ابو محمد الفيلي حكاية من الزمن المر

ابو محمد رجل في منتصف العقد السابع من عمره ، السنين العجاف حفرت في وجهه بانوراما المآسي والمحن المرة التي مرت بمكون بشري من أبناء العراق ، ابو محمد شبح إنسان قد أحنت ألأيام ظهره...

في مسيرة العمر القاسية في صراع من اجل البقاء. التقي بهذا الهيكل البشري يومياً و انا في طريقي الى العمل والتحية الصباحية هي العلاقة الوحيدة التي كانت تربطني به ، كل الذي كنت أعرفه عن أبي محمد إنه بستاني يعمل في إحدى المتنزهات الصغيرة باجر يومي أو عقد مع أمانة بغداد كغيره من العامليين في هذا المجال يعمل جاهداً وهو يزرع مع كل وردة رمزاً لامل بحياة جديدة ولو لاجيالنا القادمة. في احد الايام دفعني الفضول الى التقرب من هذا الشيخ علني اقف ولو على صورة واحدة من حياته او يتنور لي جانب من سنوات عمره،لماذا لايزال يعمل وهو في هذا السن ...؟ بعد التحية سألته عن سنواته في هذه المهنة أو فيما إذا كانت هواية العمل بين الزهور هي التي ارشدته الى هذه المهنة فألعمل مع الازهار و الاشجار اجمل و احلى من التعامل مع بعض النفسيات المزروعة بألشر والحقد،بعد صمت طويل وبعد حسرات متلاحقة أجابني بلهجة عربية ضعيفة تيقنت بعدها أنه ليس عربياً ،لذلك بادرت للتكلم معه بأللغة الكوردية ،تفتحت قريحة ابي محمد و فتح قلبه و انطلق ليسرد مأساته في مسيرة العمر ألطويلة

قال ابو محمد: انا ابن بغداد شربت من دجلة وتنسمت بهواءها وإن كانت عائلتي قد إنتقلت الى بغداد من مدينة زرباطية موطن آبائي وأجدادي بدأت حياتي من الصفر حتى وقفت على ارضية صلبة عملت في التجارة فتحولت محلاتي ببركة إلهية الى ملجأ لكل عاطل عن عمل فيجد عندي قوته وقوت عائلته ، سنوات طويلة وانا اعمل بما يرضي الله و ضميري من اجل خير الجميع وتطوير عملي و شعاري (خير الناس من نفع الناس) حتى هبت العاصفة الصفراء العاصفة التي عصفت بألكورد الفيليين ودمرت كل ما بنته الايدي و جهد السنين فكنت احد ضحايا التسفيرات ففي ليلة مظلمة داهمتنا أجهزة السلطة لتنقلنا الى احد مراكز الأمن بملابس النوم تاركين ثمرات حهود وشقاء اعمارنا وراءنا للإنتقال الى عالم المجهول ، من هناك بدأت رحلة الآلام و المأسي وإحتجاز ولدي الذي كان في الخدمة العسكرية مع زوج ابنتي ومعه اثنان من ابناء اخي ، في الليلة ألثانية تم نقلنا مباشرة الى الحدود العراقية الايرانية ومن هناك امرنا بألسير في طريق مجهول ملئ بالألغام فكانت مسيرة شاقة ونحن مجردون من كل وثيقة تثبت عراقيتنا ،لا مال ولا ولد ولادليل ،فأنتقلنا من سكنة القصور الى مشردي المخيمات ومن حياة الرفاهية الى حياة الاستجداء وطلب المعونة من المنظمات الخيرية استرسل ابو محمد في الكلام و عيناه قد إغرورقت بالدموع مصيبة كبيرة ابتلي بها الكورد الفيليون في العراق أتهمنا بالتبعية ألإيرانية وجذورنا في هذا البلد تمتد لمئات السنوات . في ايران كانت النظرة الينا بعيون الريبة و الشك و يدعوننا بألعرب لقب لازمنا اكثر من ثلاثة عقود انقطعت عنا اخبار الاولاد والاهل والاصدقاء لم نعش على سوى امل العودة يوماً ما الى العراق لتكتحل عيوننا بلقاء من إبيضت عيونناً في شوق الى لقائهم سقط النظام فكانت البشرى الكبيرة وكلنا امل ان نعود اى بيوتنا والى ،أبنائنا ، اعمالنا .. تأملنا ان في العودة بناء حياة جديدة ولكن ما اجمل الامنيات وما امر الواقع رجعنا وياليتنا لم نرجع بحثنا عن ألأبناء ، تجولنا في جميع السجون و المعتقلات نركض وراء كل اشاعة عن وجودهم في مكان ما.... فتشنا في سجون بعقوبة ، الموصل ،السجون العسكرية في الكاظمية وابي غريب ولكن رجعنا صفر اليدين فلا اولاد ولا اخبارهم ولا حتى قبورهم لنذرف عليها دمعة حزن فتشنا عن بيوتنا ومحلاتنا فكانت مصادرة ومباعة او مهداة الى جلاوزة النظام و المحلات ضاعت ملامحها فلم تعد مثلما كانت في وقتها راجعنا الدوائر المسؤولة فكان الضياع في مسلسل دوائر نزاعات الملكية و وزارة الهجرة والمهاجرين و دوائر الجنسية وهذه تتطلبت الاموال والسندات واجور المحاماة والانتظار عقود طويلة فكما علمنا إن الزمن اللازم لانجاز جميع معاملات نزاعات الملكية هو ست او سبعة عقود فهل تريدني الانتظار كل هذه السنوات الباقية لاعاني الموت يومياً وماذا بقي من العمر فأني لست في خريف العمر بل بدأ شتاؤه يدق ابوابي فضلت هذا العمل البسيط في هذا المتنزه على ان امد يدي الى الغير لطلب المساعدة فأناجزء من مأساة شعب فألاف غيري منتشرون في اقاصي الارض يعيشون على الارصفة ويقتاتون على المساعدات الا اني فضلت هذه الحياة البائسة في وطني تلك الحياة فأبقى ازرع و اسقي من أجل إبتسامة فأنا شجرة جفت فيها العروق وهزلت وآيلت الى السقوط لعل ألضمير ألإنساني ينهض من سباته وتشرق الشمس في نفوس سياسيينا ليعلموا إن هناك كورداً فيليين ضحايا التاريخ والدكتاتورية والمطامع البشرية انهمك الشيخ العجوز في عمله وهويتمتم مع نفسه كلمات لم افهم منها سوى هل من نهاية لهذه المأساة؟

فريدون كريم