العراق.. الكرد الفيليون وجسامة المحنة !

هناك مَن يربط بين محن العراق المتواترة بتعدد طوائفه، على أن هذا التَّعدد كان نِقمةً لا نعمةً. أحسب أن في هذا الربط عُذراً لتمزيق العراق، وتغييب هويته التي لا وجود لها بلا هذا التعدد، فكلُّ قومٍ وجدوا ما يناسبهم مِن بيئاته: أطيان وصخور، جبال وبطائح وسهول، وبتعدد البيئات تكثر النِعم، وبتعدد الجماعات تزدهر الثَّقافة. قال المتلمس (ت 580 ميلادية) في نِعم العِراق: آليتُ حَبَّ العِراق الدَّهر أطعَمه.. والحبُّ يَأكله في القَرية السُّوس” (شعراء النَّصرانية قبل الإسلام). وبعد دهر دهير قال الصَّافي النَّجفي (ت 1977): “والنفط يجري في العِراق وما لنا.. ليلاً سوى ضوء النُّجوم سِراج” (الشعر العراقي الحديث).

كما قال الأقدمون في باعه الثَّقافي: “لا تعجبنَّ مِــن عراقي رأيت له.. بحراً من العلم أو كنزاً من الأَدب” (الثَّعالبي، يتيمة الدَّهر)، وها هم المتأخرون يستجيرون بالماضي: “أما العراق فإن في تاريخه.. شرفاً يُضيء كما يُضيء الفرقدُ” (الشِّعر العراقي...). إنها غمامة داكنة وستزول!

يبرز الكُرد الفيليون حُسُّناً مِن محاسن العِراق، سُروا بمسراته وتوجعوا بموجعاته، لا يعرفون سوى أرضه مهاداً وسمائه غطاءً. ساهموا في دوي صيته، قبل عقود وإلى الآن. التَّاجر المشتهر بسوق الشُّورجة: قمندار فتاح ومراد جعفر، وأهل الموسيقى: سلمان شُكر ونصير شمة ومحمد حسين كمر، والملحن كوكب حمزة، فليس هناك مَن لا يعيد ويعيد “يا طيور الطَّايرة” (1969)! ورضا علي (ت 2005) ومَن لا يُعلن عن الأفراح بـ “سمر سمر” (1952)! أهل الرياضية: عبد الواحد عزيز مثلَ العراق بالأولمبياد، وأنور مراد وجلال عبد الرَّحمن حارسا مرمى شهيران، واللاعب حسن بلا، ومحمد علي قنبر وإبراهيم حيدر، مِن لاعبي الفريق الدولي، والمصارع حسن كرد كان أُستاذاً للمصارع الشَّهير عباس الدِّيك (ت 1974)، ومعظم رياضيي الزُّورخانة البغدادية كانوا فيليين.

في الشِّعر زاهد محمد، وهو صاحب النُّصوص المغناة مِن قِبل أبرز مطربات العِراق، ويكفيه أنه كاتب نص “هربجي كرد وعرب”، ذات الأثر في الأخوة العِراقية. منهم الكُتاب والأدباء ذوو القُلوب الدَّامية على العِراق: عزيز الحاج، وجليل حيدر، ومؤيد عبد السَّتار، وعبد السَّتار نور علي. مِن الأطباء: باقر الوعد، وشهاب أحمد حسين، وعيسى علي. ومن الفيليين أول قاضية عراقية زكية إسماعيل حقي. وإن ذُكر الأشقياء فلا يُنسى إبراهيم عبده كه (قُتل 1954) أحد المقاتلين في ثورة العشرين (1920). وإذا نظرتم أسماء الفقهاء المتبوعة بلقب البندنيجي فهم مِن مندلي وهي محل الفيليين.

آخر ما نذكر عادل مراد أحد مؤسسي الاتحاد الوطني الكردستاني، وكاشف فساد التِّجارة وهو السَّفير برومانيا، وسعد بشير أسكندر مسؤول الأرشيف الوثائقي، أحد المتفانين في خدمة العراق، يترأس دائرة تختص بالوثائق، بدأ بجمعها مِن بين الحرائق والمنهوبات وسط الفوضى العارمة، والتي قالوا كفراً خَلاقة. لا يعني أن هذه الأسماء هي كلُّ ما بين الفيليين، إنما ذكرناها نماذجَ لدور هذه الجماعة في بناء العِراق ماضياً وحاضراً.

كانت مدارس الفيليين ببغداد (تأسست 1946) تجمع كلَّ طوائف العراق، وأُسست بتبرع ميسوريهم، شأنها شأن مدارس يهودنا نشأت بمال وجهد عراقيين، وساهمت في رفد البلاد بمثقفين ومحامين وأطباء، لكن كتاباً مثل “المدارس اليَّهودية والإيرانية في العراق” لمدير الأَمن العام الأسبق فاضل البراك (قيل أُعدم 1993) جعلها أجنبية، وهي التي ساهمت بمجد بابل وبغداد العباسية وما بعد ذلك. هكذا يتم الإقصاء عن الأوطان لنزوة أيديولوجية طارئة.

تبدأ محنة الفيليين مع قانون الجنسية العِراقية (1924): “كل مَن كان في اليوم السَّادس من آب (أُغسطس) سنة 1924 مِن الجنسية العثمانية وساكناً في العراق عادةً تزول عنه ‏الجنسية العثمانية ويعد حائزاً الجنسية العراقية...” (القوانين العِراقية).‏ كان الفيليون يقطنون مناطقَ تارة يحتلها الأتراك العثمانيون وأخرى الإيرانيون الصَّفويين: بدرة وجصان وخانقين ومندلي والحي والنُّعمانية ومناطق أُخر من ديالى وكركوك وميسان وواسط، وكل خطوط التَّماس مع إيران، لم يحصلوا على جنسية العثمانيين، وعندما يهاجرون إلى مراكز المدن يبقون على فيليتهم. ومِن ذلك الحين أُخذوا يُعاملون بقانون التَّبعية، مع أن وجودهم بالعراق يمتد لمئات السِّنين، بل إن منهم مَن يَعد نفسه سومري الأَصل حباً بالعراق أو أنها حقيقة تاريخية.

كلما اضطربت الأحوال بين إيران والعِراق بدأ التَّهجير يطولهم، وكان أقساها عِقب تفجير حَفل بالجامعة المستنصرية (أبريل 1980)، عندما قام أحد الشَّباب بدوافع حزبية دينية لا فيلية، فسيقوا إلى الشَّاحنات، الزَّوج لا يعلم بزوجته، ولا الأم تعلم بمصير أطفالها، هكذا رموا على الحدود تحت نيران الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988). لم تنفع الجنسية العثمانية التي كانت أُسر منهم تحملها قبل 1924، بل صار التَّهجير على الانتماء. وما عاناه الفيليون كانوا يؤخذون بالغضب على الأحزاب الكُردية باعتبارهم كُرد، وعندما يوجه إلى الأحزاب الشِّيعية باعتبارهم شيعة، لكن عندما زهت الدُّنيا للأحزاب الكُردية والشِّيعية ظلت المظلومية تحوم فوق رؤوس الفيليين.

أجل صدر قرار المحكمة العِراقية (أكتوبر 2010) في قضية الفيليين مِن تهجير وشبه إبادات مقصودة، وحكم على ثلاثة بالإعدام، وبرئت ساحة أخوي صدام حسين (أُعدم 2006) وطبان وسبعاوي إبراهيم، لكن مازالت المعاملة الرَّسمية متحيزة ضدهم: طابق خاص لهم في دائرة الجنسية، مثلما كان الحال عليه، وضابط خاص، واستمارة خاصة يُعاملون بها دون الآخرين، ناهيك عن تعثر إعادة ما فقدوه مِن أملاك خلال تهجيرهم.

حتى هذه اللحظة لم يتورط الفيليون بتأسيس ميليشيا أو عصابة لقطع الطَّريق، أو عمليات فساد، خدموا العراق بفنونهم وعقولهم مثلما خدموه بأجسادهم القوية، فكان أغلب فئة الحمالين الأمناء منهم. شاركوا الوطنيين السُّجون، ودافعوا بإخلاص عن الزَّعيم عبد الكريم قاسم (قُتل 1963) فآخر مَن ألقى السَّلاح بعد انتصار الحرس القومي هم الفيليون، لا لشيء إلا لأنهم قدروا عراقية الرَّجل أولاً وإنصافه لهم ثانياً.

محنة الفيليين، وهم المعروفون باللُّر أو اللور، بدأت مع هولاكو (ت 664 هـ) عندما تسلم أمر أخيه الخان: “إذا فرغت مِن هذه المهمة فتوجه إلى العِراق، وأزل مِن طريقك اللُّور والكرد...” (الهمذاني، تاريخ هولاكو)، مازال أحفاد اللُّر أولئك مرابطين بمدن وقُرى حدود العراق الشَّرقية، ومِن ذلك اليوم وحتى يومنا هذا يُقصيهم الوطن وهم يعضون على طينته بنواجذهم.

رشيد الخيّون

المصدر: صوت العراق، 23/7/2011