العهد الملكي ـ العراق لم يكن جنة، ولكنه لم يكن جحيما (الجزء الاول)!


الدكتور عزيز الحاج

مطلوب توخي الإنصاف وتجنب التحيز المسبق والمغلق عند تناول الأحداث التاريخية . وإن الكثير من صفحات تاريخنا الحديث يحتاج لإعادة تأمل، وإعادة تحليل وتقييم.

أقول هذا بمناسبة النقاش الدائر عن العهد الملكي. لقد سبق لي تناول الموضوع مرارا، وفي عدة صحف عراقية وعربية. وقد كتبت أكثر من مرة أن خير من تسلموا قيادة العراق هما فيصل الأول وعبد الكريم قاسم. وقد يبدو ذلك فذلكة تناقضية، ما بين ملك غير عراقي ورئيس عراقي لأول جمهورية قامت على أنقاض الملكية. ولكن التناقض المظهري يكاد يتوارى عند فحص خصائص وأفضال كل من الرجلين، ومقارنة الظروف الصعبة التي كانت تحيط بكل منهما وهما يعملان بكل إخلاص على خدمة العراق وشعب العراق.

كانت العقلية السياسية لأطراف المعارضة السياسية الوطنية في العهد المالكي مصابة برفض ومعارضة كل خطوة تقوم بها حكومات العهد الملكي، حتى ولو كانت في الحقيقة تخدم البلد. كانت معارضة شحن وتأجيح مستمرين للمشاعر ضد تلك الحكومات، وفي كل الظروف، وأيا كان رئيسا للوزراء. ولم يكن في ذلك ليتميز اليساري الماركسي عن الديمقراطي الوسطي كالجادرجي، او القومي. ولم أذكر ساسة إسلاميين أو أحزابا إسلامية لأن ظاهرة الإسلام السياسي كانت، وعكس اليوم تماما، شبه معدومة في العهد المالكي، سوى تدخل رجال الدين، والشيعة بالذات، حال قيام الدولة الحديثة بفتاوى تحريم الانتخابات، وتحريم الوظيفة، وتحريم إرسال الأبناء لمدارس الدولة. وكانت هذه المواقف السلبية المتشنجة من الأسباب المهمة لإضعاف الدور الشيعي في بناء الدولة العراقية، وإن لم يكن السبب الوحيد.

العهد المالكي قد مر بمراحل وفترات، وكان مجمع متناقضات ومفارقات، حيث امتزاج الخاطئ بالصحيح، والطالح بالصالح، والأسود بالأبيض.

كان الإقطاع يدوس على الحقوق الأولية للفلاحين، وكان قانون دعاوى العشائر يجعل من شيخ العشيرة شخصا فوق القانون، وله كل الصلاحيات في التعامل مع أبناء عشيرته. كانت الانتخابات تزور، وكثيرا ما كانت الصحف تقمع، والأحزاب الوطنية قد تغلق من وقت لآخر. وشهد العراق أول انقلاب عسكري في المنطقة عام 1936، ولكنه انقلاب أيده الجادرجي والشيوعيون وكل اليسار، وكانت النتائج لغير صالح العراق. وجرى اضطهاد القومية الكردية باستمرار، دون القيام بخطوات كبيرة لحل المشكلة، سوى قرار استعمال الكردية في المناطق الكردستانية، وتوظيف موظفين أكراد. وبالنسبة للشيعة، فإن بعض المناصب الكبيرة الحساسة كادت تكون حصرا على الساسة من السنة، كمنصب رئيس الوزراء ورئاسة أركان الجيش ووزارة الدفاع، مثلا، رغم تبؤ ساسة من الشيعة لرئاسة الوزراء ثلاث مرات. وكان الدستور وقانون الجنسية يقسمان المواطنين لدرجتين، الأولى والثانية، حسب ما كان قد سجله كل منهم، أو أبوه، هل هو تبعية عثمانية أو تبعية إيرانية: فالأول هو مواطن الدرجة الأولى، والثاني هو في وضع قلق، وهذا ما استغله نظام صدام لتهجير الشيعة من "تبعية إيران"، ومعظمهم من الأكراد الفيلية وشرائح من عرب الجنوب. وهنا نوضح أن جذر هذا التصنيف عثماني، ويعود للعقد التاريخية الكبرى بين الإمبراطوريتين الفارسية والعثمانية في صراعهما على أرض العراق وكل منهما من مذهب مخالف. وقد ورث الطاقم الأكثر قوة من الساسة العراقيين هذه العقد الطائفية- السياسية العثمانية، أي ضد كل ما يمكن أن يحسب على إيران. وقد انقسم أفراد عائلات كثيرة من الشيعة إلى هذين الصنفين، فمنهم - أي داخل العائلة أو الأسرة الواحد - من كانوا مسجلين كعثمانيين، ومنهم من كانوا مسجلين كتبعية لإيران، ولذا اختلف التعامل مع كل صنف منهم زمن صدام. وأذكر أنه كان لوالدي العديد من الإخوة، وكان أكثرهم مسجلين عثمانيا فلم يقع لهم شيء، [ ما لم يتدخل أحدهم في السياسة]؛ أما المسجلون إيرانيا، فهم الذين تعرضوا للتهجير أو محاولات التهجير. ومن هنا أستطيع القول إن النظام المالكي لم يكن طائفيا صرفا، ولكنه كان يمارس بعض أشكال التمييز المذهبي بالنسبة لمناصب حكومية بعينها، وأيضا دون تعديل قانون الجنسية لرفع الظلم عن شرائح واسعة من الشيعة العراقيين- لكن هل جرى إنصاف الفيلية اليوم مع حكم الأحزاب الشيعية؟؟!!

وكان العراق في العهد الملكي بلد التسامح والتعايش بين الأديان، وكان المجتمع يكاد ينادي ببيت جميل صدقي الزهاوي في بداية العشرينات :

" عاش النصارى واليهود ببقعة والمسلمون،جميعهم، إخوانا."

ولكنّ ثمة صفحات سوداء، أولاها الوحشية في التعامل مع تمرد الآشوريين، والثانية إسقاط الجنسية عن الطائفة اليهودية وما عانت من الحكام - لا من أكثرية الشعب- بعد قيام إسرائيل. وأما مجازر اليهود في 1941 بعد هروب رشيد عالي وحكومته ومفتي فلسطين، فكانت وصمة عار، يتحمل مسئوليتها القوميون المتطرفون المتعاطفون مع الفاشية والنازية. ولا ننسى أيضا حملات الإعدام: أربعة ضباط قوميين أكراد؛ فريق من القادة العسكريين والمدنيين القوميين في مقدمتهم صلاح الدين الصباغ، وإعدام خمسة زعماء شيوعيين عام 1949 ومناضل شيوعي في مدينة الحي فيما بعد.

وشهد العهد الملكي سقوط الوزارات وقيامها في مدد متسارعة، وكاد نوري السعيد يحتكر السلطة في معظم الأدوار، ميلا في الغالب لسياسة الشدة.

أما موضوع العلاقات الخارجية فإلى القسم التالي.

هكذا يمكن أن نرى الجانب السلبي الكالح من العهد الملكي. ولكننا نكون مجحفين وغير منصفين لو توقفنا هنا وحسب. فللعهد المالكي جوانب منيرة، وصفحات مشرقة لا تنكر، وفضائل لا تخفى على المحلل الموضوعي. وأقول إن العهد المالكي مر بفترات من عمره يمكن أن نقول إنها كانت بمثابة صفحات ذهبية إن قارناها بعراق اليوم، حتى قد نصرخ : أين الثرى من الثريا؟! وهو ما سأعود إليه في القسم التالي.

عزيز الحاج

عراق الغد - 14 آب 2010