تجيير الأخيار لخدمة الأشرار

بعد نشر مقالي الأخير الموسوم (الكذب ديدنْ البعث) استلمت الكثير من رسائل التأييد من القراء الكرام، ومنها حافلة بمعلومات قيمة، الأمر الذي حفزني على كتابة المزيد عن أكاذيب البعث وأساليبه الشيطانية الخبيثة في تسخير الناس الطيبين لنشر سمومه. وأنا إذ أشكر الأخوة الذين وافوني بمعلومات كثيرة في هذا الخصوص، أكتفي مع الاعتذار، بالإشارة إلى القليل منها، إذ ليس ممكناً نشر كل ما وردني من رسائل وتعليقات. فالمعروف أن البعث نهب عشرات المليارات من ثروات الشعب، (حصة كولبانكيان 5% من النفط خصصت لمالية الحزب) والتي تراكمت لحد عام 1990 إلى نحو 40 مليار دولار، حسب ما أكده الدكتور جواد هاشم، وزير التخطيط في عهد البكر، في مذكراته، إضافة إلى تراكم الخبرة عندهم في التدمير والتضليل، فهم يعرفون كيف يتلاعبوا بمشاعر الناس ويروِّجوا دعاياتهم الكاذبة، ويستخدموا الطيبين لنشر افتراءاتهم.

أبدأ برسالة وردتني من الصديق، الكاتب المتميز، الأستاذ جاسم الحلوائي، قال فيها: "عاشت أيدك... جاء المقال في وقته، فقد أصبح الكثيرون من الطيبين جسراً لتمرير الإشاعات والمبالغات البعثية الخبيثة والمقصودة، مما يتطلب تحكيم العقل والضمير والتأكد من صدقية أية معلومة تتضمن اتهامات خطيرة.... مع تقديري واحترامي".

وتوضيحاً للأمر، فهناك العشرات وربما المئات من المواقع المعادية للعراق الجديد يلفقون ضده، فيحجبون الإيجابيات ويضخمون السلبيات ويختلقون الإشاعات والافتراءات. وتمرير الكذبة يتم بالشكل التالي: كاتب بعثي يلفق تقريراً حافلاً بالإشاعات والاتهامات الخطيرة، القصد منها تشويه سمعة المسؤولين، عادة يبدأ كاتب التقرير بعبارة: (نقلت لنا الأخبار، أو قال مصدر مطلع رفض ذكر اسمه، أو مصدر من داخل الحكومة، أو من مصادرنا العليمة!!!...الخ)، ثم يرسله باسم مجهول إلى عدد كبير من الناس عن طريق البريد الإلكتروني، بينهم وطنيون شرفاء، ومن هم كتاب معروفون بالنزاهة والطيبة، ويصدق البعض منهم الإشاعة، فيبعثها بدوره إلى معارفه وإلى بعض المواقع. فيعتقد رئيس تحرير الموقع بصحة التقرير لأنه استلمه من مرسل يثق به، لذا يعتقد بصدقية التقرير فينشره على موقعه ويوزعه على الآخرين. وهكذا مر التقرير الملفق من مجهول إلى معلوم، ليقوم المعلوم بدور الجسر لتمريره ونشره وإضفاء الصدقية عليه. وهذا ما يحصل الآن باستمرار مع الأسف الشديد. وعندما تعاتب رئيس التحرير على نشره لهكذا تلفيق، يجيبك أنه استلمه من شخص يثق به، وإذا كان تلفيقاً فعلى الحكومة إصدار بيان بالنفي وإلا فيعتبر الخبر صحيحاً!! وآخر يتعكز على مقولة (لا دخان بلا نار!!) وهكذا فليس للحكومة أي عمل سوى متابعة الأكاذيب في آلاف المواقع وتكذيبها.
عجبي، فلو صدقنا بالإشاعات وفق مقولة (لا دخان بلا نار) لوجب علينا تصديق كل الأكاذيب التي تردنا يومياً، وفي هذه الحالة فكلمات مثل: كذب وتلفيق وافتراء، يجب حذفها من القواميس اللغوية، لأنه (لا دخان بلا نار!!!). نقول لهؤلاء الأخوة سامحهم الله، نعم هناك دخان بلا نار كما وهناك قنابل دخانية smoke screen لإخفاء الحقائق وتشويهها. وهذا لا يعني عدم وجود حقائق بين هذا الكم الهائل من التقارير، ولكن يجب على الإنسان أن يستخدم عقله وضميره وفطنته commonsense للتمييز بين الإشاعة والحقيقة، وإلا صرنا جميعاً ضحايا النصابين والمشعوذين، وساهمنا في نشر الإشاعات المغرضة ووقعنا في فخ البعثيين وغيرهم من المجرمين.

رسالة أخرى وردتني من الصديق الأستاذ كمال ياملكي، يستشهد فيها بحكمة الحكيم الصيني كونفوشيوس: (إن سقوط ألف من العلية أحمدُ عاقبةً من صعود واحد من السفلة). وهذه الحكمة تنطبق على حالتنا العراقية، فصعود مجرم محترف مثل صدام حسين، صعَّدَ معه إلى الحكم آلاف السفلة والقتلة من الذين جلبوا على شعبنا البلاء.
كما وصلني تعليق من الأستاذ ليث رؤف حسن، قال فيه: ["مقالكم (الكذب ديدنْ البعث) جاء كالبلسم الشافي على قلوب كل من يحب الحرية والتحرر من البعث وأفعاله وأساطينه مثل الكذاب أبو العلوج ومن لف لفه. وللأسف هنالك الكثير من الأبرياء ونظاف السرائر ممن يصدق هذه الكتابات وخصوصا إن البعث استفاد من الشبكات العنكبوتية التي بنوها بفلوس العراق المنهوبة طيلة 40 عام (5% من دخل العراق النفطي تحول إلى الحزب خارج العراق) كما أراد لهم شيطانهم الأكبر، وأكد ذلك مدير الدعاية الجديد (...) على (شبكة البصرة).
هنالك الشبكات التالية ويا حبذا لو نشرتم أسماءها لئلا يُغش بها البسطاء من الناس أو البعض ممن يجهل ألاعيب البعث، ومن هذه المواقع على سبيل المثال لا الحصر، وهو غيض من فيض:
شبكة البصرة، شبكة المنصور، شبكة النهى، دنيا الرأي، المضيف، وغيرها عشرات عدا الصفحات الحرة. وقد نسى هؤلاء ما قال الشاعر:
أحزب البعث أم بعث العبيد بقايا الغرب في العهد الجديد
أحزب أنت والأحزاب ملَّت أسالــيب الثعــالب والقـرود
وهذه القصيدة من أكثر من 30 بيتا لا اذكرها منذ أن كنت في السابعة عشرة من عمري، وهي تصف الحزب الفاشي بكل دقة وأمانة وكان ذلك في خمسينيات القرن الماضي. لقد نفاني أبي في بداية الستينات خوفا من البعث وتشردت أنا نفسي بعد أن تخرجت خوفا من البعثفاشية وحُرمت من استنشاق هواء العراق لأكثر من سبعة وأربعين سنة بسبب البعث ورئيسه المنبوش.
مع التقدير والاحترام"- ليث رؤف حسن]

أجل، أستغل البعث تعقيدات المجتمع العراقي وطيبة وبساطة الناس، وسذاجة وجهل البعض منهم في نشر إشاعاته المغرضة، إذ كما أكد الأستاذ (Robert L. Park) في كتابه القيم (Superstition) أن 90% من البشر يؤمنون بالخرافة، وربما النسبة أعلى في العالم العربي والإسلامي وبالأخص في العراق، إذ منهم من يصدقون كل ما يقرؤون ويسمعون، فتنطبق عليهم صفة الـ (Gullible) أي كما نقول في العراقي (على حس الطبل خفَّن يرجليه). لقد قرأنا الكثير من هذه الأكاذيب والإشاعات وصدقنا البعض منها. فعلى سبيل المثال، ترددت إشاعة بتكرار منذ أكثر من عام في تقارير ومقالات ورسائل إلكترونية، بل وحتى في الصحافة العراقية، مثل (البينة الجديدة) مفادها أنه تم إخراج جثمان المرحوم علي الوردي من قبره بأمر من الشيخ جلال الصغير. ورغم نفي الأخير لهذه الإشاعة وتهديده بمقاضاة الصحيفة، إلا إنها بقيت تتنقل عن طريق الإيميلات ولحد الآن. وأنا من الذين صدقوا الخبر وفق مقولة (لا دخان بلا نار!!) وأعربت عن غضبي في مقال في وقته. ولكن بعد الاستفسار من ذوي المرحوم الوردي، تأكد لنا أن الخبر ملفق ولا صحة له. وفي هذه الحالة ما هو موقف الذين يتعكزون على مقولة (لا دخان بلا نار) في تأكيد الإشاعات؟.

وكما ذكرت في مقالي السابق، إن وجود حزب البعث مرتبط أساساً بالكذب، وبدون الكذب والإشاعة يختفي هذا الحزب من الوجود. فانقلابهم الدموي الأول في 8 شباط 1963 نجح عن طريق الكذب. إذ حالما سيطروا على محطة الإذاعة في أبي غريب، وأذاعوا بيانهم الأولن سيئ الصيت، راحوا يقرؤون بتكرار برقيات تأييد كاذبة معدة مسبقاً، أدعوا أنها وصلتهم من قادة الفرق العسكرية في أنحاء العراق، يؤيدون بها "الثورة" على "الطاغية الأرعن". والغرض من ذلك هو بث اليأس في نفوس الضباط والجنود المؤيدين للزعيم قاسم، خاصة وكان يوم الانقلاب الأسود هو الجمعة، حيث عطلة نهاية الأسبوع. إن مشكلة البشر أنهم لا يعرفون الحقائق إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن أدت الكذبة مفعولها المدمر، إذ مازال شعب العراق يعاني من تلك الكذبة الكبرى، وذلك الانقلاب الدموي.

عامل آخر يعتمد عليه حزب البعث لنشر أكاذيبه، هو الجهل، ولذلك عندما اغتصب البعثيون السلطة في العراق للمرة الثانية عام 1968عملوا على التجهيل المتعمد للمجتمع. فرغم قيامه في السبعينات بحملة محو الأمية، وبنى الجامعات في المحافظات، إلا إن البعث في نفس الوقت قام بتزييف الوعي، وبتدمير مستوى التعليم في جميع المراحل، لذلك أطلق الواعون المخلصون من العراقيين على حملة (محو الأمية) اسم حملة (نحو الأمية) لأن الغاية منها كانت تزييف الوعي ونشر أفكار البعث وأكاذيبه وقولبة المجتمع وتشكيله حسب مقاسات البعث وتصديق أكاذيبه.
فهناك فرق بين الجهل والأمية الأبجدية، إذ نجد الكثير من الناس لا يعرفون القراءة والكتابة إلا إنهم مثقفون عن طريق السماع والاختلاط بالمثقفين، وخبرتهم في الحياة. وبالعكس، هناك الكثير من الذين يعرفون القراءة والكتابة، بل وحتى البعض من حملة الشهادات الجامعية، إلا إنهم أميون ثقافياً، يوظفون معارفهم للتخريب والتضليل ولخدمة الشر كما يفعل البعثيون. أما الجامعات العراقية، فقد أنزلها حكم البعث إلى مستوى الثانوية فيما قبل مجيئه. وعلى سبيل المثال، قبل اغتصاب البعث للسلطة، كان هناك علم الاجتماع يدرَّس في جميع الكليات، كجزء من الثقافة العامة للطالب الجامعي، فأقدم البعث على إلغائه وحل محله (الدراسات القومية) وهي نوع من الهذيان للكتاب البعثيين، القصد منها نشر التعصب القومي والفكر الفاشي بين الشباب.

فالبعث لم يعمل على تجهيل المجتمع الذي يحكمه إلا لعلمه الأكيد أنه لا يستطيع نشر أيديولوجيته الفاشية إلا في المجتمع الجاهل، إذ لا تعيش الديدان الطفيلية إلا في المستنقعات الآسنة. ولذلك عمل البعثيون بشكل مبرمج على تفتيت النسيج الاجتماعي وتدمير التعليم ومنع الشعب العراقي من حرية التفكير والتعبير.

وكإجراء لمواجهة آثار التجهيل البعثي في المجتمع العراقي، اقترحتُ مع غيري من الزملاء الآخرين، في مداخلاتنا في الملتقى الفكري في بغداد، شن حملة ثقافية واسعة ومستمرة لإزالة تركة البعث الثقيلة من مخلفات التجهيل والتضليل، فذكرنا قائمة من الإجراءات اللازمة من ضمنها، إدخال ثلاث مواد مهمة في مناهج التعليم الثانوي وهي: الفلسفة وعلم الاجتماع وتاريخ الأديان المقارن. فهذه المواد الثلاث تساعد على تحرير الإنسان من التعصب الديني والطائفي والعرقي، ونشر روح التسامح، وتقبل التعددية الثقافية والدينية والمذهبية والقومية والسياسية وتقبل الآخر المختلف.

والجدير بالذكر أن نظام البعث الصدامي، كان حاقداً على كل إنسان شريف وبالأخص العلماء والأطباء والمثقفين من حملة الشهادات العالية وأصحاب الاختصاصات العلمية والأدبية. لذلك أول عمل قام به صدام عندما أزاح البكر وصار هو المسؤول الأول في الدولة عام 1979، أصدر أمراً رئاسياً بفصل 48 أستاذاً من خيرة أساتذة الطب في العراق دون أن يبيِّن أي سبب لهذا الإجراء التعسفي. وللإطلاع على التفاصيل وقائمة أسماء المفصولين، راجع كتاب (حكيم الحكام من قاسم إلى صدام) للأستاذ الدكتور فرحان باقر الذي كان الأول في القائمة.

خلاصة القول، إن بقاء البعث يعتمد أساساً على الكذب، ونتيجة لتراكم الخبرة والخبث في التدمير والتضليل، يعرف البعثيون كيف يستغلوا طيبة الناس وحسن نواياهم في استخدامهم جسراً لتمرير أكاذيبهم وإشاعاتهم ونشرها على أوسع نطاق. لذلك نسترعي انتباه الناس الطيبين من أصحاب النوايا الحسنة أن لا يقعوا ضحية في حبائل البعث، وذلك بإعمال العقل والضمير للتأكد من صدقية أية معلومة تتضمن اتهامات خطيرة قبل ترويجها، فــ(الطريق إلى جهنم معبد بالنوايا الحسنة.)

د. عبدالخالق حسين
21/10/2009
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان الإلكتروني للكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب: www.abdulkhaliqhussein.com