توني بلير وملف الحرب على العراق

يمثل استجواب افراد حكومة توني بلير الذي حكم بريطانيا لمدة عشرة سنوات باعتباره رئيسا للوزراء للفترة 1997 - 2007 وافراد حكومته نموذجا فريدا في الممارسة الديمقراطية في المملكة المتحدة .

يمثل ملف الاستجواب للمسؤولين عن ملف الحرب على العراق بحد ذاته فرصة فريدة لمعرفة أسرار الحرب على العراق وكشف الكثير من الملابسات التي رافقتها بشكل علني كما اعطى هذا الاستجواب الفرصة لكل معارضي الحرب للاستماع بشكل مفصل لكل المفاصل والتفاصيل التي تسببت في الحرب على العراق والاطاحة بنظام دكتاتوري وازاحة صدام من الحكم .

يا ترى هل سيعطي الاستجواب الفرصة للبريطانيين الذين ارسلوا ابناءهم للمشاركة في الحرب على العراق لمعرفة الحقيقة الكاملة من افواه السياسيين بعد اكثر من ثمانية سنوات على اتخاذ قرارات الحرب خلف الكواليس ؟

يريد البريطانيون ان يعرفوا هل ان دماء ابناءهم التي هدرت في العراق كانت نتيجة قرارات صائبة ام نتيجة انانية الحكام في ذلك الوقت وعجرفتهم وغطرستهم وعدم انصاتهم لصوت الحق ؟

بين كل هذه التساؤلات والاجابات يبقى العراقيون مثل الاطرش بالزفة ، تتخذ القرارات بحقهم وضدهم وهم في غفلة مما يحدث لهم ، لا يعرفون ما جرى وما يجري عليهم . يتم قتلهم ونهبهم والضحك عليهم كشعب مغلوب على امره والانكى من كل ذلك ساهم الكثير من السياسيين العراقيين بالاشتراك في صنع حبائل الجريمة ضد شعبهم بكل غباء .

وبعد ان تنتهي الاستجوابات هل ستكون الاجابات على قرار الحرب شافيه لغليلهم ؟ خصوصا بعد ان اعلن توني بلير بكل وضوح وصفاقة وقباحة ومن دون ادنى احترام للضحايا من المدنيين والاطفال الابرياء الذين سقطوا في هذه الحرب انه لا يشعر بالاسف على الضحايا الذين سقطوا من العراقيين والبريطانيين بل زاد في تماديه عندما وجه سؤاله للخبراء وهو جالس على كرسي الاستجواب بالقول من قام بقتل الالاف من العراقيين ومن قام بقتل البريطانيين والاميركان وقوات التحالف ؟
كما انه وضع اللوم بشكل صريح وواضح جدا على العناصر الخارجة على القانون والمتمردين وانصار القاعدة والبعثيين واعوان النظام الصدامي ، ولكن هل اقنعت ردوده نتيجة الاستجواب عوائل الضحايا الذين كانوا يشاركونه الاستماع الى الاسئلة الموجهه له ودموع الامهات الثكالى بابناءهن تصب على خدودهن وهن صامتات لانهن لا يستطعن الكلام في قاعة الاستجواب . وهل اقنعت اجاباته الضحايا العراقيين الذين سقطوا نتيجة القصف الامريكي والبريطاني بالصواريخ عابرة القارات ومن الطائرات التي كانت تسقط الالاف الاطنان من القنابل المدمرة على السكان الامنيين .

يقول توني بلير كان صدام يشكل خطرا وكان يمتلك اسلحة الدمار الشامل وقد استخدم الاسلحة الكيمياوية في ابادة شعبه. انا اعتقد ان معظم العرااقيين لا يشككون بصحة هذا الادعاء لان امثلة ابادة الشعب الكردي في الانفال واستخدام الاسلحة الكيمياوية وقتل الالاف من العرب العراقيين الشيعة في الجنوب وتجفيف الاهوار كلها دلالات على صحة ادعاء توني بلير ، وهنا يتساءل رئيس الوزراء بريطانيا السابق ماذا لو لم تتم ازاحة صدام واعوانه وولديه من سدة الحكم ، بالتاكيد فان ازاحة طاغية باغي مجرم هي افضل من بقاءه في سدة الحكم الوحشي . والسؤال الذي لا بد من اثارته وطرحه وماذا فعلت قوات التحالف والائتلافات التي تشكلت معها بعد ازاحة نظام صدام ؟

لقد كان موقف الامم المتحدة متذبذا بين معارض لازاحة صدام وبقاءه او تغيير نظام الحكم وكانت ارادة المجتمع الدولي تحتاج الى قرار شجاع وحكيم خصوصا بعد ان ثبت عدم جدوى فرض الحصار الاقتصادي وعدم فاعليته في احتواء خطر صدام حسين وآلته العسكرية في قمع الابرياء من الشعب العراقي والمعارضين لسياسته الرعناء.

في مجال اخر قارن توني بلير بين ليبيا التي ادركت مدى الخطر الذي يلاحقها والمصير الذي سوف تواجهه في حالة اصرارها على عدم الانصياع لقرارات الامم المتحدة ووقف اسلحة الدمار الشامل والاسلحة النووية مما جعل العقيد القذافي لأن يسارع بالاعتراف بامتلاك ليبيا برنامجا نوويا تشترك الباكستان وتساهم بشكل كبير من خلال خبرائها ببناء تلك المفاعلات النووية وقام بفتح كل الابواب وسلم كل ما يملك من اجهزة ومعدات الى فرق التفتيش الاميركية وبذلك انقذ شعبه وخرج من نطاق العقوبات المفروضة على ليبيا واعتبر توني ما قامت به ليبيا هو قرار حكيم وصائب وانها فعلت خطوة سليمة بينما كان صدام حسين مكابرا ومعاندا وجاهلا بنفس الوقت للعواقب التي ترتبت على اصراره على المراوغة العسكرية التي اتسمت بالغباء وعدم الحكمة .

وعلى صعيد اخر مهم اعترف توني بلير بصريح العبارة بان معظم الحكام العرب كانوا سعداء جدا لكي يشاهدوا نهاية صدام حسين لان صدام حسين كان رجلا شريرا وبين توني بلير بانه على يقين ومن دون ادنى شك ان صدام كان يمتلك اسلحة الدمار الشامل وهذه الحقيقة لا ينكرها اي عراقي يعرف صدام حسين عن قرب او بعد ونحن العراقيون نتفق مع توني بلير في اعتقاده .

لم يكن توني بلير مترددا ولو للحظة واحدة في اتخاذ قراره بالاطاحة بنظام صدام حسين وازاحته من الحكم واستشهد بقول ممثل الامم المتحدة د. هانس بليكس حيث قال بصريح العبارة ان اي عراقي سوف يتم استجوابه خارج العراق سيكون معرضا للقتل على ايدي جلاوزة الحكم الصدامي وهذا دليل اخر شجع توني بلير على اتخاذه قرار الحرب على العراق وقال لو سمح له ان يتخذ قرار الحرب مرة اخرى فانه لن يتردد في اتخاذ مثل هذا الخطوة .

يذكرني موقف توني بلير بعدم تردده في اتخاذ قرار الحرب على الارهاب والاطاحة بنظام صدام حسين بموقف المجرم الارهابي علي حسن المجيد الملقب بعلي الكيمياوي الذي قال في المحكمة الجنائية انه لو سمحت له الفرصة بابادة الاكراد مرة اخرى وانفلتهم فانه لن يتردد باتخاذ قرار الابادة الجماعية للاكراد ، ومن هنا نستطيع ان نعطي الحق لتوني بلير حيث هناك فرق بين شخص يقرر الابادة الجماعية مثل علي الكيمياوي وبين شخص يريد وقف الارهابيين من المضي بفعلهم الاجرامي .

اعترف توني بلير بان من الافضل بقاء بريطانيا بجانب مساندة اميركا والعمل معها جنبا الى جنب . وكذلك اشار الى ان التقارير الاستخبارية والامنية اشارت الى تنامي وزيادة حيازة النظام العراقي لاسلحة الدمار الشامل . وحول سؤاله عن عدم وجود الخطط اوالتخطيط الدقيق عند احتلال العراق وضح توني بلير بان حكومته كانت امام مجموعة جديدة مختلفة من المتطلبات والاحداث وكان يتوجب عليهم التعامل معها حسب ما هو موجود على ارض المعركة .

مما تقدم يتبين من خلال كلام توني بلير بان اتخاذ القرارات كان حسب مراحل الحرب وكانت القرارات تتغير حسب الوضع العسكري حيث ان القرارات التي تم الاخذ بها بعد مرحلة الحرب تختلف عنها قبل الحرب واثناءها حسب استراتيجية المعركة ومتطلباتها وما رافقها من متغيرات تم التعامل معها في حينها وضرب توني بلير امثلة حول
قرارات تتعلق بالمكونات الاثنية والعرقية وكيفية التعامل معها قبل الحرب ، ثم كيفية التعامل مع الدمار الحاصل للبنى التحتية نتيجة القصف وايضا نتيجة التخريب من قبل عناصر القاعدة واعوان صدام ، قال توني بلير كنا نريد بناء البنى التحتية بسرعة ولكن قراراتنا تبدلت نتيجة تخريب كل ما نريد اصلاحه مما جعلنا نؤجل خطط الاعمار حتى استتباب الامن ، ثم بين توني بلير بان هناك قرارات مهمة حول كيفية تشكيل الحكومة وقرار حل الجيش العراقي وتفكيك حزب البعث .

وردا على سؤال حول فيما لو كان هناك تحليل لمقدار الخطورة ومديات تلك الخطورة عند اتخاذ القرار بالحرب على العراق ، رد توني بلير على هذا السؤال بالقول كان التركيز يتم على مدى الخطورة في كل خطوة يتم اتخاذها باتجاه قرار الحرب وعندما اطحنا بنظام صدام حسين بسرعة فائقة وجدنا ان متغيرات الوضع الذي كنا نواجهه تتغير بسرعة ايضا

وقال توني بلير عملنا على تفكيك وحل الجيش العراقي وحزب البعث ولو ابقينا صدام في الحكم فانه سوف ينافس ايران بالحصول على الاسلحة النووية وكان سينافس المجاميع الارهابية بالارهاب ، وعلى الرغم من حصول اخطاء في عملية حل الجيش العراقي ، هذا القرار الذي اتخذته الادارة الاميركية ونفذه السفير باول بريمر ، لقد تداركنا تصحيح هذه الاخطاء باعادة العدد الكبير من منتسبي القوات المسلحة العراقية للخدمة ودفع رواتب تقاعدية للضباطالكبار منهم ثم عمدنا بكل همه ونشاط على اعادة تشكيل حكومة جديدة تختلف عن الحكومة الدكتاتورية السابقة وبناء توجهات جديدة للشعب من خلال اعداد جيل يؤمن بالديمقراطية والسلام والمحبة .

وفي سؤال مهم حول رأي توني بليرباحداث الفلوجة في شهر نيسان / ابريل من عام 2004 والافراط في استخدام القوة من قبل الاميركان ، رد بالقول كنت قلقا من الشدة والقسوة والافراط في استخدام القوة في الفلوجة وضرب الاميركان للعناصر الارهابية والمجاميع المتمردة من السنة وحاولت اقناع السنة بان يشاركوا في الحكم والحقيقة هي انهم اي السنة كانوا لا يرغبون بالمصالحة ، وعن شعوره حول الاعداد الكبيرة والتي كانت تصل الى معدل يتجاوز 1000 قتيل الى 2000 قتيل في بعض الاشهر وعلى مدى سبع سنوات من الاحتلال وهل هذه هي الوعود التي وعدت الشعب العراقي بها ، رد توني بلير بلغة المدافع والمندهش وقال نعم ان اعداد القتلى مذهلة ومرعبة ولكن السؤال المهم من الذي كان يقتلهم وبهذا حمل توني بلير اعداد القتلى المتنامية في كل شهر بين العراقيين الى المجاميع الارهابية وعناصر القاعدة ودعم الدول المجاورة للعراق في ضرب العراقيين وايقاع اقسى انواع الدمار بالبنى التحتية وقتل الاطفال والنساء والمدنيين .

في ختام هذا البحث المهم عن ملف العراق اود ان اتساءل انا شخصيا من هي الجهات التي يهمها ملف الحرب على العراق وكيف يتم التعامل من كل طرف مع هذا الملف ، للاجابة على هذا التساؤل انا اعتقد بان هناك جهات عديدة تحاول الاستفادة من المعلومات التي تنتج عن ملف الاستجواب بشكل عام وهذه الجهات هي :

• الدول الصديقة لبريطانيا واميركا والتي تعمل وتدور في دائرتهما ، حيث تحاول هذه الدول ان تدرس العقلية التي يفكر بها الزعماء والساسة في بريطانيا وكيفية التعامل مع ملفات مهمة وحساسة مثل ملف الحرب على العراق
• الدول التي تعادي بريطانيا او ان بريطانيا ليست لها علاقات حميمة معها ، هذه الدول ايضا تريد ان تعرف كيف تفكر بريطانيا وساستها في تعاملها مع ملفات العلاقات بين الدول وكيف تدير مصالحها وكيفية تجنب شرورها في المستقبل
• ان جميع اجهزة المخابرات في كل الدول ستعكف على دراسة وتحليل المعلومات التفصيلية في هذا الملف وتتعلم منه الدروس والعبر التي كانت غائبة عنهم .
• القانونيون بشكل عام سيكون لهم اهتمام خاص بهذا الملف في محاولة لمعرفة الجوانب القانونية وشرعية الحرب التي فرضت على العراق والاطاحة بنظام صدام بالقوة وكيف يتم التوصل الى سبل قانونية رصينة تمنع السياسيين من اتخاذ قرارات غير صائبة او غير حكيمة او غير دقيقة تؤدي نتائجها الى كوارث بشرية مؤذية وتلحق بالشعوب خسائر جمة ، وايضا يحاول القانونيون ان يضعوا تشريعات اكثر صلابة وحكمة تمنع حدوث ثغرات قانونية في المستقبل
• السياسيون بدورهم سوف يهتمون بهذا الملف في مختلف انحاء العالم لانه يمثل دروسا وعبراً كبيرة وكثيرة في عملية اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة في الاوقات العصيبة والتعلم من الاخطاء او الاقتداء ببعض السياسيين في عملية صنع واتخاذ القرار وتعلم فن السياسة والمناورة واللباقة والمواجهة والاقناع والحسم في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب
• احزاب المعارضة البريطانية مثل حزب المحافظين وحزب الاحرارالديمقراطيين سوف تدرس كل حركة وكل زلة لسان وكل لفتة والتفاتة يقولها السياسيون في الحزب المنافس لهم والذي قاد المرحلة الحالية والمقصود به هنا حزب العمال بقيادة توني بلير لمدة عشرة سنوات وقيادة كوردن براون في السنوات الثلاث الاخيرة
• عوائل الضحايا من الجنود البريطانيين بشكل مؤثر والمناصرين لهم والمعارضين للحرب في الطاقم العسكري والسياسي البريطاني
• واخيرا سوف تثير هذه الاستجوابات حفيضة العراقيين الصامتين وربما تدفع باتجاه حث حكوماتهم المنتخبة على الاهتمام بهذا الملف والاستفادة منه في نصرة ضحايا العدوان والحرب ورد الاعتبار للقتلى والشهداء الذين سقطوا بسبب قرارات الحرب غير الحكيمة او بسبب طيش ورعونة المسؤوليين عن اندلاع هذه الحرب والايام القادمة وحدها سوف تكشف خبايا كثيرة لا زالت غير معلنة وحتما هناك اسرار ستبقى بعيدة عن عيون واذان الناس البسطاء ولا يطلع عليها الا اصحاب الشأن من المسؤولين عن قيادة هذا العالم وادارة دفة قيادة الشعوب النائمة على ارضية كوكب الكرة الارضية

ضياء السورملي - لندن
31/1/2010
kadhem@hotmail.com