لماذا خابت آمالنا في العراق الجديد؟

-1-
جملة القراء العرب خاصة المؤدلجين منهم، ومن يعتقد بأنه يملك "الحقيقة المطلقة" في السياسة خاصة، يفاجأون ثم يستنكرون تغيير مواقف الكتَّاب والمحللين السياسيين من الأحداث السياسية، ومن مواقف السياسيين غير الثابتة والمتحركة تحرك رمال الصحراء. ولا يترددون في شتم وسب الكتّاب في بعض الأحيان. وكأن الكاتب آلهة من الآلهات التي تُحمدُ عندما تستجيب، وتسبُّ وتشتم ويُكفر بها، عندما لا تستجيب.

فمعظم القراء العرب يريدون من كاتبهم المفضل أن يظلَّ ويثبُت على موقفه الأول مهما تغيرت الظروف، وتقلَّب رجال السياسة. فتحرك رمال الصحراء السياسية العربية، يجب أن لا يدفع الكاتب لتغيير موقفه تبعاً لذلك. وهذا ليس بجديد على الثقافة السياسية العربية. فمعظم شعوب العالم عانت وهي تتعلم فن السياسة بالدرس والتجربة والخبرة والمران ذلك. وتعلَّمت من أخطائها العلم الكثير والغزير. ولكن ما هو مستهجن لدينا، أننا ما زلنا نغالي مغالاة كبيرة في هذا المنحى ونرى - في غالبيتنا- أن الكاتب إذا تغيّر نتيجة لتغيُّر رياح السياسة العربية في مكان وزمان ما، فمعنى هذا، أنه أصبح عميلاً لجهة أخرى، وخائناً لأفكاره السابقة، ومرتداً عن مبادئه الأولى، ومتراجعاً عن أقواله في الماضي. وهذا ما عانى منه كثير من المفكرين العرب، وعلى رأسهم الشيخ المصلح السياسي والاجتماعي المصري خالد محمد خالد (1920-1996). ففي عام 1950 أصدر خالد كتابه العاصفة "من هنا نبدأ". وفيه ردد ما قاله الشيخ علي عبد الرازق بخصوص فصل الدين عن الدولة.
وأثار هذا الكتاب غضب الأزهر، الذي كلَّف الشيخ الراحل محمد الغزالي بكتابة ردٍ على خالد. فأصدر الشيخ الغزالي كتابه المعروف "من هنا نعلم". ولكن الشيخ خالد راجع أفكاره وآراءه بخصوص مسألة فصل الدين والدولة. وأقرَّ في كتابه" الدولة في الإسلام" عام 1982 وبالقلم العريض، أن الإسلام دين ودولة، وأنه تراجع عمّا قاله قبل أكثر من ثلاثين سنة. وعندما التقيت به في إحدى المرات، وأنا أعدُّ كتابي عنه (ثورة التراث: دراسة في فكر خالد محمد خالد) عام 1992 ، عاتبته على تراجعه، فقال لي، بأن هذه "مراجعات" وليست "تراجعات". وكما أن الشعوب تتغير، والأحداث تتغير، والحياة كلها تتغير، فالأفكار تتغير تبعاً لذلك. وأن الحجر هو الذي لا يتغير. ثم استدرك قائلاً: حتى الحجر يتغير، نتيجة لتقلبات الطقس وتبدلات الطبيعة. وقد أكدنا هذه المقولة على لسان المفكر التونسي العفيف الأخضر في كتابنا (محامي الشيطان: دراسة في فكر العفيف الأخضر) عام 2005، وقوله من أن الفكر الإنساني خاضع لمستجدات التاريخ ومتغيرات الزمان والمكان. فالإمام الشافعي (767-820م) على سبيل المثال، كان له فقه خاص عندما كان في بغداد، وعندما انتقل إلى القاهرة (815-820م) غيّر بعض أفكاره خلال خمس سنوات من إقامته في القاهرة، واكتسب فقهاً جديداً، نتيجة لمستجدات رآها في مصر، ولم تكن في العراق.

والمفكر الذي يراجع نفسه وأفكاره ومواقفه بين حين وآخر، مفكر شجاع غير جبان، ومقدام غير خائف، ومرن غير مُتخشِّب. وفي ذلك فائدة كبيرة لقرائه ومتابعيه.

-2-
كنتُ من بين أوائل من باركوا مباركة حارة فجر التاسع من نيسان 2003 في العراق. ودفعتُ بعد ذلك وحتى الآن، ثمن هذه المباركة غالياً. فلم أسلم من الذم القبيح من جهات كثيرة. ولكني كنتُ مؤمناً أشد الإيمان، بأن ثمن الحرية غالٍ على من يشارك في إقامة صروحها، وعلى من يهتف باسمها، وعلى من يشجع القائمين عليها. وكنتُ من ضمن من رأى في فجر التاسع من نيسان/إبريل 2003 انبثاقاً لفجر الحرية العراقية، وليس احتلالاً جديداً للعراق، بعد الاحتلال العثماني، والاحتلال البريطاني، والاحتلال البعثي.

ولكني اكتشفتُ فيما بعد، أن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر كما يقال؛ بمعنى أن ما كنَّا نتوقعه من الساسة ورجال الحكم العراقيين من نزاهة وشفافية ووطنية، لم يكن صحيحاً، ولا واقعياً.

-3-
لقد كنّا نظن، أن المعارضة العراقية التي شجعت ودفعت أمريكا إلى غزوها للعراق، واقتلاع نظام صدام حسين، ذات مصداقية، وشفافية، ووطنية صادقة، تستطيع معها أن تملأ فراغ الديكتاتور المنهار، وتنهض بالعراق، وتحقق له حريته وعزته.

وكنّا نظن، أن الساسة وأهل الحكم الجُدد في العراق، سوف ينقلون الشعب العراقي الصابر، المرابط، المضطهد، المسلوب، من تحت الدلف إلى أمكنة آمنة ودافئة. وإذا بهؤلاء لا يكتفون بإبقاء الشعب العراقي تحت الدلف، الذي كان عليه في عهد الدكتاتور السابق، وإنما يزيدون من عذاب وألم ومعاناة هذا الشعب، بأن يضعونه تحت مزراب الفساد، والفوضى، والسرقة، والنهب. وهذا ما دفع "منظمة الشفافية الدولية" إلى أن تعلن على مدار الخمس سنوات الماضية، بأن الفساد المالي في العراقي ضرب رقماً قياسياً، لا مثيل له في التاريخ البشري!

فماذا يريدوننا أنصار هؤلاء الساسة الفاسدين في العراق أن نقول عنهم؟

وما الفرق بينهم وبين حكم المماليك للعراق في القرون السابقة، كما قلنا في مقالنا السابق؟

-4-
كنّا نعلم، أن العراق تتنازعه دائماً فئتان: الفئة الطائفية، والفئة العشائرية. وأن معظم من حكم العراق في السابق منذ ظهور الإسلام حتى الآن، كان يراعي هاتين الفئتين، ويتقرَّب منهما، ويمنحهما المال، والأرض، والامتيازات، والاحتكارات. وظهر في تاريخ العراق القديم والحديث نتيجة لذلك، زعماء دينيون، وزعماء عشائريون، فاقوا في قوتهم ونفوذهم وسيطرتهم الزعماء السياسيين المحترفين. ومنذ 2003 إلى الآن، وخلال سبع سنوات من عهد العراق الجديد، لم نلمس أي أثر للتقليل أو للحد من الاصطفاف الطائفي أو النفوذ العشائري في العراق. بل العكس من ذلك، فزعماء الطوائف الدينية والعشائرية هم الذين يحكمون العراق الآن، وفي أعلى المناصب.

-5-
لقد كنتُ كواحد من المتابعين للشأن العراقي، يحسب أن العراق كله هو فقط بدر شاكر السيَّاب، ونازك الملائكة، ومحمد الجواهري، ومعروف الرصافي، وعبد الوهاب البياتي، وسعدي يوسف، ومئات الشعراء من مختلف مدارس الشعر.

وكنتُ أحسب أن العراق فقط هو جبرا إبراهيم جبرا، وعلي الوردي، وجواد علي، وعبد العزيز الدوري، ونوري الراوي، وجواد سليم، وشاكر حسن، ونزار سليم، وجميل بشير، ومنير بشير، وسلمان شكر، ومئات الروائيين، والمؤرخين، والموسيقيين، والفنانين، والأكاديميين، والعلماء.

ولكني لم أكن أعرف، أن العراق ليس هؤلاء فقط، وإنما العراق في حقيقته، هم زعماء العشائر وملوك الطوائف، الذين يتصارعون الآن على الغنيمة العراقية (الحُكم) متناسين ما قدمه العراق طوال تاريخه الطويل عامة، وخلال السبع سنوات الماضية خاصة، من دماء، ومال، وشهداء، وجهد، وعرق، لكي يتخلّص من جهنم الديكتاتورية السابقة. ولكننا وللأسف – وحتى الآن – لا نرى بادرة للخلاص العراقي، الذي خيّب آمالنا، وأحبط أحلامنا، وأحالها إلى سراب يحسبه الظمآن ماءً.

فما أغنى العراق بشعرائه وفنانيه وأساتذته وباحثيه وكتابه، وما أفقره بسياسييه من مخلصيه ومحبيه!

د. شاكر النابلسي

المصدر: موقع الاخبار، 21/4/2010