حول توزيع الموارد النفطية على الشعب؟

طلع علينا السيد النائب السابق لرئيس الجمهورية، الدكتور عادل عبدالمهدي، بمقال طريف يطالب به توزيع الموارد النفطية على أبناء الشعب، كحل لمشكلة الفقر في العراق. والفكرة ليست جديدة حيث سبقه بها آخرون، إذ منذ سقوط حكم البعث الفاشي عام 2003 رحنا نسمع نداءات تطالب بتوزيع الثروة النفطية على الشعب وفق المادة الدستورية 111التي تقول بـ" ملكية الشعب للنفط والغاز". وقد حاول هؤلاء تفسير هذه المادة بطريقة عوجاء وعوراء لصالحهم، فاتخذوا منها ذريعة لتضليل الشعب، والتزلف للجماهير لأغراض انتخابية وفق مقولة (قول حق يراد به بالطل).

فأول من تبنى هذا الموقف، ونادى به هو الدكتور أحمد الجلبي، رئيس حزب المؤتمر الوطني، في حملته الانتخابية عام 2005 كمحاولة منه في دغدغة مشاعر الناس ليفوز بأصواتهم. ولكن هذه اللعبة لم تعبر على العراقيين "المفتحين باللبن، ويقرؤون الممحي، وما بين السطور!!". طرح الدكتور الجلبي هذه الفكرة وهو يخاطب أهل البصرة قائلاً لهم أن واردات النفط ستعود لهم لأنهم أولى بها من غيرهم!! وفكرة الجلبي مقتبسة من تجربة توزيع موارد النفط في ولاية ألاسكا الأمريكية، حيث وزعوا سندات تمليك أسهم الشركة النفطية على سكان الولاية، وكل مواطن منذ ولادته يستلم عدداً من الأسهم، ويفقدها عند الوفاة، دون أن يعرف الجلبي وغيره من أصحاب هذه الدعوة أن لكل بلد ظروفه الخاصة، ولا يمكن استنساخ التجارب. ومع كل تأكيداته ورفعه لهذا الشعار، فشل الجلبي فشلاً ذريعاً في حملته الانتخابية، إذ لم يصدقه أحد، لأن أبناء الشعب ليسوا مغفلين إلى هذا الحد، وبالتالي لم يحصل الجلبي على أي مقعد في البرلمان في تلك الانتخابات.

واليوم يحاول الدكتور عادل عبدالمهدي، أن يجرب حظه بنفس اللعبة التي فشل بها الجلبي، دون أن يستخلص الدرس القاسي، أن هذا الشعار هو فاشل وقد أكل عليه الدهر وشرب، ولكن يبدو، ومع الأسف الشديد، أن السيد عبدالمهدي، ورغم أنه متخصص في الاقتصاد، لم يدرك مخاطر رفع هذا الشعار البائس، وتأثيره المدمر على الشعب ومستقبله فيما لو طبق لا سامح الله.

فما هي أضرار توزيع الموارد النفطية على الشعب بهذا الشكل المباشر الذي اقترحه الجلبي وقلّده السيد عبدالمهدي؟
بعد الغزو صدامي الإجرامي للكويت، فرضت الأمم المتحدة الحصار الاقتصادي الدولي على العراق، وبموجبه تم إيقاف تصدير النفط العراقي كلياً، الأمر الذي ألحق أشد الأضرار بالشعب وأذله. لذلك، قامت المعارضة العراقية في الخارج آنذاك بحملة مطالبة المنظمة الدولية بالسماح للعراق بتصدير كمية من النفط لتلبية احتياجات الشعب الضرورية، وبذلك يكون ضرر الحصار على حكومة صدام وليس على الشعب. فصدر قرار مجلس الأمن الرقم 986، لعام 1995؛ المسمى بـ(برنامج النفط مقابل الغذاء Program Oil for Food) وهو برنامج يسمح للعراق بتصدير جزء محدد من نفطه، ليستفيد من عائداته في شراء الاحتياجات الإنسانية لشعبه، تحت إشراف الأمم المتحدة.
وقامت الحكومة آنذاك بتوزيع بطاقات التموين التي بموجبها كان المواطن يستلم كمية من المواد الغذائية لتبقيه حياً. وهكذا صار مصير العراقي معلقاً بهذه البطاقة التموينية، وبيد الحكومة، وأن حياته وحياة عائلته مهددة بالخطر فيما لو شكَّت الحكومة بولائه لها، وبذلك صار العراقي يعيش ليأكل، ولا يأكل ليعيش.
واليوم يطالب عبد المهدي بتوزيع الموارد النفطية على الناس بحجة حل مشكلة الفقر، والتخلص من ترهل أجهزة الدولة!!. وهذا يعني تعويد المواطنين على الكسل والخمول والاعتماد الكلي على ما تأتيهم من موارد النفط وحسب الأسهم التي يمتلكونها في المؤسسة النفطية وحتى بدون عمل. أما اقتراحه الآخر وفي نفس المقال بفرض ضريبة تصاعدية لدفع نفقات الدولة، فهذا الاقتراح هو الآخر فاشل، خاصة في مرحلة تفشي الفساد وعدم النزاهة، إضافة إلى كون هذا الاقتراح لو تحقق، فسيفتح أبواباً أخرى للنهب وسرقة أموال الشعب.

يتجاهل السيد عبدالمهدي، أن العراق بلد من بلدان العالم الثالث، وقد تركه حكم البعث الصدامي عبارة عن خرابة بسبب حروبه العبثية، وسياساته الطائشة، وإهماله لصيانة وإدامة المنشئات الاقتصادية والبنى التحتية. فالعراق وبعد سنوات عجاف من الحروب والخراب الشامل، إضافة إلى تعرضه للجفاف والتصحر، ومحاولات تركيا وإيران لتجفيف الأنهر، وهناك مخاطر الانفجار السكاني، لذلك فالعراق
يحتاج إلى ثروات هائلة ولعشرات السنين لإعادة إعماره، وترميم ما يمكن ترميمه ليستعيد عافيته، وبناء مشاريع صناعية وزراعية، والسكنية...الخ. ففي حالة توزيع موارد النفط على الناس وتعويدهم على الكسل والخمول، فمن أين ستأتي الدولة بالموارد الضرورية للإعمار، والصرف على مختلف الخدمات مثل التعليم، والصحة، والنقل، والأمن، والجيش، والمواصلات، ورواتب الموظفين وغيرهم من العاملين في مؤسسات الدولة......؟؟

إن النفط ثروة ناضبة، وهناك جهود يبذلها علماء الغرب للحصول على الطاقة من مصادر بديلة عن النفط، مثل (الشمس، والرياح، والشلالات وأمواج البحر...الخ)، ولذلك ليس مستبعداً أن يصبح مصير النفط كمصير الفحم، ليتحول إلى ثروة بائرة تحت الأرض قريباً. فماذا ستعمل الأجيال القادمة بعد أن تعودوا على موارد بدون عمل؟

والغريب العجيب، أن الدكتور عبدالمهدي يعرف هذه الأضرار فيما لو تم تطبيق اقتراحه، إذ يعترف في ختام مقاله بخطأ هذه السياسة ونتائجها: "كاحتمالات ازدياد الكسل والتسول والفوارق الطبقية ...وتحول المواطنين بشكل ما إلى موظفين لدى الدول"، على حد قوله. فيا دكتور إذا كنت تعرف هذه المخاطر، فلماذا تطرح اقتراحك الفاشل هذا؟

نعم، الثروات الطبيعية هي ملك الشعب، وهي ملكية عامة، ولكن تديرها وتستثمرها الحكومة المنتخبة باسم الشعب، ولصالح الشعب على شكل مشاريع اقتصادية وخدمية لرفع المستوى المعيشي للشعب، وهذه الثروات هي ليست ملك الجيل الحالي فقط، بل ملك الأجيال القادمة أيضاً.

د. عبدالخالق حسين
16/2/2012
ـــــــــــــــــــــــــ
عنوان المراسلة: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب: www.abdulkhaliqhussein.nl