مقدمة الجزء الأول من كتاب " من أوراق الرحيل"- [راحلون وذكريات]

نشرت فصول هذا الجزء من كتابي في الصحافة الإلكترونية، فصلا بعد فصل. وقد علق القراء على بعض هذه الفصول تعليقات كان فيها تصحيح ومعلومات إضافية مهمة.
كتابي، وكما كررت خلال الفصول، ليس تسجيل سِيَرْ لمن تناولتهم من شخصيات رحلت عنا، وإنما تسجيل لانطباعات ومشاعر شخصية يعتمد على الذاكرة أساسا، وللذاكرة ثقوب. مثلا، وفي الحديث عن جعفر الخليلي وجيراننا في كرادة مريم، أوردت اسم جعفر الأوقاتي، والصحيح جلال الأوقاتي، الذي كان أول ضحية من ضحايا الانقلاب الفاشي الدموي يوم 8 شباط 1933. وكانت لي مع الفقيد عدة لقاءات قبل سجني وفي أيام 14 تموز. كما نبهوني لوجوب ذكر الأصول الكادحة لعلي باباخان. وثمة تصحيحات أخرى عما نشر.

هذه الفصول سوف تتبعها فصول الجزء الثاني، وفي مقدمتها فصل عن شقيقي الشهيد لطيف الحاج- علما بأنني كنت قد خصصت له فصلا في كتابي " شهادة للتاريخ"، معتمدا في الناحية الحزبية من حياته على شهادة للمرحوم ثابت العاني، الذي كان مسئول لطيف في التنظيم العسكري بعد ثورة 14 تموز 1958. والحديث عن لطيف الحاج ذو شجون، فذكراه مرتبطة في ذاكرتي وعواطفي بالوالدة، التي لم تنزع ملابس الحداد عليه حتى وفاتها عام 1984، رغم إلحاح العائلة والجيران. وتجاه لطيف، أشعر بعقدة الذنب، لأنني من "ورطه" في العمل الحزبي الخطر، وهو بعد يافع. لا أعني أنني السبب في اختياره لطريق غير مرغوب فيه، فقد كان طريقا شريفا، نبيل الغايات والمقاصد. وإنما قصدي هو دوري في أحزان أمي حتى وفاتها. وأذكر أنها، وهي على فراشها الأرضي مريضة، عشية الوفاة، وأنا متمدد جنبها بكامل ملابسي، حركت نحوي رأسها بوجهها الحزين الهادئ وهي تهمس: "الحمد لله أنك أنت معنا". وما فهمته منها، وما لم تقله، هو افتقادها لحبيبها الراحل، الذي كان شديد الرقة والوداعة و"آخر العنقود." ومأساة لطيف مضاعفة إذ أن مأساة ثانية تلتها، وهي مأساة ولده سمير، الذي زجوه في الميدان في بداية الحرب مع إيران كضابط احتياط، فأسر، واختفى أثره تماما. والمؤكد أن الجلاوزة الخمينيين قد اغتالوه رغم أنه كان أسيرهم. فهكذا كانوا يطبقون التعاليم الإنسانية والروحية! ولا تزال عندي سطور أرسلها لي سمير وهو صبي صغير- سطور تقول : "أهديك تحياتي مع أفراح قلبي لأني أحبك كثيرا وأرجو لك الخير والهناء."
كثيرة هي الشخصيات الراحلة التي عرفتها وأحببتها، أو تركت عندي أثرا محمودا، أو كان لها دور في الحياة العراقية العامة وأثرت علي.

في محطة الصبا وبداية الشباب كانت هذه من بين شخصيات العائلة والأقارب وأصدقاء الوالد. وفي مرحلة العمل السياسي والسجون، كان الأكثرية من رفاق النضال والسجن، ولكل منهم فضائله وسلبياته ولكن الفضائل كانت الطاغية. وكم كنت أتمنى لو كرس لكل منهم كتاب أو كتيب عن سيرته وبكل جوانبها، وحتى من كنا نستصغرهم في السجون ونرميهم في خانة "المعترفين". في العمل الحزبي والسجون تعرفت على نماذج رائعة من الأشخاص الذين كانوا يذوبون في حب الشعب والوطن، ودخلوا طريق النضال بإرادتهم وبلا غايات شخصية. وأما النماذج السيئة خلقا وسلوكا، فكانوا الأقلية. الأكثر شهرة والأكبر دورا سياسيا وجدوا من يكتبون عنهم كتبا وأبحاثا، وفي المقدمة كتب ودراسات عن فهد وعن سلام عادل، [خصوصا كتاب ثمينة ناجي يوسف عنه.] و حسين الرضي كان صديقا عزيزا، وشخصية لامعة ومحبوبة، وذكرياتي معه كثيرة. وقد لامني بعض الأصدقاء لأنني كتبت عن عامر عبد الله بعد رحيله، وأشدت بالجوانب الإيجابية من شخصيته ومواقفه. العتاب الذي وجه لي هو بسبب النشاط الذي ساهم فيه عامر ضد سلام عادل مع زكي خيري وبهاء نوري، و إصدار قرار بإيفاده لموسكو في بداية 1962 بحجة الناحية الأمنية. جوابي هو أن حبي لسلام عادل وتثميني لدوره اللامع في تجميع المناضلين، لا يتعارضان مع ما كتبته عن عامر أو زكي خيري بعد الرحيل. ومثلا بخصوص المواقف من عبد الكريم قاسم، فقد كانت لعامر في بعض الفترات مواقف هي الأقرب للسياسة الواقعية. وتصحيحا لما ورد في الفصل المنشور، فإنني كتبت في رثائه مقالا في صحيفة الزمان وليس في صحيفة الحياة كما ورد. وكان ذلك في عدد الزمان المؤرخ في 5 حزيران 2000، وحيث أكتب:
"بعد رحيل زكي خيري، وصالح دكلة، ورحيم عجينة، وثابت العاني، ها هو أحد الرموز الأخرى للحركة اليسارية العراقية يرحل، مع قافلة ضمت أيضا، في السنوات القليلة الماضية، أدباء نوابغ كالجواهري، وبلند الحيدري، والبياتي، من أفذاذ عراقيين. الجميع رحلوا في المغترب، بعيدا عن وطن عشقوه وعن شعب أخلصوا له. ولعل الفقيد عامر عبد الله هو الأكثر إشكالية بين الراحلين لما حفلت به مسيرته من وثبات وكبوات وتقاطع الآراء والأحكام فيه، بين مندد، وناقد ودود، ومتعاطف متحيز". وقد تحدثت عما اعتبر "التكتل الرباعي" ضد سلام عادل عام 1962 ، وانتقدت ذلك الموقف.

إلى جنب سلام عادل، أحببت نافع يونس، وجمال الحيدري، وعدنان البراك، و طالب عبد الجبار، وحسن عوينة، وهادي عبد الرضا، والشعراء المسجونين: كوران، و محمد صالح بحر العلوم، وحسين مردان، وآخرين. كلهم رحلوا عنا - سواء ممن رحلوا قتلا أو إعداما في المعتقل والسجن، أو وفاة طبيعية. وكل من هؤلاء كان شخصية تستحق أن يكتب عنها. ومع زملاء السجن والعمل الحزبي، هناك شخصيات سياسية أخرى، وشخصيات ثقافية غير شيوعية، تعرفت إليها، وتركت عندي انطباعات عميقة ولا أزال أذكرهم. وبعض هؤلاء تتناولهم فصول من كتابي وآخرون منهم بانتظار الجزء الثاني.
بعد مرحلة العمل السياسي تعرفت على فريق من الشخصيات السياسية والثقافية الأجنبية والعربية، ومنهم من تعلمت منهم الكثير في آداب الحوار واحترام الرأي الآخر. كما أن هذه المرحلة الأخيرة كان لها فضل التعرف على فريق رائع من المثقفين العراقيين في الغربة، ممن أعتز بهم وإن خالفت بعضهم من وقت لآخر في تقييم الوضع السياسي العراقي.

في الكتاب فصلان سبق نشرهما عن شخصيات لم أتعرف عليها ولم تكن لي علاقات شخصية بها، ولكن كتبت عنهم بعد رحيلهم، ومنهم نجيب محفوظ، ومير بصري، وجلال الحنفي. وحين أذكر مير بصري، أتذكر مأساة يهود العراق، الذين لعبوا دورا مشرفا وفاعلا في حياة العراق الحديث، وفي مختلف النواحي. وأتألم لأننا لم نعد نذكرهم إلا في الندرة، مع أن على العراقيين أن يتذكروا دوما الحيف الكبير الذي لحقهم، منذ "فرهود" 1941 ، ثم حملات الاضطهاد بعد قيام إسرائيل، وصولا لإسقاط الجنسية عنهم، وسلب أموالهم وممتلكاتهم. إن ما فعله حكام العراق بالطائفة اليهودية بتهجيرهم يشكل لطخة عار في جبين العهد الملكي، مثلما يشكل تهجير الفليلية وعرب " التبعية" لطخة عار وشنار في جبين النظام الصدامي الفاشي. وهكذا الحال مع مأساة المسيحيين العراقيين اليوم، الذين يتعرضون لحملات إبادة منظمة دون أن تعير الحكومة والقيادات السياسية والدينية العراقية لمأساتهم أهمية تذكر. وبالمناسبة، فقد كتبت عام 1999 عن القيادي الشيوعي ساسون دلال، الذي أعدم عام 1949 وكنت أعلق على من نشروا يتهمون ساسون وغيره من الشيوعيين اليهود العراقيين بالصهيونية. وكان مقالي بعنوان "ساسون دلال شهيد مبادئه الشيوعية". كتبت أن ساسون مات " باسم الشيوعية لا باسم الصهيونية وإسرائيل"، وشاركت رأي قارئ انتقد الشيوعيين العراقيين لعدم تكريمهم لساسون، واعتباره من الشهداء. وكنت في السجن قد تعرفت على فريق من المناضلين اليهود، ومنهم من استشهدوا في السجون، وكانوا جميعا مثالا لحب العراق وللتضحية من أجل الشعب.
في كتابي شيء من السيرة ومن السيرة الذاتية وكان مثالي كتاب جعفر الخليلي "هكذا عرفتهم". ولا أبرئ نفسي من بعض الذاتية أو التحيز وأنا أكتب، ناهيكم عن ثقوب الذاكرة. ولكنني أكتب بشعور هو مزيج من الحزن والاعتزاز والوفاء. وقد صرت اعتقد، منذ خريف العمر وإلى شتائه اليوم، بأن لكل إنسان جوانب عديدة، فلا يوجد الكامل، ولا يوجد من يخلو من حسنات، إلا كبار المجرمين وقتلة الشعوب. كما صرت أرى وجوب أخذ تقييم الشخصيات بالظروف التي كانت محيطة بهم، وبمجمل العوامل والمؤثرات في مسيرتهم. وهكذا أيضا عن تقييم الأحداث السياسية في كل مرحلة، فلا نحكم على حدث أو موقف سياسي وقع في زمن بعيد عنا بمعايير وظروف اليوم. كما لا بد من الالتزام بالدقة والإنصاف في الأحكام على الشخصيات العامة. فالمهم في تقييم الحدث والموقف والشخصية هو "البعد"، أي الجوهر، والعنصر الحاسم والمقرر: إيجابا أو سلبا. ويرتبط بهذا هو أن لا نفقد الرؤية حين نكتب عمن نحبهم من الساسة برغم كل مآثرهم- أي ألا يأخذنا الحب والإعجاب في نشوة تنسينا الأخطاء والعثرات. ولنأخذ كمثالين حين نكتب عن عبد الكريم قاسم أو الجواهري، اللذين يحظيان- وعن حق وجدارة- بالحب والإعجاب العامين.

كتب عني مثقف عراقي نبيل تعليقا حول الفصل عن ميناس ميناسيان بعنوان " الرثاء صفة النبلاء". إنها كلمة تحمل الكثير من الطيبة والإشادة وحسن الظن وربما فيها بعض المبالغة. إنني لأشكر حسن ظنه، أتمنى أن أكون، حتى وفاتي، عند حسن ظن كل الخيرين الذين يعرفونني ويقرؤون لي. والحقيقة، وحين أتابع قافلة رحيل الأحباب والشخصيات المرموقة خلال العقدين الأخيرين، وما كتبته عن معظمهم، أكاد أتصور نفسي محترف نعي ورثاء. فأشعر بنوع من الذنب كمن يقول: "ذهبوا وأنت باق"- وكأنني أنا المسؤول عما يقع. وقد خسرت عائلتنا وأقاربنا عددا ممن كنت أحبهم جدا خلال العقدين ومنهم شقيقتي صفية الحاج، وابن عمي الموسيقار سلمان شكر- [في الكتاب ما نشرته عنه وما نشره سواي بعد وفاته]- والدكتورة فضيلة محمد بشقة، وزاهد محمد، والمرحومة سكينة محمد علي، التي كتبت عنها صفحات بعنوان [أحباب كانوا أبطالا]، وهي تذكُرني بزوجها المحامي والحاكم، ابن عمي، محمود شكر. ومن الأصدقاء أنيس عجينة وأكرم البياتي- هذا إلى جانب الشخصيات السياسية والثقافية المعروفة. وفقدت أصدقاء فرنسيين منهم ماري كلود كابانا، وكانت سفيرة، وبيير روسي وكان أول ملحق ثقافي فرنسي في العراق قبل 14 تموز. كما فقدت، عام 1997، ذلك المخلوق الوديع الجميل، الذي كان مثل ولدي وصديقي الصدوق، وقد رثيته شعرا ونثرا. وأستغرب وأدين من يفتون من علماء الدين في السعودية بتحريم انتقاء حيوان منزلي أليف كالقط والكلب حتى هنا تأتي الفتاوى. *
مجموع هذه الأحزان المتراكمة قد اندمجت بالأحزان العامة، سواء في عهد صدام أو بعده، حتى كاد العراق كله أن يتحول إلى مأتم كبير. وهذا كله لا يمكن إلا أن يؤثر على شيخ مثلي، ويكاد يحوله إلى محترف رثاء، حتى يأتي يوم من قد يرثيني من الأصدقاء والأقارب!

***********
إنني أنشر الكتاب في طبعة شخصية بدائية بسيطة، وبعدد قليل، أسوة بنصف مؤلفاتي لأنني لم أجد بعد دار نشر تجازف بنشره، وربما وجد من ينشره بعد رحيلي ومن يعقب عليه بما يغنيه.

عزيز الحاج
باريس في 15 أيار 2010

* هامش: يقول برنارد شو "الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يثير رعبي... بينما لا يشكل الأسد الشبعان أي أذى؛ فليس لديه أي مذاهب أو طوائف أو أحزاب"- وأضيف " وأبطال تحريم وتحليل".