مجزرة حلبجة لم تتوقف.. وضحايا غازات الخردل والأعصاب يموتون ببطء

كلّما نظر كامل أحمد الى اطفاله، يغرق في حزنٍ عميق، وتنتابه مخاوف من أن يفارق الحياة ويلاقي أطفاله المصير نفسه، عندما فقد أبويه وهو صغير.

كامل (38 عاما)، هو أحد مواطني مدينة حلبجة التي قصفها نظام صدام حسين بالأسلحة الكيمياوية عام 1988. حينها كان يبلغ من العمر 15 عاما.

ومن بين 500 مصاب آخرين بقوا على قيد الحياة في كردستان العراق، يعاني كامل من تأثيرات تلك المواد السامة، إذ فقد 84% من قدره رئتيه على العمل، فضلا عن ضعف حادّ في الرؤية يرافقه منذ ذلك الوقت.

هذا الشاب هو الشخص الوحيد الناجي من عائلته المكونة من تسعة أفراد. ففي 16 آذار (مارس) 1988، خسر كامل أبويه وست أخوات وأخ واحد كانوا من ضمن خمس آلاف ضحية أخرى لغازات الخردل والأعصاب.

يقول كامل لـ"نقاش": "منذ ذلك اليوم الذي فقدت فيه جميع أفراد عائلتي وأنا أعاني من إصابات خطيرة مازالت تهدد حياتي المريرة حتى هذا اليوم".

عندما نقل كامل إثر القصف الكيمياوي إلى إحدى مستشفيات إيران، كان قد أصيب بحروق كبيرة في جسده، إضافة الى ضيق في التنفس والعمى. "اتذكر أن جميع شعر جسمي تساقط"، يقول.

ويضيف كامل أنه فقد الوعي بعد القصف، لكنه علم فيما بعد أن أحد أفراد قوات البشمركة حمله وسلمه للقوات الايرانية ليتم نقله للمستشفى. "أمضيت أسبوعا كاملا من فقدان الوعي وعشرين يوما من العمى الكلي، وبقيت شهرين تحت العناية المركزة أنقل من مستشفى إلى آخر".

بعد ذلك، خرج كامل من المستشفى بدون موافقة الأطباء ليبحث عن عائلته، ويصدم بخبر مقتلهم جميعا: "آخر مرة رأيتهم فيها كانت أثناء القصف، قبل أن افقد بصري".

حسب الإحصائيات الرسمية لوزارة صحة الإقليم وتجمع ضحايا الأسلحة الكيمياوية، فإن هناك 500 مصاب بالأسلحة الكيمياوية ما زالوا على قيد الحياة، من بينهم 245 إصاباتهم كبيرة، إضافة إلى آخرين فارقوا ببطءٍ الحياة خلال السنوات الماضية، إثر تأثيرات تلك المواد السامة.

ويقول لقمان عبد القادر، رئيس تجمع ضحايا الأسلحة الكيمياوية لـ"نقاش": "في كل سنة نفقد عدد من المصابين. فقط في عام 2004 مات 73 شخصا متأثرين بإصاباتهم عام 1988".

آخر الضحايا امرأة كردية في 53 من العمر، توفيت نهاية العام الفائت: "طوال السنوات الماضية، عانت عالية فرج من اصابات خطيرة وعاشت حياة مليئة بالآلام" يقول عبد القادر.

ويوضح رئيس التجمع بأن المصابين تسوء حالتهم الصحية بتغير الطقس ودرجات الحرارة، خصوصا وأن لدى معظمهم مشاكل في الجهاز التنفسي. "تغير درجات الحرارة يصيبهم بضيق في التنفس وفقدان الوعي في كثير من الحالات"، يوضح.

وحسب عبد القادر، جرى استخدام غازات الأعصاب والخردل في ذلك القصف، "فمن أصيب بغاز الأعصاب حالته أحسن ممن أصيب بالخردل، إذ تسوء حالة الأخير الصحية باستمرار وتتولد لديه مشاكل تنفسية وبصرية تتصاعد باستمرار"، إضافة إلى "حساسيات وحرقة في الجلد". ويضيف: "90 شخص من المصابين الذين مازالوا على قيد الحياة فقدوا 60% من قدرة رئتيهم على العمل".

وحسب الإحصائيات الموجودة لدى التجمع، تم إرسال 69 مصابا خلال الأعوام الماضية إلى خارج العراق لغرض العلاج، خصوصا ان لا علاج لهم داخل البلد. وزرعت قرنية جديدة لـ 23 منهم، وهناك ستة آخرون ما زالوا موجودين في مستشفيات ايران.

في هذا الصدد، يوضح رئيس التجمع أن أغلبية الحالات التي أرسلت للعلاج كانت عن طريق جهود فردية ونتيجة ضغط ومساعدة المنظمات المعنية. وينتقد عبد القادر أداء الحكومة الكردية التي "لم تقم بالواجب، بل كانت ومازالت مقصرة اتجاه الضحايا". ويتابع "كل ما تم فعله كان عن طريق ضغوط مدنية، لا أن تقوم وزارة الصحة وحكومة الاقليم بذلك من تلقاء نفسها".

من جانب آخر، قال قائممقام حلبجة، كوران أدهم في حديث مع "نقاش" إن حكومة الاقليم مهتمّة بمصير المصابين وقامت بتشكيل لجان خاصة بمتابعة أوضاعهم وإرسالهم إلى الخارج بهدف المعالجة.

وأضاف ان الحكومة قررت إعطاء مخصصات ورواتب مالية للمصابين بالاسلحة الكيمياوية وأرسل القرار الى وزارة المالية، "ونحن بانتظار اكتمال بعض الاجراءات الادارية للبت بتوزيع مرتبات مالية للمصابين".

لكن المصاب كامل احمد، أشار إلى أن الحكومة تخلت عنه في منتصف رحلة العلاج. وأضاف "سافرت الى النمسا مع سبعة مصابين اخرين على حساب حكومة الإقليم وبقينا هناك في المستشفى لمدة 12 يوما، وبعد انتهاء الفحوصات وتشخيص حالتي، أخبرني الأطباء بضرورة مكوثي هناك لمدة عام كامل لحين الانتهاء من علاجي، لكن الحكومة رفضت مساعدتي لذلك عدت أنا والمصابين السبعة الآخرين دون أن تتم معالجتنا".

سافر كامل الى ايطاليا عام 2008، كما سافر عدة مرات إلى مستشفيات ايران على حسابه الخاص دون أن يستطيع الحصول على علاج جذري لمشاكله الصحية. و"تشير جميع التقارير الطبية التي حصلت عليها إلى ان هناك علاج، لكني أعجز عن دفع تكاليفه"، يقول.

مايقلق هذا الشاب، إضافة إلى مشكلته الصحية، أن يفارق الحياة ويترك اطفاله الثلاثة لوحدهم: "كنت صغيرا عندما فقدت أبواي، لا أريد المصير نفسه لأطفالي، وعلى الحكومة أن تفعل شيئا".

وهنا يعود قائممقام حلبجة كوران أدهم، ليلقي اللوم على الحكومة المركزية في بغداد بأنها لم تقم بالتزاماتها ولم تقدم المساعدة والمعونة لضحايا الاسلحة الكيمياوية، هذا في وقت أن "الحكومة المركزية مسؤولة عن أي عمل قامت به الحكومة او النظام السابق حسب القوانين الدولية".

كما يلقي أدهم اللوم على المسؤولين الأكراد في بغداد الذين لم يحركوا الملف النائم في الأدراج، ويقول: "على أعضاء مجلس النواب والوزراء الاكراد في بغداد ان يضغطوا على الحكومة المركزية لأداء التزاماتها الأخلاقية اتجاه الضحايا".

وعدا عن مئات المصابين الذين مازالوا يعانون من تاثيرات المواد الكيمياوية السامة بالرغم من مرور 23 عاما على الحادثة، هناك إصابات جديدة لحد هذا اليوم جراء تلك الأسلحة في مدينة حلبجة، خصوصا أن الأهالي يعثرون بين الحين والآخر على قنابل كيمياوية غير منفجرة تعود لعام 1988.

وفي يوم 14 أيلول (سبتمبر) 2011، خلال العمل في إحدى المشاريع، تم العثور على قنبلة كيمياوية غير منفجرة. وعند محاولة إخراجها، أصيب خمسة أشخاص بالمواد الكيمياوية السامة الموجودة فيها، ما أدى إلى تدخل القوات الأمريكية لتفكيك القنبلة وتفجيرها لاحقا.

وبعد مرور عدة أسابيع، تم العثور على ثلاث قنابل أخرى بالقرب من حلبجة، فككت اثنتان منها، لكن الثالثة مازالت موجودة لكونها داخل حقل للالغام.

وفي هذا الصدد يقول القائممقام "نعتقد بان هناك المزيد من تلك القنابل والمواد الكيمياوية في المنطقة، لهذا قمنا بتشكيل لجنة خاصة للبحث عنها وتدميرها".

أما رئيس تجمع ضحايا الأسلحة الكيمياوية، لقمان عبد القادر، فقد قال في نهاية حديثه لـ"نقاش": "أعضاء التجمع هم من ضحايا قصف عام 1988 ممن بقوا أحياء، ألا أنني أتصور أن يزيد عدد أعضائنا، خصوصا أننا لا نعلم كم قنبلة كيمياوية موجودة لحد اليوم تحت أقدامنا".

المصدر: صوت العراق، 26/1/2012