قصص لا تنطوي 12

الزيارة الاخيرة..


وَلَيْسَ لِمَنْ لَمْ يَمنَعِ اللَّهُ مانعٌ

ولا لقضاءِ اللهِ في الارضِ غالبُ

ولو رَدَ ميتاً وَجدْ ذي الوجدِ بعدَه

لردَك وجدي والدموعُ السواربُ



«من روائع الشريف الرضي»

تتشابه الاحزان وان اختلفت الالسن…


تمر على الانسان لحظات مُرّة، وكثير ممن على شاكلتي أيامهم تدور في دوامة من الاحزان. احزان لن يطويها تعاقب سنيـن بل أستطيع أن أجزم بانها تزداد سنة بعد أخرى ببعد، وتباعد، وفقد أحبة لنا… ولكن هربا من شظف الزمان، وفي حالتي "عقوق" فضيلة النسيان.. أحاول جاهدة أحياناً أن ابقى جليسة البيت اقلب بعضاً من صفحات حلو ايامنا في بغداد وذكرياتها البعيدة، اتذكر صور ابي وامي، اخوتي، صديقاتي وأحاديثنا أو أن أسترجع مع أطيافهم عبق رائحة الماضي البغدادي، ولكن، رغم حلاوتها تلكم فهي تكسي ركناً واسعاً من احزان قلبي اليوم، تسحبني تلك دوامة وتدور بي أحياناً بجاذبية لا أقوي الانفكاك من أسر أوجاعها.. من شدتّها، ألجأ الى أحدى الغرف، افتح دولاباً احتفظ فيه بمقتنيات لوالدتي (رحمها اللّه) من ملابس وأغراض شخصية آليت ان أبقيها لعلها تسعفني حيـن تعتل الذاكرة وتنقبض نفسي، أقلب معطفها، أشم رائحة أمي فيه، أتهامس وكأنها معي، أشعرها بقربي، أتعلق للحظات بتلابيب ثيابها كالاطفال.. دموعي تغالبني، يمر طيفها باسماً أمام وجهي، وكأنه يخاطبني ما خطبك يا زهراء؟.. بعد هنيهات يخفت إضطرابي وتهدأ روحي وأنا أتذكر طيّب كلماتها، ولينساب خيالي بعيداً في رحلة هيام مع همساتها…

تسارع الذاكرة بعدها لنتخطى معا، الى جانب آخر من حنايا مؤلمة، حنايا تطل من زواياها وجوه إخوتي، إخوتي الذين قضوا في سجون صدام، ولطالما جاهدت فيهم مخيلتي وذاكرتي، ليحتفظان بما كان يوما في خزينهما منهم ومن ماض لنا معاً.. ولكن، وإن نكصتني قدرات الوجد والذاكرة، حتى ألجا الى ذلك الصندوق الخشبي القديم حيث أحتفظ فيه بصورهم أيام كانوا وكنا معاً ترف علينا ظلال الخير في قديم بغداد، لتضرم فيّ ناراً، لا يطفيء سعيرها حتى غزير دموعي.. صور لهم جمعتها من أقارب بعدها، إلاّ احد اخوتي - إبراهيم - فلم تكن له عندي صورة، ولم أفلح في العثور على صورة له، وكان ذلك يزيد من كمدي.. أحبتي، حتى صورهم منعنا زوار ليل، قساة، غلاظ، من أن نأخذها معنا في تلك الليلة اللعينة عندما إخترق سكون الليل أصوات طرقاتهم اللحوحة، وضجيج قعقعات سلاحهم وهم يقتحمون بيوتنا وأحلامنا، ليقتلعونا من أمانها وأمان حنان والداي. حقدهم كان بلا حدود، حرمونا من أن نحمل معنا ما قد تتواصل ذاكراتنا معهم!! .. لكن والحمد لله، وبعد بحث مضني عند زيارتي الاولى للعراق عام 2003 عثرت على صورته عند احد الاقارب في بغداد.. صورة لأخي إبراهيم عندما كان في مرحلة الابتدائية، وكم فرحت بها، ابراهيم هذا مر بسلسلة من التوترات بعد ان صفى المرتزقة البعثية اعز اصدقائه في حرم الجامعة وأمام عينه.. لتخطفه أياديهم بدوره ويختفي وراء أكوام إجرامهم الوحشي..


***

سؤال يخيم عليّ دوما.. لماذا يتعرض الطيبيون من البشر دوما لمحن تقصم الظهر،تجعلك تبكي بعدها دهرك كله؟؟

وما الحكمة في أن يعيش الظالم حياة هنيئة ويسعد؟ في حيـن تنقلب حياة الضحايا ويعشش فيها الهم والغم !!! هذا السؤال كنت اكرره بالحاح على والدي رحمه اللّه ونحن في المنفى ..

اليوم نفس السؤال يطرحه علي اولادي: ماما لماذا يترصد القدر الطيبيـن، وفي اكثر الاحيان تنتهي رحلتهم بموت مبكر؟؟

أحير نفس حيرة والدي، وأردد ما كان يكرره والدي على مسامعي «المؤمن مبتلى» !! مقولة دارجة انا نفسي (والعياذ بالله) غير مقتنعة بها أحيانا؟! ومعظم الاحيان جواب أبي المشفوع بابتسامته الخفيفة كانا لا يشفيان غليلي، أرد عليه بعناد وبشك شديد، حول الحكمة في ذلك، ولماذا على الجانب المقابل لا يُبلى المجرم بمعيار مضاد؟؟

والدي يبتسم ويقول زهراء من اين لك بكل هذه التساؤلات؟..

أجيبه يا أبتي: وهل كل ما مررنا به هذه السنيـن إلاّ دعوة لهكذا تساؤل؟..

فيجيب: كلنا مبتلون، أما هؤلاء المجرميـن الذين تقولييـن عنهم، فسيوفيهم الله حسابهم من دون نقصان

واليوم نعم اكرر سؤالي وسؤال أولادي: لماذا فقط الطيبيـن من البشر هم مبتلون؟؟

هل هم ضعفاء؟؟ هل هم مقصرون؟؟ أم هل هم مذنبون؟؟

وهنا أعترف فمحاولة مداواة تساؤلاتهم بنفس دواء أبي غير ناجعة.. ولا تقنع اولادي ..صغيري يلح لماذا مثلاً المجاعة في افريقا تحصد منهم الالوف المؤلفة فوق عنف أنظمتهم؟؟ كما كان يحدث في بلدكم العراق…؟ وهي أيضا ابادة جماعية لا تختلف عن إستعمال السلاح الكيمياوي ابداً. ***


قبل ايام اتصلت بي طبيبتي لتتفقد اموري الصحية فهي صديقتي وتعرف الكثير عن محنتي، جلست جنبها فبادرتها ما الخطب لماذا احضرتيني في هذا الصباح وانا لست على ما يرام؟؟ .. فقالت زهراء كيف حال اولادك فقلت بخير وبادرتها وكيف هم ابنائك..فصاحت آه.. فكل واحدا منهم يريد ان يعمل على مزاجه.. فقلت لها وما الضرر في ذلك راقبيهم من بعيد، لكن اتركي الباب مفتوحا قليلاً لتعلمي ما يدور.. وكأنها تنبهت إستغرابي لدعوتها لي، فقامت ووقفت امامي قائلة: أعلم بأن اصابع صدام ونظامه دمر حياتك وحياة اولادك، لتسترسل وتضيف يا زهراء هل تعلميـن بإن مدرسة إبنك إتصلوا بي، وأرسلوا لي رسالة كطبيبة للعائلة يبغون بعض الايضاحات عنك، وذلك بعد ان كتب إبنك الصغير قصة تناول فيها مشاعره وتفاصيل مأساة حياتك وانعكاساتها عليه يومياً.. ورغم إن قصته حازت على مرتبة أولى، إلاّ إن خيوطها دفع مديرة مدرسته بإرسال نسخة منها الى طبيبة العائلة وطالبت بايضاحات عن حالة العائلة وتاريخي.. وأردفت الطبيبة بأنها أجابتهم بما فيه الكفاية من دون أن تسترسل في خصوصياتي الصحية.. لتنبهني بعدها بان ولدي ورغما عنه صار يحمل جزءً من همومي وهذا لا يجوز.. قلت لها، ولكنه البارحة فقط إستيقظت صباحا لأرى زهوراً جميلة جنب فراشي.. وهو نفسه عمل لي حلوى مع صديقه إحتفاءً بيوم ميلادي.. ليسألني بعدها: ماما هل اعجبك الورد؟.. اعرف انك تحبينه، انا وصديقي عملنا لكي كيكه مع شمعة، ولم يكتفي بكل ذلك فقد صنع لي في ورشة مدرسته صندوقا صغيرا للمقتنيات بألوان جميلة فقلت له انه اجمل هدية. فردتني طبيبتي: ولكنك تحمّلينه الكثير وتمررين وزر همومك الى صدره مع عمره الصغير.. وحينما ضمنّها كقصة حزينة من واقع يومياته يتكلم فيها عنك وعن محنتك، ومع لغتها وحبكتها، فقد أثارت بعض الفضول والاهتمام عند مديرته لترسل لي مستفسرة!!

ناولتني نسخة من قصته.. بعضاً من كلمات قصة ابني يقول فيها: «… امي العزيزة ملاكي، هي كضياء شمعة تضي لي طريق حياتي.. لكنها لا تبالي بحياتها عرضت نفسها للموت والقتل في بلدها العراق عدة مرات وهي تبحث عن قبور إخوتها الذين إختفوا منذ سنيـن.. وأنا جداً قلق عليها، رغم إني اعتقد بان هناك روحاً طيبة معها، تحرسها، ولكن، ربما في يوم ما تلك الروح الطيبة لا تعد تحرسها.. فماذا افعل.؟؟ ان فقدتها!! لا أدري ما سيحل بيّ.. هل يا ترى ارمي بنفسي في تلك البحيرة التي تتردد هي عليها من وقت لآخر لترمي فيها أربعة وردات حمراء اللون بعدد إخوتها الذين غيّبهم نظامهم….» فقلت لها انا لا ابكي امام اولادي ابدا.. فقالت ليس بالضرورة ان تبكي أمامه، فهو يحس بك على خلاف ما تحاوليـن أنت أن تخفيه عنه. تذكرت امي رحمها اللّه، نادرا ما كانت تبكي على إخوتي امامنا، لكن حزنها كان يستبان في كل ملامحها، وإن إصطنعت إبتسامة أو فبركت بهجة، وغالباً ما كان ذلك يحث فيّ أنا بدوري مسحة من توارد أحزان.. طبيبتي تقطع أفكاري متسائلة: ماهي امانيك في هذه الدنيا؟ فأرد ان اعثر على قبور أخوتي واخط اسمائهم عليها، وارجع حقوقنا وحقوق والدي … ترد عليّ: وكأنك تبحثيـن في كومة رمال؟.. تضيف ياابنتي احس بألمك، فأنا كان أبي عسكرياً هو واخيه في الحرب العالمية الثانية، وفقدوا خلالها، لم يُعثر عليهم ليومنا.. ورغم إني كنت صغيرة ولا أتذكر كثيراً عنهم، ولكن لا أخفيك سراً بأني أفتقدهم من حيـن لآخر، ومثلك ألجا الى صورهم لتتواصل معهم أفكاري.. قلت لها نعم تتشابه الاحزان وان اختلفت الالسن بالتعبير عنها..

فهمست مع نفسي، ولكن لماذا في بلدي يطلبون منّا النسيان والصفح؟!!.. والقاتل مازال يقطف الرؤؤس هنا وهناك وبصمة الفاعل هي هي لم تتغير منذ عشرات السنيـن…

***

وإستكمالاً.. فلكل إنسان منّا خزين ذكريات بحلوها ومرّها، فيها وبها تترسخ أعماق ذاكرة، تتآصر مع الضمير، لا تفارقنا.. ومنها ما نحب ان نتشبث بها للسلوى التي تبعثها فينا، أو لمعزّتها أو لغلاوة شخوصها. ترافقنا الى أن يزحف الموت الينا حثيثاً.. حينها يمرّر ذلك الخزين أو بعضه ليحتضنه احبة واقربون، ليواصلوا بدورهم حياتهم وتجاربهم بعد ان تنتهل منه، وتتشابك خيوط ذاكراتنا، أطيافنا مع أطياف أحبتهم، ويحفظوا وداً عميقاً، وتجربة في وجدانهم لكل جميل قد نكون مررنا بهن سوية، بعد ان يلف بدوره أديم الارض أجساد السابقيـن، وهكذا تمضي ومضت الدنيا…

أما في حالتي انا!! فان سردها أحياناً ما ينتهي بنكوص صحتي يبلغ مبلغه مني لأسابيع، حتى وان كان في بعض الاحيان، سرداً لجميل وحلو من ذكريات، عن اخوتي واحبتي وصديقات عمري مثلاً !! أو حلو أيام طفولتنا في بغداد..

وكذلك.. عندما يتبادل الاصدقاء من مختلف الوان البشر ومن مختلف معترك الحياة ما تشابه من ذكريات وخواطر وطريقة سردها.. فمن طبيعة النفس البشرية ان تتلمس راحة وملجأً عندما تتوازى أو تتشابه تلك الهموم، أو يستمع واحدنا ليشاطر من حوله عللّ قلبه.

***

رن تلفون بيتي والساعة قاربت منتصف الليل.. انتابني خوف وقلق، حيث ان أحد اولادي يدرس في مدينة أخرى بعيدة.. يارب خير.. قفزت من نومي، رفعت السماعة، سألني صوت من الطرف الاخر: هل انت زهراء؟.. أجبت: نعم.. ونبرة صوتي فيها إرتباك وتساؤل واضح، إستدركت المتصلة فاضافت: آسفة جداً لازعاجك في هكذا ساعة من الليل عندكم، انا ممرضة قريبتك (ف) ان حالتها ليست بالجيدة.. هل بامكانك ان تأتي لزيارتها وبأسرع وقت؟؟ فهي بحاجة ماسة لمن يعودها!! أضافت ان الامر لا يحتمل التأخير، ونحن نعلم كما دونتيه في سجلات زياراتك السابقة لها، بانك هنا قريبتها، وصديقتها الوحيدة وانت طلبتي منّا أن نعلمك وبسرعة إن إحتاج الامر يوما ما.. فاجبتها نعم سوف آتي غدا لو حصلت على حجز سريع.. قلبي دقاته أخذت تتسارع، أنا نفسي كنت قد غادرت المشفى قبل أسابيع بسبب مرضي.. حزمت أمري للرحيل الى صديقة عمري، وهاجس في داخلي ينبئني بان ساعة رحيلها قد أزفت.. آه يا بقيتي الباقية من صديقات دهري.

***

وكما مررت سابقاً على قصة (ف) صديقة عمري التي رمى بها الدهر من جراء إجرام النظام السابق (فاقدة لعقلها من شدة ما حدث لها على أيدي المجرميـن في المعتقل بداية ثمانينات القرن الماضي - أثناء حملتهم الوحشية بحق الكورد الفيلية وآخرين من العراقييـن) في أحد المصحات النائية في أوروبا بعد أن هرّبها أقاربها، قبل أن يُغيّبوا هم بدورهم الى الابد في سجون الطاغية. صديقتي (ف) كنت أعودها كلما سنحت لي الفرصة. (وقد مررت على قصتنا معا في حلقة: قصص لا تنطوي .. وكذلك أيضا في حلقة: قصص لاتنطوي 6 .. الصداقة..أنبل آصرة إنسانية)

***

يسرّ الله أمري. حصلت على تذكرة بسرعة، قاصدة منفاها (مشفاها) الابدي، ذاك.. تعودت أن أزورها في أثناء عطل رأس السنة (أعياد الكرسمس).. تعصف في داخلي مشاعر وأحاسيس.. يا ترى ما بها صديقتي؟؟ هل قربت نهايتها بعد أن هدّها المرض. مهلاً مهلاً يا صديقة عمري ؟؟ رحت أغرق في افكار قاتمة.. تركت اولادي على عجلة وانا في حيرة من امري.. كنت طوال الرحلة أدعوا اللّه ان يكون الامر خيراً.. وأن أصل قبل حدوث أي مكروه لا سامح الله..

هذه المرة، الامور كانت تسير بسرعة ويسر عجيبيـن، فقد نجحت في الحصول على تذكرة الطائرة في الصباح التالي من مكتب وكيل السفر ، ومن بعد رحلة الطائرة، نجحت في اللحاق بقطار كان على وشك الانطلاق.. وأنا في طريقي الى مشفاها النائي انظر الى تلك الحقول الخضراء وقع نظري على مقبرة بيـن الحقول الخضراء الجميلة..أما تلك التلال بجنبها فتوشحت بوشاح بنفسجي زاهي تزينها زهور الخزامي الجميلة بنعومة وانسيابية.. رمز الموت وسط علامات أمل وحياة - حقول الزهور تلك!! يا لها من مفارقة!!.. الغريب إني لم ألحظ تلك المقبرة في زياراتي السابقة مع إنه خط سير القطار المعتاد.. انتاب قلبي حزن وضيق وصرت أبتهل لرب العالميـن ان تكون بخير.

وعاد طيفها بيّ الي الوراء لأتذكر كم كانت هي مولعة بمنظر حقول زهور الخزامي.. ولكن هل كان منظر المقبرة وسط تلك الحقول مجرد مصادفة، أم إن القدر يرسم أمامي صورة قادمة ومترابطة؟!!..

وصلت القرية واخذت التاكسي الى المشفى.. وعندما نزلت من التاكسي وقع نظري على طائر لونه اسود وابيض (شبيه بالغراب) يقولون انه علامة شؤوم ورحت أردد في نفسي خير انشاء اللّه خير!!

دخلت صالة الزائرين ووقعت بيانات حضوري، كان في استقبالي طبيب وممرضة، بادروني زهراء هل ترغبيـن في قدح من القهوة؟ كنت في إضطراب وتوتر شديدين.. وصداع يكاد يفجر رأسي.. عاجلتهم بسؤالي: أرجوكم كيف هي؟ فقالوا ليست بخير انها مسألة ساعات فقط لا غير… أحسست بحاجة شديدة الى أن يكون أحداً جنبي، سرت مع الممرضة والطبيب في تلك الممرات الطويلة، وأنا أدعوا الى الله بان يكونوا مخطئيـن في توقعهم ذاك، غيرّوا غرفتها، نقلوها الى طابق علوي (طابق خاص لمن هم في مراحل حياتهم الاخيرة ومشرفيـن على الموت).

دخلت غرفتها.

***

ها هي حبيبتي، وحيدة مرمية على فراش، قناع الاوكسجيـن يغطي وجهها النحيل، يا ربي جسدها غدا ضئيلاً أكثر من السابق.. كأنها نائمة، جلست عند رأسها… حشرجاتها مضطربة، خافتة، حزينة من وراء القناع وهي تجاهد لتتنفس.. لبرهة، لم أستطيع الكلام، لثمت يدها الصغير وقبلته، وكأن البرد تسلل اليه!! نظرت إليّ الممرضة بعطف وقالت سنتركك معها الآن..

سلمت عليها، وإنحنيت عليها، قبلت جبينها.

تهزني حالتها كلما زرتها، وينتابني أسى عميق، ألوذ معه بصمت ونحيب، مضى وقت ليس بالقصير لأستجمع نفسي.

ناديتها: ياعزيزة قلبي، ما بكِ؟؟

فتحت عيناها، وكأنها تبحث في أركان الغرفة، فهي فقدت فوق كل ذلك بصرها.. ولكنك رغم ذلك ترى فيهن كل آلام ظلمها في العراق، ووحشة وحدتها وغربتها في هذا المنفى.. مشاعر عصية عن وصف.

عيناها الكبيرتيـن غائرتيـن لون القزحية فيهما قد تغير؟! (يقال) انها علامات عند من أصيبوا بسكتة دماغية، نظرت اليها، كانت كالطير المذبوح، تكلمت معها بعد فترة، لحظتها اعطاني رب العالميـن سبحانه قوة وصبراً، أخذت تحرك رأسها وهي تحاول ان تستبيـن من هي صاحبة الصوت، صرت ألاطفها ككل مرة لأخفف عني وعنها، وأكلمها عن ذكريات طفولتنا وأيامنا معاً في العراق، وكأنها هدأت قليلاً وعاد تنفسها رتيباً نوعاً ما، بعث ذلك في قلبي شيئاً من الطمأنينة، تشجعت أكثر، أما هي فبعد أن سمعت صوتي، حركّت أكتافها كمن يستجمع قواه لتنهض أو لتعدل جسدها، تعابير وجهها بان فيه شيء من الفرح، بسمة خفيفة على شفتيها. ولكن لشدة مرضها فهي كانت تغفوا للحظات من أثر المورفيـن (المخدر لتسكيـن وتخفيف الالم) لتصحوا بعدها، مرتبكة تتلمس يدي للتأكد من أني ما زلت جنبها، بقت تغالب حالتها هذه، وأنا أروي لها كل ما خطر على بالي وقتها من سالف ذكرياتنا معاً. من بعدها رحت أقرأ لها بعضاً من سور القرآن، لتسكن مواجعنا بها نحن الاثنتان.. وفاتن صديقتي بيـن يقظة وسبات، بتنا على هذه الحال لوقت ليس بقصير. وكلما أفاقت تلتفت يمنة ويسرة لتستطلع مصدر صوتي.. وبعد أن تميز الصوت تتنهد بعمق وارتياح.. ولأشّد ما كان يألمني ولسنوات، أثناء زياراتي انها لم تستطع ان تتكلم او حتى ان تكتب كلمة....

***

وضعت خدي على خدها، أحدثها بصوت خافت، دموعنا تختلط، وأنا أستذكر في ذاكرتي وذاكرتها تلك الايام الجميلة..

أناجيها: أنا جنبك ياصديقة عمري، سوف ابقى معك طول الوقت، ابتسامة خفيفة تعلو وجهها..

وبعد مضي شوطاً من الوقت، مسكت يدها عاودت قراءة القرآن لها، وهي تنصت في خشوع، تسرب شيئاً من الدفأ الى أصابعها وكأن دبت فيها بعضاً من الحياة.. فراحت بدورها تضغط برتابة ورفق وكأني بها تخبرني بانها سعيدة بي الى جنبها.. أتوقف بيـن الحيـن والآخر لأحادثها، أسرد على مسامعها ما تسعفني ذاكرتي.. تتلفت وكأنها تحاول ان تخرق غشاوة حاجز ظلام أطبق على بصرها.. أحسها تجاهد لتنظر اليّ، لكن هيهات.. زفرة وحسرة تختصر كل شيء - لا حاجة للكلام، أتوقف لإستعيد رباطة جأشي، تهّز يدي كأنها تطمأنني ولتتأكد من وجودي..

يجيبني خاطرتها: زهراء إتركيني أرحل فما عدت أطيق هذه الحياة، أمضيت أحلى سنيـن حياتي وأنا حبيسة جسد مشلول، وذاكرة مقّطعة، مزقها الطغاة يوم إعتقلوني وعذبوني بوحشية قبل أكثر من ثلاثيـن عاما، لم أعد من حينها أتذكر أمي أو أبي وصورهما أو صور إخي ..

أجيبها همساً: ولكن انت لا ذنب لك في كل هذا!!

فتسترسل خاطرتها: ولكني كل هذه السنيـن وأنا حبيسة ذاكرة لا أتذكر منها إلاّ كيف ضربوني، وبشدة، وتجمعوا عليّ تجمع الذئاب على فريسة، بعدها غدت حتى خواطري مكّبلة.. لا تستقيظ وإن مهما حاولت، ولكني من حيـن لآخر أحلم بك تزوريني وكأني أسمع صوتك يهمس في أذناي.. صوتك هو خيط الحياة الوحيد الذي ربطني بهذه الدنيا للآن.. يا ربي لماذا حل بي وبأهلي كل ذلك؟؟ هل لأننا خلقنا كورداً فيلية؟!!.. وما ذنبنا في ذلك!!..

دموعنا تختلط ببعضها..

أقول: نعم.. نعم هذا أنا كنت أزورك، وأنا الآن باقية جنبك، وسأبقى أزورك

فتجيبني بخاطرة وفيها حشرجة وحسرة: أما الآن فيا زهراء بالله عليك دعيني أرحل!!


***

ساعات مضت، بعدها، سمعت صوت زوجي يتكلم مع الطبيب وهما يدخلان وخلفهما رجل دين قد آتى به زوجي لاتمام المراسيم.

خفق قلبي حيـن رأيت السيد المبجل يسلّم علينا، أيقنت حينها إنها ساعة الفراق لا محالة، ضغطت على يدها بشدة ولاول مرة أشعر بها تضغط هي بدورها..

صرت أبكي بشدة وهي تهز يدي (ولعلها شعرت بما يدرو حولها)، وكأنها تقول لي: لا عليك.. لا عليك فقد حان الآوان لأشكي بلواي الى الرحمن.

***

نظر السيد نحونا باشفاق.

وصار يردد بصوت مسموع:

ليس الغريب غريبَ الشام واليمن

إن الغريب غريب اللحدِ والكفن

سفري بعيد وزادي لن يبلغني

وقوتي ضعفت والموت يطلبني

دعني انوح على نفسي واندبها

وأقطع الدهر بالتذكير والحزن

***

دعني اسح دموعا لا انقطاع لها

فهل عسى عبرة منها تخلصني

كأنني وحولي من ينوح ومن

يبكي علي ومن ينعاني ويندبني

وقد اتوا بطبيب كي يعالجني

ولا أرى الطبيب بات ينفعني

***

ترقرقت الدموع في عيني ذلك السيد الجليل: يا بنتاي هذه أبيات للامام علي بن الحسيـن (ع).. وهو ينظر باتجاه سريرها.

***


إقترب السيد، وقف فوق رأسها، سّلم عليها بحنو أبوي، نزلت دمعة من عينها، أخذ يكلمها برفق وخشوع ويسأل عن حالها. ثم بدأ يرتل القرآن بصوت رخيم وحزين يأخذ بالمسامع، صَمت الجميع، تنهدت صديقة عمري وأشرقت أساريرها لسماع الآيات الكريمة والسيد يتلوها.

صرنا جميعا نقرأ لها القرآن وما حضر في أذهاننا من أدعية، وبيـن فينة وأخرى يتوقف السيد ويكلمها كلاماً أبويا عذباً ويلقنها، أما هي فبدت هادئة تستمع وشفتاها تتحركان بلطف وصمت وكأنها تردد ما يقرأ لها السيد الجليل، زحفت طمأنينة في أسارير وجهها لم أشهدها قبلاً، إسترسل السيد في ترتيله للقرآن، ومدامعه تسبل.

بعد فترة من الوقت، أخذ جبينها يتعرق، توردت وجنتيها، تسارعت أنفاسها، هزّت يدي هزة أحسست فيها وهي تودعني.

فتحت عينها وإرتد طرفها، حشرجة بسيطة، سكت كل شيء في جسدها، إلاّ دمعة نزلت ببطء شديد من مآقيها.

رحلت الى ربها الرحيم شاكية ألمها وظلمها.. في لحظتها احسست بنفحة هواء بارد مع رائحة جميلة جدا.. شممت نفس الرائحة الزكية عند وفاة والدتي، رائحة فريدة لا استطيع ان اقارنها وللآن بأية رائحة أخرى ابداً…؟

انتبهت الى صوت السيد وهو يردد لا حول ولا قوة إلاّ بالله.. لا حول ولا قوة إلاّ بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. الله ينتقم لك يا إبنتي

يطلب مني ان أغمض عيناها، أصابعي ترتجف، دمعي يغالبني.

***

ياعزيزتي رحيلك كان مبكرا ومبكرا جدا…

اعلم انك قد متِ يومها في تلك الزنزانة الوحشية في العراق.

بكيتك يوم نُفيتِ، ويوم رحيلك.

وما اقساها من غمضة عيـن.

رحلت (ف) عن هذه الدنيا وكأني بروحها حلّقت كفراشة في حقول زهور الخزامي البنفسجية.

زهور الخزامي البنفسجية كانت (ف) تعشقها في صغرها.. ودفنت بينها ..

يا احبتي لماذ يكون رحيلكم عنا دوما مبكرا.

تلك صداقة كانت كشجرة سرمدية مقدسة..

يا فريدة في غربتكِ، كنتِ كزهرة يانعة بيـن تلك المروج..

***

خلال مراسيم دفنها، وكأني بالطيور في الاحراش المحيطة تشاركني البكاء عليها وهي ترنم بلحن حزين…

وضعت إكليلاً من زهور الخزامي (اللافندر) البنفسجية حيث ترقد

كتبت على قبرها:

«هنا ترقد شابة عراقية

ولدت وعاشت في بلدها غريبة..

ماتت في منفاها غريبة..»

***

يا عزيزتي..

قبورنا تناثرت بيـن اوطان

في حنايا سهول وهضبان

وصحار ووديان..

وقلبي يبقى لك وطناً..

يا عزيزتي.. ما خفق

وما بقي فيّ من وجدان

***

ولن تطوى قصصكم

يا احبتي..

وحشة منفى

ولا قسوة زمان


زهراء محمد - ويلز - المملكة المتحدة
3/3/2012