عن "كرد المركز" و"كرد الأطراف"

حدث التغيير الأكبر في بنيوية النظام المٌسيّر لإقليم كردستان العراق بعيد التدخل الأميركي في أبريل 2003 وإزالة واشنطن النظام السابق من الوجود، واجهازها على أغلب رموزه. التغيير هذا وطدّ لعلاقة جديدة بين بغداد وأربيل، قامت على "الفيدرالية" و"اللامركزية" من خلال دستور بيّن صريح ـ رغم ظهور بعض المشاكل هنا وهناك ـ من جهة التطبيق وتنفيذ الكتل السياسية المتصدرة لبنود ومواد الدستور ونصوص الإتفاقيات. لكن في الشكل العام، بقي الدستور يعترف بالكثير من"استقلالية كردستان عن بغداد" وكيف ان هذه "الإستقلالية" تظل مشرعنّة بحبل سري بسيط، يهدد الجانب الكردي في الكثير من الأحايين ببتره والفكاك من "العراق العربي" الى الأبد. ولعل دستور الإقليم أكدّ على مثل هذه الرؤية، وجعل من "التقبل بها" نصّاً مكتوباً متفقاً عليه، ومدموغاً بدمغ "الشرعيّة البرلمانية الكردستانية" كذلك...
بدأ الحزبان الرئيسيان في كردستان، الحزب الديمقراطي الكردستاني، والإتحاد الوطني الكردستاني، في توحيد إدارتي أربيل والسليمانية ومن ثم عمدا إلى عقد "اتفاق استراتيجي" بينهما في 2005 بغية تقاسم السلطة والإتفاق على تقسيم حصة الـ17% من ميزانية الدولة العراقية المركزية، والتي خٌصصت للصرف على محافظات دهوك، السليمانية، وأربيل. وبالفعل سار هذ الإتفاق بشكل جيد ( رغم الفشل {المقصود} في توحيد وزارات البيشمركة والمالية والداخلية) حتى الإنتخابات الأخيرة، حيث تلقى الحزبان الحاكمان ( الإتحاد الوطني الكردستاني، بشكل خاص)، ضربة قوية من قوى المعارضة والتي باتت تسيطر الآن على حوالي 40% من مقاعد البرلمان. فظهرت كتلة معارضة قوية "ستراقب وتتصيّد" لكل هفوة في عمل الحكومة القادمة، أو من المفروض بها ان تفعل ذلك، فاعيدت الحسابات من جديد، وقرر الإتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة الرئيس العراقي الحالي جلال الطالباني، ترأس الحكومة الإقليمية هذه المرة للحفاظ على قواعده والتي باتت تتذمر بشكل كبير من قضية "التنازل المجاني" لحق الإتحاد في حكم الإقليم مناصفة بحليفه/غريمه الديمقراطي الكردستاني. ومن المهم القول بان ظهور معارضة قوية لنهج الحزبين الحاكمين في كردستان، يعٌتبر إنتصاراً للشعب الكردي، ويٌسجل كذلك في رصيد نضال الإتحاد والديمقراطي.
الحياة السياسية في كردستان تسير بشكل طبيعي. وكل شيء في عالم السياسة متوقع. التحالفات والمراهنات تقوم على أساس الإقتصاد وتقاسم الموارد. وثمة هنا تلويح بارز للشعارات المفخمة وحديث مجلجل عن "كركوك" و"المادة 140" و"الحقوق في استخراج النفط" وكذلك " حق تقرير المصير والدولة الكردية". هذه كلها أمورعادية في السياسة، والكل يستخدم الشعار للوصول إلى الهدف، بعد خدر المواطن و"الضحك على ذقنه" سياسياً، وبشكل مشروع، ودائماً وفق القانون وبكفالته. لكن وفي غمرة هذه العملية حدث شيء خطير جداً. لقد أدى انشغال النخبة السياسية الحاكمة في كردستان بـ "الميزانية" و"الموارد" و"الإعمار" و"تقاسم وتبادل السلطة" عن تقوية الجبهة الداخلية الكردستانية وخلق مواطنة حقة بين مكونات المجتمع الكردستاني، وهنا بيت القصيد، وهنا مكمن العلة. تلك العلة التي راقبناها عن كثب وبشكل مستمر، منذ مقالنا الأول "كردستان السنيّة" 2005 والذي توجسنا فيه من ظهور "نزعة سنيّة مركزية" لدى أربيل والسليمانية تجاه الكرد غير السنّة من إيزيديين وفيلية وشبك وكاكائيين، أو من أسميناهم بـ "كرد الأطراف" من المهمشين، المظلومين، البائسين، المهملين، والمهددين في دمهم ولقمتهم.
للمرء أن ينظر نظرة واحدة في كتلة التحالف الكردستاني في البرلمان العراقي، وكذلك حصة التحالف في الحقائب الوزارية، بدءاً من حكومة إياد علاوي، ومروراً بحكومة إبراهيم الجعفري، وإنتهاءً بحكومة نوري المالكي، لكي يعرف خلو هذه الحصة من أسماء أي من المحسوبين على "كرد الأطراف" أو "الكرد غير السنّة"، رغم ان نسبة هؤلاء لاتقل عن 30% من عموم الشعب الكردي في العراق ( الفيلية، الإيزيديون، الشبك، الكاكائيين... والتقدير هنا لكاتب هذه السطور).
ومنذ الدكتور ممو عثمان الوزير حامل حقيبة المجتمع المدني في حكومة علاوي ( بالمناسبة: أين هو الدكتو ممو الآن ياترى، وما هي طبيعة عمله؟)، لم يكلف القادة الكرد أنفسهم بتعيين شخص غير سنّي في منصب وزير، من أصل 5 وزارء اكراد، أو حتى في منصب أحد نواب رئيس الوزراء، او نواب رئيس البرلمان، او في بقية المراكز الحساسة في الجيش، والشرطة، والخارجية، والإستخبارات، والمالية، والنفط، من التي ارادت لها المحاصصة إياها ان تكون من حصة الكرد في "العراق الجديد"، فزرع فيها قادة كردستان "مسؤولين" و"خبراء" و"تكنوقراط" من المكون الكردي السنيّ حصراً؟.
والأكثر من ذلك، وياكثرة الهم على القلب، بان "المركز" التليد لم يكتف باقصاء "الأطراف" أوالمكون الكردي غير السني من الحكم والتمثيل في بغداد، بل سطى على حصته في أربيل أيضاً. فلم نجد، منذ "التحرير الأميركي" عام 2003، تغطية عادلة وديمقراطية للمكونات الكردية "الطرفيّة" و" الهامشية" لافي وزارات كردستان ولافي برلمانها العتيد. وكان الختام مسكاً، حينما تم القبول والتكرّم، وبمزيد من العطف والرعاية، وتعيين نجل سمو امير الإيزيدية في برلمان كردستان، ليكون ممثلاً عن حوالي نصف مليون إيزيدي، يشكلون حوالي 10% من تعداد الشعب الكردي في الإقليم. أي ان السيد نجل الأمير المفدى يمٌثل في شخصه الكريم 10 أشخاص ايزيديين كان من المفترض أن يجلسوا تحت قبة برلمان كردستان"هم"، ليمارسوا حقهم و"اصالتهم الكوردية" مرفلين بعز الديمقراطية الحقة، بعد سنوات" كردستان الجبل"، ومراحل الكفاح والمقاومة، والقتل كأضاحي جماعية في "الأنفال" وإتهامات صدام الشهيرة ( كردي، وفوقها يزيدي!!).
وهذه السياسة الإقصائية، الإستعلائية، الإستكبارية، السلفية، الإصولية، التي يمارسها "كرد المركز" ضد "كرد الأطراف" لاتشمل ببركاتها الميمونة الإيزيديين فقط، بل تتعداهم، والحق يجب أن يٌقال هنا، إلى الكرد الفيلية أيضا. ومعلوم بان الفيليين قد تعرضوا إلى ظلم كبير من النظام الصدامي المندثر، وقٌتلوا وهٌجروا ونٌهبت اموالهم وأملاكهم بسبب إنتمائهم القومي والديني. وبدل أن تداوي حكومة كردستان وحكامها هؤلاء وتقدم لهم الرعاية والعطف، نراها وهي قد اقصتهم، وأهملتهم، وتركتهم بعيداً. والسبب الوحيد في عملية الإقصاء هذه يعود إلى كون هؤلاء ينتمون مذهبياً الى الطائفة الشيعية. فهؤلاء متهمون في ولائهم القومي لأنهم شيعة، مثلما الإيزيديون متهمون في ولائهم القومي لأنهم "غير مسلمين" وليسوا من المذهب السنّي "القائد للدولة والمجتمع" في كردستان الفيدرالية الحرة. يقول الكاتب والشاعر الكردي الفيلي عبدالستار نور علي في شرح بعض أسباب مظالم الكرد الفيليين ونسيان المركز الكردي لهم" لا نتحرج حين نقول أن من أهم أسباب هذا الموقف من الفيليين عند الكثيرين من الكردستانيين و بعض الساسة منهم هو جذر الفيليين المذهبي الشيعي. مثلما هو الموقف من الشبك وما يعانونه مثلهم مثل الفيليين تماماً".
أنظروا في سياسة كردستان وتمعنوا فيها جيداً: هل تتساوى دهوك مع شنكال؟. هل تحمي قوات البيشمركة خانقين مثلما تحمي أربيل؟. هل يتم صرف المبلغ ذاته على المشاريع والخدمات في كل من شيخان ومخمور، مثلاً؟. هل هناك خطط لإعمار شنكال وخانقين تكلف ملايين الدولارات، مثل تلك الخطط الموضوعة لتنمية أربيل ودهوك والمرصود لها مبالغ تقدر بمليارات الدولارات؟. كم من " كرد الأطراف" يحتلون مناصباً مهمة في الحكومة والحزب والبيشمركة والوزارة والبرلمان؟. الأرجح ( وأسمحوا لي أن أقول: الأكيد) أن الجواب سيكون لا. وربما يتحجج البعض ويقول: ياأخي ان شنكال وخانقين خارج ملاك وسيطرة الإقليم، ولاحول ولاقوة للإدارة الكردستانية هناك، وبذلك فحججك تسقط هنا والأمر ليس نابتاً من وجود أية "نزعة مركزية" أو سياسية فوقيّة تمييزية مٌدبرة ومخطط لها، كما تصدّع رؤوسنا. جميل هذ الكلام، ولكن السؤال هنا: ماذا كان رد فعل اللائحة الكردستانية التي حصلت على حوالي 180 ألف صوت من "الكورد الإيزيديين" في إنتخابات 2005 ولم تكلف خاطرها إدراج إسم شخص واحد إيزيدي من بين الأسماء الـ 54 الذين مثلوا الإقليم كنواب منتخبين في بغداد؟. ثم هلّ منح "كرد المركز" حقوق الإيزيديين في شيخان وغيرها من القصبات الداخلة ضمن ملاك الإقليم ومثلوهم في البرلمان والحكومة والبيشمركة والحزب والإدارات، لكي نأتي ونتهرب من موضوع شنكال وخانقين هنا؟.
الكثير من "كرد المركز" يعاتبوننا ويقولون: ياأخي الإيزيدية والفيلية يبتعدون عن "الكردايه تي" ( وهو هنا، بالضرورة، مصطلح يٌعنى به الكرد السنّة فقط) ويعملون على تشكيل أحزاب خاصة بهم: الإيزيديون يقولون "نحن عرب" أو "قومية مستقلة ولسنا كرداً"، والفيلية هم شيعة و"هواهم مع الأحزاب العربية الشيعية".
كثيراً ما سمعتٌ شخصياً هذا الكلام ومن مثقفين قوميين كبار من "أكراد المركز"، وهو قول يدل على ذهنية تخوينية استعلائية تختصر الكرد، كل الكرد، في العنصر السنّي، وتتوجس من الكرد غير السنّة وتطعن في ولائهم القومي وحبهم لأرضهم كردستان. أصحاب هذه النظرة لم يترسخ عندهم مفهوم المواطنة أصلاً. المواطن الأصيل لديهم هو الكردي المسلم السنّي. أما الكردي غير المسلم وغير السنّي، فهو كردي متهم، مرصود، مٌراقب ومشكوك في كرديته وولائه لكردستان. لايمكن أن يكون وزيراً أو برلمانياً أو مديراً أو مسؤولاً حزبياً أو قائداً لوحدة من البيشمركة، أو رئيساً لجهاز استخبارات ما. وثمة إعتقاد بدأ يترسخ لديّ بان هذا الأمر، وهذه المنهجية في التفكير والتدبير، لاتعدو كونها سوى ترجمة نصيّة مستترة لمرجعية دينية إصولية تعيدنا إلى قضية "عدم جواز ولاية الكافر على المؤمن" في التفسير السلفي الإخواني للإسلام. وان القوم في كردستان يطبقون هذا البند التكفيري/التخويني ضد "الكرد من غير أهل السنّة والجماعة" أي "كرد الأطراف" وينطلقون من "أسانيد شرعية" يتسترون بها باطنياً، وهي آيات الله البينات من قبيل الآيتين: { لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} النساء 142. والآية { أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين} سورة النساء 144.
وإذا جادلتهم وقلت طالما ان هؤلاء مغضوب عليهم ومهضومة حقوقهم في كردستان، فمن حقهم تشكيل احزاب سياسية لخوض الإنتخابات والمطالبة بحقوقهم في إطار المواطنة الكردستانية و إسوة بالأحزاب السنيّة الكردية من التي تدخل السياسة من باب الدين، كالحزب الإسلامي الكردستاني والجماعة الإسلامية وغيرهما مثلاً، لقالوا لك: نعم، ولكن مع ذلك لايجوز الخروج عن الإجماع القومي الكردي، في هذه "الظروف الحساسة والخطيرة التي تمر بها الأمة"...
كثيراً ما اجد تشابهاً ملفتاً بين وضع الإيزيديين في كردستان ( وهم هنا {الكورد الأصلاء} أحفاد مير جعفر الداسني وايزدي ميرزا) وبين وضع الأقباط في مصر( وهم {المصريين الأصلاء} أيضا). الغالبية، الكردية السنّية والمصرية المسلمة، تطعن في ولائهما الوطني كذريعة تافهة لمصادرة حقوقهما وركنهما على الرف.
نسبة الأقباط الى المسلمين من الشعب المصري تقارب نسبة الإيزيدية الى المسلمين من الشعب الكردي، أي حوالي 10%. وحصتمها من المناصب الوزارية والبرلمانية والسيادية والعسكرية تتقارب ايضا. بين الفينة والأخرى يغار المسلمون( أخوة الأقباط في البلاد!) على كنائسهم ومحالهم ودورهم فيحرقون ماتيسر منها وينهبون ماملكت يمينهم ويسفكون الدم البريء المحرم باسم الله والدين. نفس المشاهد حصلت في الشيخان ايضاً، حيما اغار بعض "كرد المركز" على "كرد الأطراف" من خارج الملة فحرقوا ونهبوا أموالهم ماملكت يمينهم. المدهش ان الكثير من المغيرين الكارّين من " كرد المركز" كانوا دون سن العشرين، أي من الذين ولدوا في المرحلة التي تلت حكم الديكتاتور صدام حسين، ومنذ "عهد الحرية" و"حكم الشعب نفسه بنفسه" وهذا يدل على كارثية نظام التربية والتعليم في كردستان، والذي يٌصدّر مثل هؤلاء الممسوخين المشوهين، من الذين سيصبحون غداً من اصحاب الأمر والنهي والتخطيط...
لكن هناك إختلافات بين الإيزيديين والأقباط طبعاً. الأقباط يملكون لوبياً قويًا في الولايات المتحدة عماده حوالي مليون شخص، بينهم ساسة ونشطاء واكاديميون واصحاب مليارات، فضلاً عن شبكة صداقات واسعة وعابرة للقارات. أما الإيزيديون فلديهم لوبي صغير في المانيا، مشتت و"مبهدل"، يتكون من " الإيزيديين العراقيين" و" الإيزيديين الأتراك" و" الإيزيديين السوريين" و" إيزيدية روسيا" ويشتكي من قلة التنظيم اضافة الى نشاط ملحوظ في فئة الإنتهازيين وتجار الكلمات والمواقف.
هناك أيضا تشابه آخر وفريد بين القومين: البابا شنودة، رمز الأقباط الديني، يؤيد الحكم في مصر ويدعو علناً إلى تنصيب جمال مبارك، نجل الرئيس الحالي حسني مبارك، خلفاً لوالده ( خوفاً من الإخوان المسلمين وخطرهم على الأرجح)، بينما يؤيد أمير الإيزيدية تحسين بك بن سعيد بك الحزب الديمقراطي الكردستاني وشخص السيد مسعود البارزاني رئيس الإقليم.
وبعد، ولأن الموضوع سيطول، وقد يكون لنا وقفة أخرى متأنية معه، في بحث قادم حول " منهج فصل الإيزيديين عن كردستان" نختتم المقال بعبارة كتبناها عام 2005، أي منذ 4 أعوام، في مقالنا الموسوم " كردستان السنيّة" حيث نرى إنها ماتزال سارية المفعول وتعير عن واقع الحال بأحسن توصيف، فيبدو ان تغيير الحال في كردستان من المحال، فنقول إذاً ان " كردستان تتجه لسياسة الفصل الديني، فهي ورغم كل الوعود أقصت الإيزيديين من التمثيل داخل حكومتها وفي البرلمان العراقي المركزي، وكذلك في لائحتها الوزارية المقدمة للعراقيين العرب. مثلما عمدت لعزل الكرد الفيليين ( وهم الذين تعرضوا لكل ماتعرضوا إليه) وحشرتهم في الأطراف، ومن ثم إتهمتهم بالتبعية لطائفتهم الشيعية وإبتعادهم عن "الهم القومي"والذي بات مقتصراً على الكرد السنّة، مٌقيمّي المركز، وأصحاب السلطة والعظمة والأموال والتجارة، قادة البشمركة والأمن، ومسؤولي الأفرع الحزبية الكثيفة، وسفراء وقناصل دولة العراق الفيدرالية في الخارج...".

طارق حمو
tariqhemo@hotmail.com
4/9/2009