى حزبين أو أكثر. والمتطرفون في الحزب يستعينون ببعض الشيوعيين السابقين المتشددين من الحرس القديم في الداخل والخارج لتصعيد الصراع. ولهذا السبب هناك أكثر من عشرة تنظيمات ماركسية في العراق، واحتمال ظهور المزيد منها، وهذه التعددية المفرطة لا تدخل ضمن تعددية المنابر، بل حالة مرضية تدل على تشتت وتمزق اليسار.

ولذلك ما أن نشرتُ مقالاً فيه نقد بناء ونصائح لصالح الحزب، حتى واعتبره المتشددون في الحزب وخارجه، وكأنه هجوم وشتائم، فراحوا يؤلبون أصدقاءهم من الكتاب في الرد عليَّ بمنتهى التشنج والتوتر، لا ينسجم مع أخلاق الشيوعيين، بل هو أقرب إلى أخلاق البعثيين، إذ اتخذت الحملة ضدي صفة الإرهاب الفكري والبلطجة ضد كل من يتجرأ بالنقد لسياسات الحزب.

خلاصة القول، أنني ضد أي عدوان على الحزب الشيوعي العراقي، وأؤمن أن حرية النشاط السياسي للحزب الشيوعي في أي بلد هي مقياس الديمقراطية. كما ولستُ في جيب أحد كما يدعي البعض بتكرار ممل، ولا أدافع عن السيد نوري المالكي ولا عن السلطة، ولكنني أرى أن العراق بعد تحريره من الفاشية، هو أشبه بمريض خرج تواً من صالة العمليات الجراحية، وهو الآن في قسم العناية المركزة. وقادة الأحزاب المشاركة في العملية السياسية هم الأطباء الذين تقع على عاتقهم معالجة هذا المريض بمنتهى العناية والرعاية. وكلنا يعرف أيضاً أن البعث ترك العراق خرائب وأنقاض، إضافة إلى تكالب فلول البعث والإرهاب الوهابي الدولي، والاقتتال الطائفي الذي أودى بحياة عشرات الألوف من أبناء شعبنا، مع تكالب دول الجوار لإفشال العملية السياسية ووأد الديمقراطية الوليدة لكي لا تصل عدواها إلى شعوبهم. هذه الحقيقة والمخاطر المحدقة بالعراق يجب أن يعرفها الشيوعيون قبل غيرهم.
كما وأعتقد أن ما يجري في عراق اليوم هو أشبه بما حصل أيام ثورة 14 تموز، حيث الصراعات الدموية نفسها بين القوى السياسية والسلطة، والتي أدت إلى نجاح أعداء العراق في ذبح الثورة وقيادتها، وأدخلوا العراق في دوامة صراعات دموية لحد الآن، دفع الشيوعيون ثمناً باهظاً أكثر من غيرهم. لذلك ننصح الشيوعيين أن يستفيدوا من تجاربهم المريرة الماضية، ومن الخطأ الدفاع عن أهداف حزبهم بأساليب بعثية.

د. عبدالخالق حسين
4/4/2012

abdulkhaliq.hussein@btinternet.com العنوان الإلكتروني
www.abdulkhaliqhussein.nl الموقع الشخصي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
الشرطة الاتحادية في بغداد تقدم اعتذارها للحزب الشيوعي
http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=14582