بين المركز والأقليم ...

بين المركز والأقليم يتشظى مستقبل الملايين مـن بنات وابنـاء المكونات العراقيـة ’ فلا حكومـة المركز تدرك ان القضيـة الكورديـة هي حقيقة قائمـة ـ جغرافية وشعب وحضارة وتاريخ وبيئـة وطموحات مشروعـة ـ لا يمكن تجاهلها او تجاوزها ’ ويجب التعامل معهـا بعيداً عـن الشطحات المدمرة للتطرف القومي الطائفي ’ ولا حكومـة الأقليم تدرك ايضاً ’ ان طريق الألام ومحاولـة القفز على الواقع المشترك والتسرع في حرق المراحـل سوف لن يكون طريقاً آمنـاً للقضيـة الكورديـة بشكل خاص والعراقية بشكل عام .
لـم يكن لأهـل العراق انذاك ثمـة خيارات لأختيار طريق مستقبلهم ’ كانوا مهزومين مسحوقين تحت رحمـة الأرادات الدوليـة والأقليميـة ’ وعليهم الآن وبعد التغييرات الجذريـة في الواقع الدولي مـن حيث حقوق الأنسان والمكونات والشعوب ’ ان يتصرفوا بحكمـة ووعي مشترك يتجاوز ما خطط لهـم وفرض عليهم ’ ويعالجوا الأشكالات التي وضعت كحبل المشنقـة في عنق قضيتهم وجعلت سلمهم الأجتماعي بين فكي اسباب الفتنـة والكراهيـة والتصعيد المنظم وضياع الفرص لأعادة تحقيق الذات سليمـة مـن شوائب الماضي الكريـه .
قضيـة كركوك ’ يقال انها موقوتة التفجير .. ضــد مـن ... ؟ ويقال ايضاً ’ هناك مناطق متنازع عليهـا ستكون سبباً للحرب بين العرب والأكراد ... لماذا .. ولمصلحـة مـن ... ؟ وصراعات اخرى حول السلطة والثروات والصلاحيات ومفهوم النظام الفدرالي ’ وهناك ما يكفي مـن اشكالات تحت الطلب تنتظـر في جعبـة القيادات هنـا وهنـاك تؤهلهـم لصعود موجـة ظلالـة الملايين وعذابات واقعهـم .
مدينـة كركوك ملتهبـة مـن خارجها ’ ومناطق اخرى متنازع عليها وامور كثيرة مؤجلـة الألتهاب ’ كل يجمع في متراسه رهط من القوميين على صعيدي الثقافـة والسياسة ’ المنغلقون بأوهام الأنتصارات السريعـة جداً ’ يردحون ردود افعال متشنجة تثير اتربه التصعيد والكراهية والوعيد ’ سلاح يستخدمـه اعداء الشعبين من عنصريين وطائفين وسماسرة . لم تكن كركوك وسوف لن تكون مشكلة عصيـة على الحل ’ ولا حتى المناطق الأخرى ’ هذا اذا ما استعاد المتصدرون رشدهم واحتكموا لوعيهم وراقبوا اضرار تصرفاتهم ’ واقتنعوا ان الحلول القوميـة المشحونـة بالعواطف والأخيلة المجردة’ لم تعد صالحة لحل معضلات الشعوب ’ وقد تجاوزتها ازمنة الحلول الديموقراطية وفهم الآخر واقرار حقوقه المشروعة الى جانب التأثيرات الهائلـة لمنظمات العدل الدوليـة وقوى منظمات المجتمع المدني العالميـة والأقليمية وكذلك المحليـة الناشئـة ورغبـة البشر في التسامح والتصالح والمحبـة والأزدهام والمساواة واحترام تداخل المصالح والمنافع وتعزيز السلم الأجتماعي ’ هكذا شعوب وكما هو قائم في اوربـا مثلاً ’ سوف لن تجد في طريق تطورها المشترك اشكالات لا يمكن حلهـا بسلاسـة تضمن لكـل حقـه ’ امـا الحلول القوميـة المفتقرة للعدل والموضوعيـة ’ فهـي ملهـاة ملعونـة تستهلك طاقات الشعوب وقدراتها دون ان تصل بهـا الى بـر الأمـان .
صحيح ان شعوب المنطقـة تعرضت ولا زالت الى عذابات وآلام وانتكاسات تاريخيـة مريرة ’ لكن عذابات الشعب الكوردي مضاعفـة ’ فهو لا يشبـه الشعوب لأنـه لا يملك دولـة وجغرافيـة وكيان يقرر فيـه مصيره ’ والأنسان الكوردي لا يعيش كما ينبغي ان يعيش البشر ’ لأنـه لا يملك حريـة ان يكتشف ويحقق ذاتـه عبر لغتـه وثقافتـه وانجازاتـه ’ كونـه محسوباً على غيره وفاقداً لدوره كشعب عريق ’ الشعوب المحيطـة بـه وبعد ان استسلمت لواقع عبوديتهـا ’ استأنست استعباد الشعب الكوردي ’ فواقع الشعب الكوردي ومصيره هو وكما كان ـ كـعـكــة ـ في وليمـة دنيئـة قسمتها ودعت اليهـا الدول المنتصرة حسب مقتضيات مصالحها في المنطقـة واستلمت دول الجوار حصتهـا وتناست ان في هذه الجغرافيـة التي استحوذت عليهـا شعب عريق مؤهل ان تكون لـه دولـتـه المسالمة المنتجـة المبدعـة النافعـة لشعوب المنطقـة اذا ما توفرت اجواء حسن الجوار وتبادل المنافع وتقديم المثل الأسمى في الأنجازات والقيم الديموقراطيـة وعياً وتطبيقاً وطنياً وانسانياً مشتركاً في بيئـة مـن السلم العادل .
لقـد كانت ابشع مؤامرة عرفهـا التاريخ لا زال الشعب الكوردي والى امـد غير منظور يدفع ضريبتها الامـاً ومصائباً وخوفا مستديم ’ هذا اذا ما استثنينـا اوضاعهم الأفضـل بكثير في الجـزاء العراقي ونتمنى ان تصبح اوضاعهم مماثلـة في اجزائهم الأخرى.
دول المنطقـة بحكوماتها التي تغلى في قـدر الأوهام القوميـة المنتهيـة الصلاحيـة ’ وشعوبها المضللـة لا تريد او لا تستطيع ان تدرك تلك الحقيقـة ’ القيادات الكورديـة مـن جانبهـا تدفع بالشعب الكوردي نحو ردود افعال واوهام القفز على المراحل وتضعه في حالة عدم الثقـة بمحيطـه والمبالغـة في الخوف من الأخر دون مبررات احياناً والحرص على استحضار الماضي الدامي رغم التطورات الأيجابيـة والمكاسب الملموسـة خاصـة في العراق ’ لتصبح اخيراً جميع مكونات العراق في حالة استنفار وهلع وانعدام الثقـة ’ مـع العلم ان القوميين عرباً كانوا او كورداً لا يملكون الآن جميع اوراق الحالة العراقيـة التي تملك أغلبها وجواكرهـا وتتصرف بهـا ارادات قوى دوليـة واقليميـة مؤثرة على قوانيين التطورات اللاحقـة لمستقبل العراق ’ ان الأمر لا يقدم غير اضافـة الآم وعذابات جديده الى حاضر ومستقبل الشعبين ثم وضع مصير جميع المكونات العراقيـة على كف عفريت العمى القومي ’ وان اوهام العظمـة ومحاولة تكرار مآثـر الأمجاد للأجداد والعشائر والأحزاب ’ لا تبداء مشروعها الا بسحق القضيـة والتلذذ بسفك الدماء ’ ان الطريق الأمثل نحو مستقبل جميع المكونات العراقيـة ومنهـا الشعب الكوردي ’ هو طريق الديموقراطيـة ثقافـة ووعي وممارسـة ’ تلك هي الحقيقة التي يجب ان تتمسك بعروتها مكونات الشعب العراقي ومنها الشعب الكوردستاني بشكل خاص ’ لتفتـح ابوابها لرياح التغيير والتطورات الأيجابيـة نحـو اجزاء كوردستان الآخرى وشعوب المنطقـة بشكل عام وليصبح النموذج الكوردستاني ( وهذا ما نتمناه ) دليل عمـل للديموقراطيـة واقناع شعوب المنطقـة قبل حكوماتها على ان شعب كوردستان جدير بقضيتـه واهل لمستقبلـه كشعب لـه ما للآخرين مـن حقوق وطنيـة وقوميـة .
الأمر يتطلب الصبر والجد وتقديم المثال ’ فالشعب الكوردي ليس امامـه خيار الا التعايش سلمـاً وديموقراطيـة ومساواة مـع الشعوب التي وجـد نفسـه يعيش معهـا كمـا وجدت هي نفسها وعليها ان تتعايش معـه ’ شعوب المنطقـة اذا ما استعادت حرياتها وكرامتها وحقوقها الأجتماعيـة والديموقراطيـة مـن قبضـة القوميين المتطرفين والمغامرين المنغلقين على اوهام القوميـة العظمـى ’ تبداء انذاك تتفهـم ذاتها والذات الكورديـة معها لتكون في النهايـة عونـاً للشعب الكوردي لتحقيق اهدافـه المشروعـة ’ بعدها تنتهـي اوهام جميع القوميين في ان تبقى الشعوب مزرعـة موروثـة تستطيع عشائر وعوائل وجنرالات القوى المنتفعـة امتصاص دمائهـا واستهلاك ثرواتهـا وتكريس جهلهـا بقضاياها .
في جميع الحالات ’ يبقى الخاسر مـن تلك اللعبة اللعينة هي الجماهير المليونية الكادحة مـن اجل الخبز والحريـة والسلام والحياة الكريمة ومثل هذا المستقبل الآمن الزاهر سوف لن يوفره لهـا المتقوقعون على امجادهم الحزبية والعشائرية والأسروية مع العلم انهم ومهما تعددت انتماءاتهم سوف لن ينجزوا شيئاً غير العنجهيات الضارة ثـم يتراجعون ويتساومون ويتوافقون ويتحاصصون ثـم تبقى الملايين تتخبط في الوقت الضائع وحصاد الخسارة .
العراق يمر الآن بمرحلة حراك ايجابي عنيف ’ وتقف عرباته على سكة مستقبلـه نحو تحولات وطنيـة وانسانيـة شاملـة ’ ومكوناتـه تعيش مرحلـة ادوارها في البناء الديموقراطي وتحقيق الحريات العامـة والعدالـة الأجتماعيـة والمساواة ووضع الأسس السليمه للتعايش كنوذج امثل للواقع العراقي ورغم بقايا الفكر القومي اللاارادي العالق في وعيهـا المشوش ’ فهي الآن غير معنيـة اطلاقاً بأعادة صناعـة القائد القومي الظرورة والأسطورة المنقذ بقدر اهتمامها بمصالحها وحاجاتها عبر تغيير واقعهـا نحو الأفضل ’ خاصـة بعد ان وصلت القيادات والرموز القوميـة والطائفيـة الى مآربهـا وتحقيق منافعها وتشابك مصالحها ببعضها واندمجت مـع بعضها داخل متراسهـا الطبقـي المضغوط عليـه مـن يقظـة الجماهير ’ خلعت عن ظهر الخاسرين سروجهـا وتركتهـا لحالهـا تتخبط في واقعهـا المرير .
الغابـة كانت واسعـة وغنيـة تستوعب الجميع وتكفيهم ’ الفيل ووحيد القرن ارادا ان يثبتا للآخرين القوة والنفوذ والغطرسـة والتفوق ’ وتلك اسس الغبـاء والوحشيـة ’ فتقاتلا ’ الفيل غرز اسنانـه وتركها في جسد وحيد القرن جريحـاً ’ لكنـه عـاد بلا اسنـان ’ وهـذا ما لا نتمنـاه ان يحصل في العراق الغني بكـل شـي الا حكمـة وحسن تدبيـر الفيلـة ووحيدي القرن داخل كيان العمليـة السياسيـة .

حسن حاتم المذكور

المصدر: صوت العراق، 16/7/2009