موقف الدول العربية وجامعتها من العراق

لم تكن علاقة الدول العربية بالعراق حميمة في أي عهد في التاريخ الحديث، بما فيه العهد الملكي. وأبناء جيل الخمسينات يتذكرون التحريض المصري في عهد عبدالناصر ضد العراق، سواء كان في السنوات الأخيرة من العهد الملكي، أو فترة جمهورية 14 تموز في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم ودوره في اغتيال الثورة وقيادتها وإدخال العراق في نفق مظلم. فقد استغل عبدالناصر تعقيدات الوضع السياسي في العراق والصراعات الحادة بين القوى السياسية، فقامت وسائل إعلامه وأبواق دعايته بالتحريض ضد الحكومات العراقية المتعاقبة في جميع العهود.

والفترة الوحيدة التي أظهرت الدول العربية وجامعتها العتيدة التضامن مع العراق كان في عهد الجلاد صدام حسين. ولو تأملنا الأمر جيداً لوجدنا أنه حتى تضامنهم في ذلك العهد مع صدام لم يكن بنوايا حسنة، أو في صالح العراق، بل تضامن مع جلاد لأنه كان يسوم الشعب العراقي سوء العذاب، حيث أحال العراق إلى بقرة حلوب للعرب، وجحيماً على شعبه. وقائمة العذاب معروفة، حيث فتح صدام محارق حروبه الطائشة مع إيران لتدمير طاقات الشعبين، البشرية والاقتصادية، وقام بتهجير مليون عراقي بتهمة التبعية الإيرانية، وشرد أربعة ملاين آخرين إلى الشتات، واستورد مقابلهم أربعة ملايين من البلدان العربية، ولذلك شجعه العرب على تلك المحرقة ومنحوه شتى الألقاب البطولية، ووصفوه بأنه حارس البوابة الشرقية من الفرس المجوس، إلى أن أنقلب عليهم بغزو الكويت، عندئذ غيَّروا موقفهم منه، ولأنهم تأكدوا أن أيامه باتت معدودة، ونهايته صارت قريبة، وقد حقق لهم ما أرادوا منه في تدمير العراق وإنهاك شعبه.

ففي الوقت الذي وقفت فيه جميع الدول العربية مع أمريكا، بما فيها حكومة البعث السوري، في تحرير الكويت من الاحتلال الصدامي، وقفت هذه الدول ضد تحرير العراق من نفس الاحتلال الفاشي ورغم عدائهم لصدام حسين ونظامه المجرم. والسبب هو أنهم رغم بغضهم لصدام، كانوا يفضلون بقاءه يحكم العراق ويضطهد شعبه وهو ضعيف على أن يحكمه نظام ديمقراطي متحضر، يستعيد به هذا الشعب عافيته ومكانته اللائقة به في العالم. لذلك عارضت الدول العربية وجامعتها العتيدة،(عدا الكويت)، تحرير العراق، وسمته احتلالاً، وسخرت جميع وسائل إعلامها وأئمة مساجدها في إصدار الفتاوى وتحريض وتجنيد الشباب العربي المسلم للتوجه إلى العراق وإعلان الجهاد لحماية أخوتهم أهل السنة من المحتل الكافر وعملائه الشيعة "الروافض" كمدخل للجنة. وهذا ما حصل بعد التحرير ولحد الآن.

فطيلة سنوات نضال الشعب العراقي ضد حكم البعث الفاشي لم تعترف الجامعة العربية بالمعارضة الوطنية، ولم نسمع يوماً أن أمينها العام قد استقبل وفداً من المعارضة العراقية. ولكن ما أن سقط حكم البعث الفاشي حتى وسارع السيد عمرو موسى باستقبال وفوداً من فلول البعث بالأحضان، وتحت أضواء الإعلام العربي، واعتبارهم قادة معارضة وطنية ضد "الاحتلال الغاشم".

ومنذ التحرير، ناصبت جميع الدول العربية العداء للحكومات العراقية المتعاقبة،، بعضها علناً وبعضها سراً، وتحت مختلف الذرائع الواهية، مدعية أنها حكومة احتلال، علماً بأن الحكومة العراقية هي الحكومة الوحيدة في البلاد العربية التي تم انتخابها من قبل الشعب بانتخابات حرة ونزيهة رغم أنها جرت تحت تهديد الإرهابيين القتلة، وشهد بنزاهتها مراقبون دوليون. وهي الحكومة الوحيدة في تاريخ العراق الحديث التي يشارك فيها جميع مكونات الشعب العراقي دون استثناء، وكل حسب نسبته في الشعب، أو يحاربونها، كما في الموقف السعودي، بذريعة أن حكومة المالكي فشلت في تحقيق المصالحة الوطنية!! والمقصود هنا بالمصالحة هو المصالحة مع البعث ومشاركته في السلطة.

وقد كشفت كارثة الأربعاء الدامي، يوم 19 آب المنصرم، المزيد من عداء الدول العربية للعراق وبشكل أوضح، خاصة وبعد أن توافرت لدى الحكومة العراقية أدلة ثبوتية تؤكد ضلوع النظام السوري الفاشي بالجريمة، واحتضانه للقتلة البعثيين وأتباع القاعدة. فدور النظام البعثي السوري في دعم فلول البعث العراقي في جرائمهم معروف منذ سقوط الفاشية، لأنه يحلم بعودة حكم البعث الموالي له ليحيل العراق إلى مستعمرة سورية باسم الوحدة العربية المهزلة، على غرار الوحدة الهزيلة بين مصر وسوريا في عهد عبد الناصر والتي انتهت بالفشل الذريع لأنها تحققت عن طريق العواطف الصاخبة وبإرادة فوقية للحكام، وليست بإرادة الشعبين، المصري والسوري، لذلك انهارت هذه الوحدة المسخرة لأن ما بني على باطل فهو باطل. ولكن البعثيين لم يتعلموا أي درس من كوارثهم، إذ كما قال الفيلسوف والسياسي الروماني شيشرون: "كل إنسان يخطأ، ولكن الغبي وحده يصر على تكرار أخطائه". يبدو أن البعثيين هم من هذا الصنف، لن يتعلموا من أخطائهم بل وجرائمهم أبداً.

وبدلاً من أن تتخذ الدول العربية موقف الدعم للشعب العراقي الجريح في محنته الدامية، نجد هذه الدول تقف إلى جانب سوريا بإعلامها ومواقفها المتخاذلة، وتحاول بشتى الوسائل خلط الأوراق وتضليل الرأي العام العربي، وإبعاد التهمة عن الدور السوري في الإرهاب، بل وحتى إلقاء الوم على حكومة المالكي ووصفها بالضعف والتخاذل، وغير قادرة على حكم العراق وحماية شعبه.

والمخجل أن راح بعض السياسيين العراقيين، وهم برلمانيون وقادة أحزاب ممن تربطهم علاقة بالبعث والإرهابيين، راحوا يبرؤون البعث والتكفيريين من الإرهاب، واعتبروا اتهام الحكومة للبعث والتكفيريين بجريمة الأربعاء الدامي هو "هروب إلى الأمام". وراحت الصحف العربية تدعم هذا الاتجاه، وخاصة السعودية منها والتي كانت حتى وقت قريب تشن حملات شرسة ضد النظام السوري منذ أن وصف بشار الأسد جميع ملوك ورؤساء الدول العربية، وعلى رأسهم الملك السعودي، بأنهم "أشباه الرجال"، لأنهم لم يقفوا إلى جانب حسن نصر الله في حربه العبثية غير متكافئة، والتي ورط بها لبنان مع إسرائيل عام 2006. علماً بأن الرئيس السوري نفسه لم يقدم أي شيء لنصرة حزب الله عدا الهذيان وشتم الآخرين.

ولكن ما أن طالب السيد نوري المالكي، سوريا بتسليم المخططين للإرهاب من المقيمين فيها، وإنكار النظام السوري ذلك، وعمل على اختلاق وتصعيد الأزمة العراقية- السورية، حتى وقفت هذه الدول إلى جانب سوريا ضد حكومة المالكي، ومعها صحافتها وبالأخص الصحافة السعودية مثل (الشرق الأوسط) و(الحياة) اللتين بدأتا حملاتهما ضد المالكي ودفاعهما المستميت عن سوريا. ولذلك نعتقد أن أي تدخل عربي ومن قبل الجامعة العربية، لم يكن في صالح العراق، بل لإنقاذ سوريا من ورطتها.

كما وظهر علينا منذ بدء الأزمة العراقية- السورية، عدد من الكتاب السياسيين والمحللين العرب، فنشروا مزيجاً من التحليلات والاتهامات المتناقضة ضد المالكي، منها، أن أعلن البعض فرحتهم أن أمريكا بقيت متفرجة من توتر العلاقة بين سوريا والعراق، وأن هذا الموقف دليل على تخلي إدارة أوباما عن العراق. بينما يقول آخرون أن اتهام المالكي لسوريا هو بناء على أوامر أمريكية لفرض الضغوط على النظام السوري والتشديد على عزلته. وعلى النقيض من هذا وذاك، يقول ثالث أن إيران هي التي دفعت المالكي لاتهام سوريا بالجريمة كجرة إذن لها لأنها تحاول التقرب من أمريكا!! وآخر يقول أن من قام بمجزرة الأربعاء الدامي هو جيش القدس الإيراني، لزعزعة موقف المالكي لأنه رفض الانضمام للإئتلاف الوطني الذي يضم العديد من القوى السياسية الموالية لإيران....
وهكذا فنحن أمام جملة من الاتهامات والتخرصات المتناقضة التي لا أساس لها من الصحة، والتي تدل على أن أعداء العراق هم الذين في بلبلة فكرية وفقدوا صوابهم.

والمؤسف أن بعض القوى الوطنية والشخصيات السياسية استجابت لتدخلات دول الجوار في الشأن العراقي. فبدلاً من توحيد صفوفها والوقوف مع الحكومة في هذا الوقت العصيب للدفاع عن الشعب العراقي، راحت هذه القوى والشخصيات تدافع عن الجهات الخارجية مثل سوريا، وتنتقد المالكي بأنه تعجل في اتهام سوريا بضلوعها في الجريمة. بينما الحقيقة، أن المالكي تأخر طويلاً في الكشف عن دور دول الجوار في الإرهاب، إذ كان المطلوب منه ومن الحكومات العراقية المتعاقبة قبله منذ سقوط حكم البعث، أن يكشف صراحة عن دور هذه الدول منذ سنوات، ونحن نطالب السيد المالكي أن يفضح الدول الأخرى الضالعة في الجريمة مثل إيران والسعودية.
إن تحرك المالكي في مطالبة السوريين بتسليم الإرهابيين وتشكيل محكمة دولية لمحاكمتهم هو نتيجة ضغط الشارع العراقي، وعليه فالذين عارضوه على هذه الإجراءات هم الذي سيخسرون مكانتهم ويسقطون من نظر العراقيين.

ونحن إذ نقدر خطورة الموقف وصعوبة فضح جميع دول الجوار في وقت واحد في دورها لزعزعة الأمن والاستقرار في العراق، وذلك سعياً من حكومة المالكي في الإبقاء على شعرة معاوية في العلاقة مع هذه الدول كي لا تظهر عداءها صراحة للعراق وبالتالي تكثف من دعمها للإرهاب، وندخل في حرب إعلامية عقيمة، ولكن نؤكد لأولئك السياسيين العراقيين الذين ينتقدون المالكي بفضح النظام السوري، أو تبرئة البعث والتكفيريين من الإرهاب على أمل إضعاف موقف المالكي من أجل الكسب السياسي، أنهم على خطأ كبير، فالشعب العراقي سوف لن يغفر لهم ذلك. لأن شعبية الحزب والشخص الجدير بحكم العراق يقرره الشعب العراقي وليس الإستقواء بالدول الخارجية المعادية للعراق على حساب المصلحة الوطنية.

وهل يصلح الحوار ما أفسدته الأيديولوجية؟
نسمع الكثير عن تدخل أصحاب النوايا الحسنة، ومطالبتهم المالكي بتهدئة الوضع مع سوريا، منها توسط وزير خارجية تركيا. وكان آخر هذه المحاولات هو بيان صدر عن هيئة الرئاسة العراقية، المكونة من الرئيس جلال طالباني ونائبيه عادل عبد المهدي وطارق الهاشمي، طالبوا فيه رئيس الوزراء نوري المالكي التخفيف من حدة التوتر مع سورية، بالقول أن أي نزاع دبلوماسي بين البلدين يجب أن يحل بالحوار. وقال مجلس الرئاسة العراقي انه بعث برسالة إلى نوري المالكي لتذكيره بأنه لا بد من الرجوع إلى المجلس في ما يتعلق بجميع القرارات السياسية الكبيرة.

والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو: من الذي أثار هذا الأزمة؟ هل هو المالكي الذي يُقتل شعبه يومياً، وبمجرد مطالبته النظام السوري بتسليم المخططين لهذا الإرهاب صار هو مثير الأزمة مع سوريا؟ أم النظام السوري الذي يدعم الإرهاب في العراق والذي أثار كل هذه الضجة وأرعد وأزبد وقام بتوتير الوضع بين البلدين لمجرد مطالبة المالكي بالقتلة الذين تأويهم سوريا؟
لذلك نعتقد أنه كان الأجدر بهيئة الرئاسة العراقية دعم المالكي ومطالبة المعتدي بشار الأسد بتهدئة الوضع وليس مطالبة المعتدىَ عليه. كذلك ليس من الإنصاف مطالبة المالكي بكل ما في وسع حكومته بدحر الإرهاب، وفي نفس الوقت تكبيل يديه ومنعه من أخذ إجراءات ضرورية لدحر هذا الإرهاب. إذ كما قال السيد هوشيار زيبار، وزير الخارجية، في تصريح صحفي له: (أن الدول ومعارضاتها تتوحد كلمتها في حال تعرضت لتهديد خارجي أو داخلي. لكن الأمر بالعراق معكوس، لأن الساسة العراقيين "غير متوحدين لا في الكلمة ولا في الموقف"، مما جعل العراق يظهر بمظهر الضعيف لأن الناس والدول، لا تحترم بلدًا يتحدث مسؤولوه كل على هواه ومصلحته الشخصية آو مصلحة حزبه وتكتله.) (إيلاف، 8/9/2009)

والسؤال الأخير هو: هل فعلاً ينفع الحوار الدبلوماسي مع سوريا في تهدئة الوضع؟
الجواب: كلا. إن النظام السوري، كصنوه البعث الصدامي المقبور، تحركه أيديولجيته البعثية التي لا يمكن لها أن تعيش بدون أزمات وتوتير العلاقة مع دول الجوار. فكما بينا في مقال سابق، أن مواقف الدول الثلاث، إيران وسوريا والسعودية، مبنية على إستراتيجية وأيدولوجية، تهدف إلى إفشال العملية السياسية في العراق، ولكل منها هدفها من هذه العملية في العراق: السعودية تريد إبادة الشيعة "الروافض" في العراق ولا يمكن أن تقبل بحكومة يرأسها "رافضي"، أما إيران فإنها تريد إقامة حكومة ولاية الفقيه في العراق وتحويل إلى مستعمرة إيرانية، وأما سوريا فإنها تحلم بعودة حزب البعث الموالي لها لتحويل العراق إلى مستعمرة سورية. وأمام هذا التكالب ضد العراقيين، نرى القوى السياسية العراقية منقسمة على نفسها وفي ولاءاتها لهذه الدول، وتلقي اللوم على حكومة المالكي طمعاً في السلطة.

وبناءً على ما تقدم، لا يمكن أن ينجح أي حوار في تحسين العلاقة مع هذه الدول الثلاث، إلا بعد يتخلص العراق من ضعفه، ويبني قواته المسلحة القوية المتماسكة والنظيفة من أي اختراق، تثير الرعب في نفوس من يريدون به شراً، وتنضج أحزابه السياسة وترتفع إلى مستوى المسؤولية فتفضل مصلحة الشعب على المصالح الفئوية والذاتية، وتعتمد على شعبها وخدمته في كسب قوتها وشعبيتها، بدلاً من الإستقواء بدول الجوار.

د. عبدالخالق حسين
9/9/2009
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان الإلكتروني: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com

الموقع الشخصي للكاتب: www.abdulkhaliqhussein.com