رحلة مع تحولات مفصلية 3 (العسكر في السياسة..)

3- العسكر في السياسة..

في 29 أكتوبر – تشرين الأول، من عام 1936 قام الفريق بكر صدقي، قائد الجيش العراقي، بانقلاب عسكري على حكومة ياسين الهاشمي. وكان هذا أول انقلاب عسكري، لا في العراق وحده، بل وعلى عموم البلدان العربية.
لقد هيأ للانقلاب ساسة وطنيون ديمقراطيون كالجادرجي وجعفر أبي التمن، ومعهم حكمت سليمان من رجالات الحكم.
تشكلت الحكومة الجديدة برئاسة حكمت سليمان، وشارك فيها أبو التمن والجادرجي، وهلل الشيوعيون للانقلاب، ودعمته جمعية الإصلاح الشعبي الديمقراطية، وسير اليسار مظاهرات دعم له.

لم تقم الحكومة الجديدة بإجراءات هامة نحو حياة دستورية ديمقراطية، سوى إجازة جمعية الإصلاح الشعبي، وصدور عفو عام، وإنما رفعت شعار الفضيلة ومكافحة الرذيلة بطرد الراقصات الأجنبيات. ومع الأيام، برزت الميول التسلطية لقائد الانقلاب، الذي كان يرى في رضا خان الإيراني ومصطفى كمال مثالا له رغم أن مصطفى كمال أرسى ديمقراطية علمانية، وإن كانت ناقصة ومبتورة. كما كان معجبا بدول المحور. ولابد من الإشارة، إنصافا، إلى أن هذا الإعجاب كان شائعا في الحياة السياسية العربية ولكن من موقع العداء لبريطانيا وبوهم أن دول المحور ستكون نصيرا للمطالب الوطنية العربية.

وهكذا سرعان ما انفرط عقد التحالف باستقالة أبي التمن والجادرجي، وانتهى الانقلاب باغتيال بكر صدقي. ويجب أن نضيف لسيرة الرجل أنه كان عسكريا كرديا عراقيا، وقد استغل أعداؤه كرديته للترويج لما أشاعه دبلوماسي ألماني من كونه أراد قيام دولة كردية مستقلة، وهو ما لم يقم عليه برهان.

لسنا في معرض سرد تفاصيل ما حدث، وإنما لنتساءل كيف أمكن للديمقراطية اللبرالية واليسار العراقيين دعم انقلاب عسكري يقوده قائد عسكري ذو طموحات ديكتاتورية لا ديمقراطية، ولم يكن مؤمنا بالبرنامج الاجتماعي لجمعية الإصلاح الشعبي؟ ربما لأن الجميع كانوا ينطلقون من هوس معاداة بريطانيا والرغبة في التخلص من كل نفوذ لها في العراق.

إن زج الجيش في السياسة لانتزاع السلطة كان مغامرة ذات نتائج سلبية خطيرة شجعت كبار الضباط بعد سنوات قلائل على تكرار التجربة، وأعني تدخل رئيس الأركان حسين فوزي وأمين العمري عام 1940 لإسقاط حكومة وتشكيل أخرى، وقد فشلا؛ ولكن نجح، فيما بعد، رشيد عالي ومفتي فلسطين في استغلال وطنية قادة عسكريين لامعين للقيام بانقلاب عسكري جاءت بحكومة رشيد عالي الكيلاني، القريب من المحور الفاشي، هو ومفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني.

في عامي 1940 و1941 ازداد انتشار الدعاية لهتلر وموسوليني في العراق، وتأسست فرق " الفتوة" في المدارس الثانوية والمتوسطة في محاكاة لألمانيا النازية. وكان الطلبة، وأنا منهم في الثالث المتوسط، يتدربون على عمليات الإسعاف الأولية.. ومع أن حكومة رشيد عالي [ قامت في 1 شباط – فبراير- 1941] اضطرت لقطع العلاقات مع ألمانيا وفقا للمعاهدة مع بريطانيا، إلا أنها رفضت قطعها مع إيطاليا، مما مكن القنصلية الإيطالية في بغداد من إدارة حملة دعاية واسعة للمحور ونشر مشاعر العداء لبريطانيا واليهود. وكما فعلت حكومة حكمت سليمان، فإن حكومة الكيلاني رفعت هي الأخرى شعارات الفضيلة الموجهة ضد الراقصات، وقامت بحملة "إيمانية" كالعناية بالمساجد والمعاهد الدينية، وإصلاح المدارس الدينية وكلية العلوم [دينية]، ومنع الإفطار العلني في رمضان ومعاقبة المفطرين، ومنع شرب الخمور.
لم يكتف مفتي فلسطين ورشيد عالي بما فعلاه من هروب الوصي وتنصيب رمز شكلي للعائلة الملكية، ومن تقارب من المحور الفاشي، [ من منطلق العداء لبريطانيا]، وإنما ورطا العراق في حرب عسكرية خاسرة مع القوات البريطانية، أدت لكسر الجيش وإعادة احتلال العراق، وثم لحملة اعتقالات واسعة للقوميين، وحتى لبعض الشيوعيين [كان الشيوعيون قد أيدوا حركة الكيلاني]، وصولا لإعدام لفيف من كبار الضباط الوطنيين الأكفاء، وفي مقدمتهم المرحوم صلاح الدين الصباغ والشخصية القومية يونس السبعاوي.

إذا نظرنا للحركتين الانقلابيتين، فلا أرى من حكم عليهما غير أنهما كانتا سلبيتين، برغم الدوافع المعادية لبريطانيا، وزرعتا تقاليد خطرة في صفوف الجيش العراقي، فضلا عن أن حركة مايس 1941 أدت لضربة موجعة للجيش.

وكان لانتشار الأفكار القومية المتطرفة الدور الرئيسي فيما حدث ليهود بغداد المسالمين من هجمة نهب، واغتصاب، وقتل جماعي، خلال يومين متتاليين دون تدخل الشرطة. وكانت تلك الكارثة، التي سميت ب" الفرهود"، لطخة عار في تاريخنا الحديث وفاقت أهوالها الانتهاكات التي قامت عام 1933 عند قمع تمرد للآشوريين، لعب بعض الأصابع الغربية دورا في تأجيجه.

إن دور الجيش في السياسة في العراق والمنطقة وبلدان " العالم الثالث" يشكل إشكالية متعددة الجوانب، وشديدة التشابك والتعقيد، وإن كان هذا الدور في الغالب الأعم دورا سلبيا؛ غير أنه كان في حالات معينة دورا مطلوبا كالحالة التركية أيام الكمالية وحيث كان الجيش، وظل، حارس العلمانية، برغم أنه كان أحيانا ينزلق في الطريق الانقلابي الخطر. وبسبب علمانية الجيش التركي يوجه له أردوغان اليوم ضربة بعد ضربة في طريقه نحو " عثمنة" المجتمع والسلطة، وبمباركة من أوباما والغرب. ونحن نعرف أن الغرب يقرن دور الجيش في السياسة بالدكتاتورية على ضوء التجارب التي وقعت في البلدان العربية وأميركا اللاتينية. وهذا ما يستغله أردوغان وحزبه وهما في طريق التحول العثماني المتدرج.

كما أن دور الجيش في ثورة 14 تموز هو الآخر دور له خصوصيته بسبب أن قيادة الانقلاب كانت في يد عبد الكريم قاسم، وربما كانت النتائج منذ البداية تكون فرض حكم ديكتاتوري عسكري شمولي كما حدث في مصر عام 1952 فيما لو كانت قيادة الحركة الانقلابية في أيدي الضباط القوميين الموالين لعبد الناصر أو في أيدي ضباط من اليسار.
إن إشكالية دور الجيش واحدة من المعضلات الكبرى التي تتطلب مزيد من المدارسة والمناقشة والحوار، وعلى ضوء دوره في انتفاضتي تونس ومصر.
*****

[ ملحق:
حول انتهاكات عام 1941، ونقلا عن تاريخ الوزارات للحسني، واستنادا لرئيس الطائفة اليهودية في كتاب رفعه لرئيس الوزراء الجديد في 17 تموز من نفس العام:
كان عدد القتلى 130 والجرحى 450 وكلهم من اليهود ، وهناك قتلي من المسلمين أيضا ممن حاولوا الدفاع عن جيرانهم اليهود. وأكد مدير شرطة بغداد، وعبد الله القصاب عضو لجنة التحقيق الرسمية لعبد الرزاق الحسني إن عدد القتلى كان يناهز 600 ولكن الحكومة تعمدت تقليص العدد إلى 110 بضمنهم 28 امرأة وهم من مسلمين ويهود حسب التقرير الرسمي.]

عزيز الحاج
10/9/2011