الفيليون وإخوة يوسف ......

في تلك الأزقة الكئيبة الشاحبة الضيقة المكتظة بالهموم يخط الأسَى آثاره بعمق على الجدران والوجوه ويرسم الوان من الألم ليحكي قصة مأساة عظيمة أمتدت جذورها في أعماق الأرض والأنسان وخيمت بظلالها المثقلة بغبار السنين على منازل قديمة منهكة بساكنيها وبعذاباتهم القاسية ومتكئة على صروح بؤسهم وشقائهم التي طغت على كل شئ وعلى طرقات تلوّت وإلتَوَت ألماً على فقدها وأفتقادها خطوات من رَحلوا عنها الى مقابر مجهولة بلا شواخص أو أدلة وألى منافي بعيدة لا تشرق الشمس عليها وأختنقت بعبرات الشوق ألى زمن كان يحتضن الجميع بحب وحنين وعلى أناس تصدعت نفوسهم فزعا من هول ما جرى ومازالوا يتوجسون من القادم خيفة غدرجديد. أزقة تبث شكواها ألى الله والعابرين وتأن مرهقة تحت وطأت ذكرى ملاحم همجية مرعبة تركت جروحا غائرة غطت آثارها كل المساحات والأركان والزوايا لتشهد أقسى صنوف الظلم والجور والعدوان التي مر بها الأنسان. فهنا أُريقت دماء بريئة وزُهقت أرواح طاهرة مازالت تصرخ بوجه التأريخ وتلعن القدر والفئة الباغية التي في غفلة من الزمن ومن دون أي ذنب أغتالت الزهور والطيور والقمر. وهنا أنهمرت دموع صغار تائهون حيارى بعد أن أختطف الأوغاد ذويهم وعند ذلك الجدار أنهارت أُمٌ بعد أن أعياها النحيب على فلذات كبدها الذين أُقتيدوا الى مصير غير معلوم وخلف تلك الشرفة المعتمة الحزينة أطلق شيخ قد حنى الدهر ظهره أنفاسه الأخيرة لتبحث له عن أبنته الحبيبة التي طال أنتظاره لها ولم تعد من جامعتها وهناك دار بائسة مغتصبة حبلى بالحسرات والآلام تتوق ألى أحتضان أهلها الذين مات كبارهم ألماً ولوعةً وقتل شبابهم بعد سنين طويلة من القهر والأعتقال وَشابَ صِغارهم بعد أن سرقت وسحقت الغربة أجمل سنين أعمارهم.

أزقة تحكي قصة الكورد الفيليين الطيبين الذين أعتمرت نفوسهم بالحب والسلم والخير للجميع فما كان نصيبهم غير القتل والترويع والسجن والتهجير والتجريد من كل شئ وجرائم حقد وأبادة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً حتى في أحلك صفحاته ظلاماً وظلماً، صبيةٌ في مقتبل العمر وشباب بعمر الورود ورجال تزهو بهم الحياة وشيوخ تستمد الحكمة والطيبة معانيها من ملامحهم، آلاف من الأبرياء، طلبة وكسبة وعمال وأكاديميين ومهندسين وأطباء ومرضى ومعاقين أعتقلوا دون ذنب أو حتى تهمة أو محاكمة أو حتى تحقيق في سجون ودهاليز مظلمة وفي معتقلات نائية وبعد سنين طويلة من القهر والتعذيب والمعاناة قُتِلوا وأُبيدوا وغيبوا ومُحيت آثارهم من الأرض فلا أثر لهم حتى اليوم ولاقبور كي تُزار أو توقد عندها الشموع رغم سعي الأمهات الثكلى والنساء الأرامل والأبناء اليتامى وبعض الشرفاء في البحث والتنقيب في مقابر جماعية لاتحصى.

ومثلما كان ليوسف إخوة كُثر فالفيليون لهم إخوة لايُحصون من كثرتهم لكنهم سلكوا طريق الوحشة والمعاناة لوحدهم ومثلما قيل عن يوسف أن له شقيق أسمه بنيامين من أمه راحيل وإخوة كبار من خالته ليا وهي بنت خال أبيه يعقوب وإخوة آخرون من زوجات أبيه فأن الكورد الفيليون هم أشقاء وإخوة وأقارب لكل العراقيين.

الفيليون هم من سكان العراق الأصليين أنتشرت قبائلهم جنوب كردستان وسط وجنوب العراق القديم شرقاً الى غرب وجنوب أيران وتحت تأثير عوامل جيوسياسية وجيوديموغرافية أكتسب الكورد الفيليون ثقافات متنوعة جعلت منهم الشريحة الأكثر أنسجاماً وتوافقاً وأنفتاحاً بين العراقيين مما سهل عملية تصاهرهم واندماجهم مع الآخرين بحيث أدى ذلك الى فقدان الكثير من قبائلهم وافرادهم لهويتهم الأصلية والأنتماء بصورة قسرية أو طوعية لجماعات أخرى ذات أمتدادات عرقية أو ثقافية مختلفة ومع ذلك حافظ الكورد الفيليون على توازن رائع ووشائج قوية بين كل الأطراف العراقية على صعيد الوحدة الوطنية العراقية فالحفاظ على الخصوصية الفيلية تؤمن تواصلاً وترابط عرقي وثقافي وجغرافي وأستقراراً سياسياً يسد بأحكام كل منافذ الفرقة بين العراقيين كإخوة رغم تنوعهم وتعدديتهم. ووفق هذه الثقافة الأيجابية والرؤيا الواقعية للتنوع العراقي والأيمان الذاتي الحقيقي والقناعة الواعية بمشاركة الآخرين همومهم ومعاناتهم وتطلعاتهم كان للكورد الفيليين دوراً فاعلاً وداعماً لجميع حركات النضال العراقية ضد فرعون العراق المقبورصدام وماسبقه من مجرمين ممن أرادوا بالعراقيين شراً وعدواناً كما كان لهم دوراُ فاعلاً ومهماً في بناء العراق وتعزيز قدراته الأقتصادية والعلمية والثقافية وفي الدفاع عن حياضه ضد أي عدوان يهدد أمنه وسلامته وكذلك كان لهم دوراً فاعلاً وداعماً لحركات التحرر العربية والعالمية. ولما كان ذلك كله يتعارض مع سياسة الفرعون العنصرية الطائفية، التي كانت أمتداد لسياسات شوفينية أقليمية وتنفيذ بشع لأجنداتها المريضة وأداة فاعلة لتمزيق منظم للصف الوطني والخصوصية الوطنية تمهيداً لصهرالعراق ضمن هذه التوجهاتها والايدلوجيات المتعصبة والمنغلقة في الوقت الذي توفر للنظام الفرعوني السطوة المطلقة واليسيرة بالأنفراد بأبناء الشعب العراقي منعزلين ومنقسمين، سلط النظام جل عدوانه وقسوته ضد الكورد الفيليين ممارساً شتى أنواع العنف والأجرام من أبادة وتهجير جماعي بالأضافة الى ملاحقة وتصفية أبنائهم بصورة منظمة ومنهجية منذ الأيام والسنوات الأولى لأغتصابه السلطة في العراق. لقد وجد النظام في الكورد الفيلية الرقم الأصعب في المعادلة العراقية لما يتميزون به من خصائص تربطهم وبقوة بكل الأطياف العراقية بما يعزز الشعور الوطني وبما يمنحه من مناخ أيجابي سليم لنمو وتوطيد هذه المشاعربالأضافة لما أمتلكه الكورد الفيلية من دور أقتصادي فاعل يؤمن للعراقيين نوع من الأستقلال السياسي عن السلطة الفرعونية كما علم النظام أن المساس بالكورد الفيليين هو مساس مباشر وغير مباشر بكل العراقيين وأن ذلك سيولد رد فعل كبير في الشارع العراقي فأعتمد سياسة منهجية لتنفيذ جريمته ووضع لها سقفاً زمنياً طويل المدى مبتدأً بعملية سطو مسلح لامثيل لها حتى في أكثر المجتمعات جاهلية وتخلف حيث قام بدعوة جميع التجار والأقتصاديين في بغداد والذين كان أغلبهم من الكورد الفيليين وترحيلهم بطائرة خاصة الى أيران التي كان على أبواب حرب طويلة معها ومصادرت جميع أموالهم المنقولة والغير منقولة ثم شرع بتصفية الرموز السياسية والكفاءات العلمية وهكذا وعلى مدى سنين طويلة قام بجرائم منظمة بشعة لم يسلم منها حتى أبسط الناس من نساء وشيوخ وأطفال لكن إخوة يوسف كعادتهم لم يحركوا ساكناً متفرجين على أبشع جريمة في العصر والتأريخ ترتكب يومياً أمام أعينهم شهداء على كل فصولها وتفاصيلها والناس صامتون عدى مشاعر أمتعاض مكبوتة ظلت حبيسة صدور البعض منهم. ولعل ذلك هو ما دفع الفرعون للتمادي أكثر فأكثر بالأعتداء على جميع أبناء الشعب العراقي بجرائم فضيعة يندى لها جبين البشرية بينما أستغرق إخوة يوسف في نوم عميق وأحلام وردية بأسقاط الطاغية.

واليوم و بعد سنين على رحيل الفرعون الصغير صدام وزبانيته الذين باؤوا بغضب من الفرعون الكبير بوش وعاد إخوة يوسف الى الديارمازال الكورد الفيليون في غياهب الجب منسيون. فسياسة التغييب وطمس الهوية التي مارسها الفرعون صدام يمارسها إخوة يوسف بطريقة أخرى أقل ألماً وأكثر خبثاً ومكراً فجزاهم الله خيراً أنهم لم ينكروا إخوتهم للكورد الفيلية لكن نفوسهم المريضة التي تسول لهم التآمر على بعضهم بعضا تجعلهم يعملون على أن يتخلى الفيليين عن فيليتهم ووطنيتهم ويصطفوا مع أحدهم ضد الآخر مستغلين تارةً بعض ذوي النفوس الضعيفة من المتملقين والمتزلفين والمتلهثين وراء فتات الموائد العامرة بما لَذَ وطاب ومداعبين تارة أخرى المشاعر القومية أو المذهبية لدى البسطاء والسذج من ذوي الآفاق الضيقة من الكورد الفيلية متخذين منهم أنصاراً وإخوة مشوهين بوجوه ليست هي وجوههم كأنهم في حفلة تنكرية يستعرون من كونهم فيليين ومتناسين بأنهم أنما بتكريس هذه السياسات الطائفية والقومية المتعصبة يعملون على تهميش وتفتيت وتغييب شريحة كبرى لها خصوصيتها وأثرها البالغ على وحدة العراقيين والتقريب بين وجهات نظرهم وأنتماءاتهم المختلفة وتاركين الكورد الفيليين الحقيقيين في غياهب الجب والمنافي يستغيثون لعل بعض السيارة تلتقطهم!

فؤاد علي أكبر
fuadali_61@hotmail.com
fuad3li@yahoo.com

Stockholm-Sweden
Mobilenn.0046739557772

المصدر: صوت العراق، 7/2/2011