غربة الكرد الفيلية في بلادهم..

لم تعد مأساة الكرد الفيلية العراقيين خافية على عراقي واحد. والجميع يعرفون جرائم التسفير الاعتباطي، الوحشي في بداية الثمانيات خاصة، لمئات الآلاف في بداية الثمانينات، ومصادرة الأموال والوثائق والهويات الرسمية. ومعروف أيضا اعتقال حوالي خمسة آلاف من شبابهم، ممن لا يزال مصيرهم مجهولا إن لم يكن معظمهم قد قتل. وقد نُشر منذ التسعينات، ولحد اليوم، الكثير عن هذه القضية، التي هي قضية إنسانية وقضية وطنية عامة في وقت واحد. وقد تفضل فريق متزايد من الكتاب العراقيين العرب بالانتصار لهذه القضية، والمطالبة باسترجاع حقوق الضحايا، ونشروا عشرات من المقالات البليغة والمثيرة عن الموضوع. فتحية حارة لهم من القلب.

لقد كان متوقعا أن يصار إلى حل هذه القضية مع سقوط النظام الصدامي، بل، وأن تكون جريمة التهجير والمصادرة هذه في مقدمة القضايا المطروحة للقضاء. لكن هذا لم يحدث خلال السنوات الماضية حتى انتصرت العدالة أخيرا بحكم المحكمة الجزائية العليا، التي اعتبرت تلك الانتهاكات جريمة إبادة جماعية. فشكرا للمحكمة. كما قرأنا عن تشكيل لجنة لشؤون الفيلية تابعة للرئاسة، و بيانا لمجلس الوزراء عن الموضوع. وهذا كله جيد .

نعم، إن القرارات الجيدة موضع ترحاب، ولكن الأهم هو التطبيق؛ فكم من قرارات اتخذت ووعود قطعت في قضايا أخرى - [ كحماية المسيحيين ومكافحة البطالة والفقر والفساد]- دون أن تترجم في إجراءات عملية ملموسة. والحكومة تتصرف حتى اليوم وكأن العراق ليس بلد الجميع، بل هو فقط بلد الزيارات المليونية! فلعل وعسى!

إن الفيليين لا يزالون يُعتبرون " أجانب" في دوائر السفر والجنسية، أي أن طلبا من فيلي للحصول على جواز سفر أو جنسية لا يزال يحال على شعبة الأجانب. وعجبا لكون هذه القضية لم تحل حتى اليوم مع أنه، وعدا كل اعتبار آخر، فنحن نعرف أن فريقا من المسئولين اليوم كانوا في دول غربية، وهناك يمكن لمن يولد على أراضيها، وأيا كان أصله، أن يكون له الحق في جنسية البلد، و حق مماثل للاجئ إن تزوج امرأة من أهل البلد، أو بعد مرور فترة زمنية معينة على وجوده هناك. فأي تعقيدات يا ترى في أن يسترد الفيلي، المهجر بالأمس، جنسيته حالا، وهو من أهل العراق أصلا؟!

إن ما يبدو هو أنه، خلال السنوات الماضية، كان ينظر لهذه القضية كقضية هامشية أو حتى مزعجة، لأن الفيلية، وإن كانوا كردا، فإن لهم ظروفهم الخاصة، وتجعل من قضيتهم قضية مستقلة ضمن القضية الكردية العامة. كما أنهم، وإن كانوا من الشيعة، فإن الأحزاب الشيعية الحاكمة لا تعتبر شيعة إلا مؤيديها وأنصارها. وهكذا أيضا تعاملت إيران مع المهجرين، فتعرضوا لأنواع التضييق وعوملوا كغرباء غير مرغوب فيهم برغم أنهم اضطهدوا في العراق بحجة "الولاء لإيران".

عندما صدرت أحكام الإعدام على طارق عزيز وزملائه، قال ابن المرحوم السيد محمد باقر الصدر إن عائلته لم ترفع شكوى ضد أحد، وإن خير ما يرضي روح الفقيد هو قيام عراق متسامح يحكمه القانون والعدل. وأعتقد أن الفيلية أيضا ليسوا طلاب ثأر، وإن العدالة الحقيقية هي في الوفاء بالوعود التي يقطعها الحكام هذه الأيام بعد صمت طويل استمر سنوات.

إن العدالة هي في اتخاذ التدابير التي ترفع عنهم كل أشكال الحيف والتمييز، وتعيد أليهم كل حقوقهم وحل مشكلة ممتلكاتهم المصادرة، والنظر إليهم بوصفهم مواطنين عراقيين أصلاء، قدموا التضحيات الغالية من أجل عراق ديمقراطي مزدهر، وظلوا عشاقا له وأوفياء، مع الحفاظ على هويتهم القومية الكردية. والفيليون لا يزالون يتطلعون لعراق حقوق الإنسان والمساواة والعدالة والأمن؛ إلى عراق دولة المواطنة التي لا تعرف التمييز بين المواطنين، وأيا كان- عرقيا أو دينيا أو مذهبيا. وهم لهذا يتعاطفون تماما مع إخوانهم المسيحيين والصابئة المندائيين، ومع كل مظلوم ومهمش على أرض العراق اليوم.

الفيليون العراقيون ليسوا طلاب منة من أحد ولا طلاب إحسان، بل المطالبة بحقوق مشروعة هضمت وديس عليها بكل وحشية وهمجية في العهد البائد.

وهنا تجب اليقظة تجاه كل مناورة لاستغلال بعض التيارات والأطراف السياسية لهذه القضية لمآربها الخاصة و لتلميع صفحتها. وقد سمعنا مثلا خبرا – ننتظر التأكد منه- يقول إن الصدريين تنازلوا للفيلية عن مقعد برلماني تعويضي. فإذا صح الخبر، فمن الواجب الحذر بكل قوة من الانخداع بهذه اللعبة الماكرة، التي تستهدف، لا مصلحة الفيلية، بل استخدامهم لمآرب وغايات تنظيم مقتدى الصدر المسئول عن كثير من الجرائم المقترفة منذ سقوط صدام، ومنها أن جيش المهدي هو الذي بدأ باضطهاد المسيحيين والصابئة المندائيين، وهو الذي أثار فتن كربلاء والبصرة والنجف وغيرها. ولكنه اليوم يتظاهر بحماية المسيحيين!! نعم، حذار من أن يتحول أي مقعد " يتيم" إلى مقعد ملغوم فيصبح اسم الفيليين شريكا في مواقف وسياسات تضر العراق ومصالح الشعب العراقي، وما يعنيه [ طبعا إذا صح لخبر] من وقوع التبعات على الفيليين أيضا وهم " لا ماكلين ولا شاربين!"، فتتشوه سمعتهم السياسية وتزداد قضيتهم تعقيدا. إن هذه القضية تستدعي من الكتاب والمثقفين الوطنيين العراقيين ومؤسسات المجتمع المدني، ومن الساسة الديمقراطيين، مواصلة التذكير بها والضغط المتواصل على البرلمان والحكومة لتنفيذ الوعود الرسمية، ولكيلا يختفي الموضوع مجددا في دوامة الصراعات الحزبية والمناورات السياسية التي لا تزال قائمة على قدم وساق!

د. عزيز الحاج
28 يناير 2011