من الذاكرة .. باب الشيخ -1-

دقات سريعة متتالية ... صدى همساتٍ مبهمة ...

كانت تطرق سمعي في ليالي الصيف القائضة وأنا مستلقٍ على سريري فوق السطح. تتردد من ناحية السرداب الواقع في مقدمة الدار على يمين الداخل من (المجاز) كما كانت العامة تسمي الرواق المُوصِل بين الباب الخارجي والباحة الداخلية. كان المجاز ملتقى لنسوة الدار صيفاً حيث يجلسن طلباً لنسمة عليلة منعشة تمرّ عبره وسط الحرَ اللاهب ، وهن يغزلن باليد واللسان أو يستلقين ساعة القيلولة كي يسترحْنَ بعد عناء يوم شاقّ من العمل المنزلي.

كان للسرداب مدخلان مفتوحان ، واحد ملاصق للمجاز من الداخل ، والثاني في زاوية الدار من الجانب الآخر الموازي حيث سُلّمٌ يؤدّي الى طابق ثانٍ فوق السرداب بشرفة مطلة على باحة الدار مع أربعة غرف وسُلّم آخر يفضي الى السطح الثاني . وكان هناك سُلّمُ آخر في الجانب المقابل للسرداب يوصل الى السطح الأول الأوسع والأطول.

لم يكنْ السرداب منخفضاً عن مستوى أرضية الدار إلا بنصف متر تقريباً ، لكنه طويل بطول واجهة البيت الخارجية الممتدة في الزقاق الضيق (الدربونة). كان مبعثاً للخوف ليلاً في نفوسنا نحن الأطفال بسبب ما كان يثار حوله من حكايات وقصص خيالية عن الملائكة الذين يقيمون فيه، مع أنه كان أفضل مكان لتمضية قيلولة الظهيرة أيام الصيف الحارة حيث البرودة المنعشة والهواء الجلاب الهابّ من خلال الهوائيتين المفتوحتين من الأسفل والأعلى والمبنيتين عبر الجدار الى أعلى الدار ، وهو ما كان يسمى باللهجة العامية البغدادية (البادكَير)، وهي كلمة فارسية الأصل تعني جلاب الهواء.

علاماتُ استفهام تضطرب في خاطري الغضّ عن مصدر تلك الأصداء الغامضة المتواترة للأصوات والدقات المتتالية والهمهمات في أعماق ليالي الصيف أوائل خمسينات القرن العشرين وأنا مستلق على سريري فوق السطح اللبني كعادة أهل بغداد وقتئذٍ في الصيف هرباًُ من لهيب جوف الدار الذي تشعّه الجدران كاوياً الأجساد مثل تنور مسجور، الى درجة أنّ العائلات اعتادتْ أن تتناول عشاءها فوق السطح بعد أنْ يرشّوا أرضه اللبنية بالماء عسى أنْ ينطفئ لهيبها فيحظوا بهبة هواء بارد.

كانت قناعةٌ راسخة في نفسي أنهم الملائكة ، لذا كنتُ ارتعد من الخوف فألتفُّ باللحاف مغطياً حتى رأسي ، أو كنتُ أنزل عن سريري لأستلقي بجانب أمي ملتصقاً بجسدها وهي غارقة في نوم عميق على فراشها فوق أديم السطح، كنتُ خائفاً مرعوباً لدرجة أني أحبس حاجتي للتبول حتى انبلاج نور الصباح بشمسه ....

الشائع بين اهل الزقاق والمحلة أنَّ السرداب مقامٌ لملائكة صالحين، لأنّ بانيها وسكنتها من المؤمنين الأخيار والأتقياء الصالحين، ليكون ذلك مبعثاً لاحترامهم وإجلالهم إضافة إلى عراقة العائلة عشائرياً اجتماعياً ودينياً ايمانياً، إذ كانت إحدى العائلات الكبيرة البارزة والمؤثرة بين عائلات الكرد، حتى أنّ كبار رجالها كانوا يُلقّبون بـ(المُلا).

حافظت العائلة على تقاليد توارثتها جيلاً بعد جيل ومنها إقامة المجالس الحسينية للرجال، و المآتم (القرايات كما كانت تسمى عند العامة) للنساء في الدار الكبيرة كلّ عام بعاشوراء في ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي عليهما السلام في محرّم الحرام ، وكذلك مجالس الذكر في ليالي رمضان. وقد ورثت أيضاً عُدداً وأسلحة قتال قديمة حقيقية من أردية الفرسان وتجانيف الخيل وسيوف وخناجر ودروع وأعتدة حربية أخرى، وكان كل ذلك موقوفاً على الاستخدام في إحياء يوم عاشوراء إذ اعتاد الناس تمثيل واقعة كربلاء مسرحياً على الأرض كما حدثت، وهو ما كان يسمى بـ(التشابيه) عند العامة. حتى أنّ بعض مؤرخي الأدب يعتبرها من جذور المسرح في العراق .

كانت هذه المراسيم تقام خلف السدة التي بناها الوالي العثماني ناظم باشا في القرن التاسع عشر في جانب الرصافة لدرء الفيضانات عن بغداد. وقد تحوّلت هذه المنطقة إلى أحياء سكنية حديثة كبيرة، والتي امتدتْ عرضياً لتُبنى أحياء أخرى عصرية واسعة .

أهدتْ العائلة هذه العُدَدُ والتجانيف والأسلحة إلى حسينية الأكراد الفيلية الكبيرة في باب الشيخ التي بناها المرحوم الحاج أحمد وذلك لاستعمالها في الغرض المذكور .

تتوسط باحة الدار حديقة صغيرة مزروعة بأشجار من العنب واللِيْف المتسلقة المترامية مغطية الباحة كلها مشدودة بخيوط إلى سياج السطح المطلّ عليها. كان والده الملا نورعلي راعي الحديقة والمهتم بها، يزرعها ويسقيها ويتابع تفتح ثمارها . سوّّرها بسياج خشبي صنعه بيديه من الخشب الذي كان يجلبه من خانه (خان الطباطبائي) الواقع في مقدمة سوق الصفافير من جانب شارع الرشيد في بغداد. وهو خشبٌ من صناديق القماش التي كان بعض تجار السوق يخزنونها لديه في الخان بأجرة إلى حين بيع محتوياتها من القماش . وقد صبغ السياج بلون أزرق غامق، والويل لمن يمسّّ الحديقة أو أشجارها التي كان أهل الدار يجتمعون تحت ظلالها صباحات الصيف وأمسياته لتناول الطعام والشاي والقيلولة وتبادل الأحاديث والسمر البريء. كل عائلة أمام إيوانها وغرفها الخاصة، وفي أيديهم المهافيف (المراوح اليديوة) ليطردوا عنهم لهيب الحرارة الهاطلة من السماء والمنبعثة من الأرض والجدران الطابوقية ليشعروا بشيء من الانتعاش في أجسادهم الملتهبة المبللة بالعرق المتصبب منها. لقد اعتادوا أن يغسلوا الأرضية المبلطة بالآجر ويرشوا الحديقة بالماء تحت رقابة والده وتوجيهاته الصارمة في كيفية التعامل مع الحديقة وأشجارها. فقد كان لا يسمح بسقيها أحدٌ غيره!

اعتاد أهل الدار والجيران أن يوقدوا الشموع والبخور في أمسيات الثلاثاء/الأربعاء والخميس/الجمعة عند مدخل السرداب المحاذي لمدخل الدار ، أو يلطخوا حائطه بالحنّاء تبرُّكاً وتقرباً من الملائكة الصالحين المقيمين فيه عسى أنْ يرضوا عنهم ، أو طلباً لتحقيق أمنية أو حاجة أو شفاء من مرض، مما كان يزيد من خوف الأطفال ويؤكد في أذهانهم ما يسمعون فلا يجرأون على الاقتراب منه ليلاً أو دخوله حتى نهاراً إلا بمعية أحد، وإن سمعوا صوتاً صادراً من ناحيته ارتجفت أوصالهم رعباً !

ومما يزيد من خوفهم أنّ أباه كان يتحدّث لهم كثيراً عن المَـلَك الصالح الذي يراه يصلي كلّ فجر بباب السرداب ، يشعُّ وجهُه نوراً وبشرته ناصعة البياض مثل القطن ولحيته طويلة بيضاء ، يعتمر عمامة وجلباباً أبيضين . وفي جبهته غُـرّة من أثر السجود . إنه الملك الحارس للبيت وأهله ، يمرُّ بجانبه كلَّ ليلة وهو على سريره وسط الحوش حيث اعتاد أن ينام صيفاً فينظر اليه وابتسامة رضىً مشرقة تضيءُ محياه البهيّ.
في يومٍ وفجأةً أخذ والده ينام فوق السطح مثلَ غيره منْ أهل الدار! وحين سئلَ أجاب أنّ الملك الصالح وقف على رأسه في الليلة الماضية ناهياً:

ـ ملا نورعلي ! لا تنمْ بعد الليلة هنا!

فكان له ما نهى عنه!

المحلة (سراج الدين) التي تقع فيها الدار تتألف من زقاق ينشطر الى فرعين ضيقين مغلقين لا يتصلان بغيرهما إذ ينتهيان ببيوت سكنية . هذا الزقاق يتصل في بدايته بطريق عام قصير يُفضي من جانب إلى الشارع الرئيس وهو شارع الكفاح الذي كان يسمى قبل ثورة الرابع عشر من تموز 1958 بشارع الملك غازي ومن جانب آخر بالزقاق الموصل الى الحضرة الكيلانية (ضريح الصوفي الكبير عبد القادر الكَيلاني). سكنة المحلة هذه كانوا من الكرد الفيليين المرتبطين بوشائج قربى وعلاقات طيبة عميقة الجذور كأنهم عائلة واحدة حقيقية والزقاق بيتهم المشترك ومجتمعم الصغير، بالرغم من المشاكل والاحتكاكات اليومية الصغيرة فيما بينهم لسبب أو آخر وخاصة بسبب مماحكات الأطفال، لكنهم عند السراء والضراء كتلة واحدة متعاونة . وكانت تعيش بينهم عائلات عربية بمختلف طوائفها تأسست بينهم بسبب الجيرة علاقات وصلات طيبة عميقة أصيلة تسودها المحبة والوفاء والتضحية المتبادلة ليصبحوا أسرة عراقية واحدة موحدة تتعاون فيما بينها في كلّ الظروف.

كان من أحفاد الملا نظر المرحوم جعفر صادق الملا نظر (أبو دلير) وهو ابن عم والدي والذي كان له أثر كبير في حياتي شخصيةً وتوجيهاً ، وفي تكويني الثقافي والفكري. كان مثقفاً كبيراً وسياسياً شيوعياً نشيطاً صلباً عضو لجنة محلية بغداد ، شاباً محترماً له مكانته المتميزة في أوساط العائلة الكبيرة وبين معارفه وأصدقائه وجيرانه ورفاقه. يوجهني دائماً حياتياً ودراسياً حيث يتابعني باستمرار ويراقب تقدمي، مما ترك بصماته محفورة في توجهي وأفكاري ومستقبلي وتحصيلي الثقافي وما وصلتُ اليه من مكانة. شجّعي على المطالعة والمتابعة ومواصلة التعليم . أتذكر أنّ من الكتب التي شجعني على قراءتها روايات مكسيم غوركي ودويستويفسكي وتولستوي وشولوخوف ونجيب محفوظ ويوسف ادريس ، ولا يخفى عن بالي تركيزه على رواية حنا مينا الشهيرة (المصابيح الزرق) عندما صدرت أول مرة ، وكذلك كتب سلامة موسى ، وغيرهم من الأدباء والمفكرين التقدميين . كان يزوّدني بالكتب لقراءتها .

كما حثني على مشاهدة الأفلام السينمائية العالمية الراقية. في يوم عندما كنتُ في السادس الابتدائي عام 1954 اعطاني بطاقة مجانية لحضور عرض خاص لفيلم (عربة اللذة) كما سُمّي في العرض العربي ، وهو مأخوذ عن مسرحية الكاتب المسرحي الأمريكي الشهير تنيسي وليمز (عربة اسمها الرغبة A streetcar named desire) ومن اخراج المخرج الكبير (ايليا كازان) الذي كان من أصول لبنانية ، وذلك في سينما ميامي الواقعة في الباب الشرقي. العرض كان مساءً وكانت الصالة ممتلئة مما اضطرني أنْ أجلس في مقعد فارغ في الصف الأخير بالطابق الثاني. كان الفيلم من بطولة مارلون براندو الذي نال عليه جائزة أوسكار أمام الممثلة الانجليزية الخالدة (فيفيان لي) زوجة أعظم ممثل ومخرج في تاريخ المسرح والسينما الانجليزيين والذي مُنحَ لقب (سير) هو (السير لورانس أوليفييه) المتخصص في تمثيل واخراج مسرحيات شكسبير مسرحياً وسينمائياً. وقد شاهدتُه في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين بطلاً لأفلام ( ماكبث) و (الملك لير) و (هاملت) ، وفي فيلم (سبارتاكوس) التاريخي أمام الممثل الأمريكي الكبير الراحل كيرك دوغلاس الذي مثل دور سبارتاكوس ومثّل أوليفييه دور القائد الروماني الذي كان يطارده للقضاء عليه. ولا أنسى أبداً تلك اللقطة من الفيلم وقد ظهر فيها أوليفييه الممثل العظيم متقمّصاً الدور بقدرته الفائقة في التمثيل وتجسيد أدواره الى درجة أنها انحفرت في ذاكرتي عميقاً لحد اليوم حين صرخ مُزبداً وعيناه تقدحان شرراً والكاميرا مركزة على وجهه:

- I don’t want glory. I want Spartacus.

* * * * *

كانت الشرطة في العهد الملكي وبعد كلّ عملية اعتقال لابن عمي جعفر تقوم بحملة تفتيش لدارنا بحثاً عن المنشورات السرية والكتب السياسية الممنوعة. كان التفتيش يقتصر على غرفة جعفر فحسب دون غرف الدار الأخرى ، ويتم بمذكرة رسمية وبحضور مختار المحلة . وقد أوقف وسُجن عدة مرات ونُفي الى ايران ، إذ كان النفيّ عقوبة سائدةً بحقّ المعارضين السياسيين في العهد الملكي. وكانت آخر عقوبة ضده قبل ثورة 14 تموز 1958 هو الحكم بسجنه سنتين ثم نفيه إلى إيران ليعود بعد الثورة .

في يوم بلغنا سريعاً خبر اعتقاله حيث أقتيد منْ مقرّ عمله ، فعرفنا بالضرورة أنّ حملة تفتيش أمنية ستجري في الدار. كانت غرفة ابن عمي تقع في الطابق الثاني فوق السرداب مباشرة وفي فوهة السُلّم العليا. هرعتُ أنا وعبد الصاحب شقيق المرحوم والنسوة لتفريغ الغرفة من الكتب والأوراق والمنشورات الممنوعة ونحن في حالة استنفار كعادتنا في كل عملية تفتيش. توزعنا في أرجاء الغرفة فجمعنا ما تمكنا منْ جمعه . اتجهتُ الى تحت السرير مندساً للبحث فلربما هناك شيء مخفيّ . وقع بصري على شيء أسود في الزاوية ، سحبته، فإذا هي طابعة قديمة سوداء ، جذبتها بسرعة وحملتها بين ذراعيّ راكضاً صوب السطح مع الآخرين حيث نناول الكتب والأوراق عبر السياج إلى الجيران في الدار الخلفية لأخفائها.

وأنا أسرع الخطى نحو السطح مهرولاً وبين أحضاني الطابعة طرق سمعي صدى الأصوات والهمسات والدقات الرتيبة المتتالية التي كنتُ أسمعها تنطلق من زاوية الدار هذه في جوف الليالي المظلمة الحالكة فتثير الرعب والرعشة في جسدي ..!

كانت هذه الطابعة بحرف مكسور وهي الدال . كانت الاجتماعات السرية وطبع المنشورات السياسية تتم تحت جنح الظلام بسرية تامة وحيطة وحذر بعيداً عن الأعين في دارنا في غرفة المرحوم أبي دلير الواقعة فوق السرداب وفي أعماق الليالي الملتفّةِ بالسكينة.

عبد الستار نورعلي
أغسطس 2011

9/8/2011