مأساة المفقودين تتواصل مع استمرار معاناة عوائلهم

يقدر ان هناك أكثر من 15،000 جثة دفنت قبل التعرف على أصحابها، أما ضحايا العنف الطائفي، فدُفن الكثيرون منهم من غير معرفة هويتهم فبقوا تحت بند " اجثث مجهولة الهوية".

لقد اضطرت المأساة عائلة في حي الشعلة لسؤال بعض المتطرفين في القاعدة وجيش المهدي عن ابنها المفقود، لكنها لم تعثر على إجابة تشفي غليلها. وفي العراق كله مختبر واحد لـDNA أما الحكومة فهي لا تملك قاعدة بيانات عن المفقودين، كما أنها عاجزة عن دعم عملية التعرف على الجثث. ووصل الأمر ببعض العوائل –كنتيجة لليأس وفي محاولة لحسم موضوع المتعلقات الحقوقية والمالية- الى الادعاء بأية جثة على أنها لمفقودهم، فيما لم تجد السلطات المسؤولة الوسائل العدلية والأدوات العلمية التي تمكنها من "التحقيق الدقيق" في قضية حساسة كهذه. ويزعم المسؤولون عن المشارح أن الأزمة المالية الجديدة تسببت أيضا بنسف الكثير من الوعود الحكومية التي قد يؤدي الوفاء بها الى تطوير مهمة الكشف عن هويات عشرات الألوف من الجثث.

يقول (تيموثي وليامز) مراسل صحيفة النيويورك تايمز: خلال العنف الطائفي الأكثر سوءاً الذي ساد العراق قبل ثلاث سنوات، خرج ابن (أنعام دهام) ذو الثلاث عشرة سنة من بيته عصراً لشراء الخضار لأمه، ولم يعد ثانية. ومنذ ذلك الحين والسيدة (أنعام) استنفدت كل مدخرات عائلتها في محاولة العثور على ابنها الذي أمضى أيامه مع والده، وهما يبحثان في شوارع بغداد عن عملات أضاعها الآخرون.

تركت (أنعام) كل شيء، وسافرت من مكان إلى مكان سائلة في السجون الأميركية، وفي مقابر المدن الصغيرة. كان المئات من المواطنين، معظمهم نساء يتلفعن بالعباءات السود..ينتظرن بصبر الجمل في " طابور" طويل خارج مكاتب الحكومة على أمل أن يقابلن المسؤولين الذين لديهم أخبار جديدة عن المفقودين. لكنهم لم يكونوا كذلك. وبعد كل هذا الوقت، لا أحد يستطيع القول ما إذا كان المفقود ميتاً أو حيّاًّ.

وتنقل الصحيفة عن (أنعام) الأم لـ7 أطفال قولها: ((كل الذي أحتاجه، هو أن أعثر على فكرة عن فقدان ابني)). نطقت الأم بتلك الكلمات وهي تدقق النظر في مئات صور "الجثث غير معروفة الهوية" في المشرحة. وأضافت: ((أريد أن أبني قبراً لأزوره. لا آمل أكثر من ذلك)). لم تكمل تصفحها لصور الجثث. لقد شعرت باليأس من الاستمرار في هذه العملية التي "فطرت قلبها" بحسب تعبيرها!.

ويشير المراسل (وليامز) الى أن هناك "10" آلاف عراقي مسجلون في قوائم المفقودين منذ أنْ بدأ الغزو الأميركي للعراق قبل ست سنوات. وكانت الحكومة العراقية اعترفت أنّ الأرقام التي تمتلكها، ربما تكون فقط جزءاً من الأرقام الحقيقية. إن معظم هؤلاء الذين اختفوا يُعتقد أنهم ميتون. وحتى الجثث التي يعثر عليها، غالباً ما يصعب التعرف على أصحابها بسرعة. ويقول الدكتور (منجد صلاح الدين) مدير مشرحة بغداد المركزية إن موظفيه يعملون بجد للتعرف على 28،000 جثة تسلموها خلال المدة بين 2006 و2008.

وتتذرّع السلطات الحكومية –كما يقول المراسل- بأنّ ما يعيق عملها تلك البشاعة التي شُوهت بها جثث الضحايا، وكذلك حال العوز الى الإمكانات التي فرضتها ظروف الحرب، وأوضحت السلطات أن بعض الجثث مشوّهة بشدة، ولذا يصعب التعرف على أصحابها، وهناك القليل جداً من المال لتعيين العاملين العدليين، للتعامل مع كم هائل من الجثث التي تراكمت عبر السنين.

لكن العوائل من جانبها، تطالب الحكومة بحلول سريعة لقضية التحقيق في "هويات الجثث". وثمة مجموعات كالصليب الأحمر، أصبحت تهتم بمثل هذه القضايا. وتقول (ديبه فاخر) الناطقة باسم مكتب العراق للجنة الدولية للصليب الأحمر: ((إن مشكلة المفقودين هائلة)) وأضافت قولها: ((إن العوائل لها الحق في أن تعرف، والحكومات ملزمة بالمساعدة في اكتشاف ما الذي حدث لهؤلاء المفقودين)).

ويؤكد (تيموثي وليامز) قوله: في بعض الحالات، يكون المفقود قد اختطف، وأطلق سراحه بعد دفع "الفدية". وفي أوقات أخرى، يُعثر على الجثث بعد سنوات من اختطاف الأشخاص، أي بعد أن تكون قد رفعت من نهر أو من قبور جماعية، أصبح اكتشاف أحدها كل عدة أسابيع أمراً مألوفاً في الأخبار التي تنشرها الصحف ووسائل الإعلام.

ويقول أقرباء المفقودين إن نقص المعلومات التي تتوفر لدى الحكومة تركتهم في حال الشك بما جرى لأحبابهم؛ إن هؤلاء الناس "المعذبين" لا يريدون الاعتراف بسهولة أن من يحبّونهم قد قتلوا، لكنهم في الوقت نفسه لا يستطيعون تصديق أن من فقدوه –رجلاً كان أو امرأة- مازال على قيد الحياة. إن عدم التعرف على هوية "المتوفى" ليست فقط "قضية عاطفية" بالنسبة للأمهات والنساء عموماً، إنما هي عذاب مستمر وربما يكون يومياً وعبر ممارسات عملية في مجتمع يهيمن عليه الرجال.

وفي بعض الحالات، حتى عندما تعلن الحكومة عن موت شخص ما، يمثل مصدر العيش والمسؤولية في العائلة، تعجز المرأة عن جمع حقوقه، أو عن الزواج ثانية، أو عن استخدام رصيده في البنك، وغالباً ما يستغرق ذلك أربع سنوات، حتى أن بعض العوائل ادعت بعائدية جثة ليست لقريبهم، لكي تستطيع الزوجة الحصول على المال الذي يستحقه زوجها المفقود، لأنها بحاجة إليه كي تعيش أو تنفق على أطفالها، طبقاً لما أكده مسؤول في مشرحة بغداد.

ومن جانب آخر، يقول (كامل أمين) المسؤول في وزارة حقوق الإنسان، المؤسسة الحكومية التي تهتم أيضاً في تقصي قضايا المفقودين إنه أصبح مؤمناً في المدة الأخيرة أن الحكومة يجب أن تبذل الكثير في مساعدة عوائل أولئك الأشخاص الذين فقدوا، وبشكل خاص أولئك الذين ينعكس حسم قضيتهم على حياة عوائلهم. وقال إن وزارته تعمل جهدها في التعامل مع هذا "الهم الثقيل" لمشكلة المفقودين. وأضاف: ((من الطبيعي أن تكون الحكومة مسؤولة عن تلك العوائل. نحن نعتقد أن جميع أولئك المفقودين قد قتلوا من قبل الإرهابيين، لكن النظام القانوني يحتاج الى دليل)).

ويرى مراسل النيويورك تايمز أن هناك مجموعة من العوامل التي تسهم في عملية تأجيل معالجة هذه الحالات، طبقاً لمعلومات المنظمات المساعدة، والحكومة. والعراق كله يمتلك مختبراً واحدا لـ(DNA) وقدرة محدودة لتجميد العيّنات؛ ونحو نصف محافظات العراق ليس فيها باثيولوجيون، أو مختصون بـ"الأمراض العدلية، فضلا عن نقص التعاون بين المؤسسات الحكومية، ويعني ذلك أن قوات الجيش والشرطة، ترفع –وبشكل متكرر- جثث الضحايا من المقابر الجماعية من دون أن تعلم أولاً وزارة حقوق الإنسان، وغالباً ما يؤدي ذلك الى فقدان أدلة مهمة للتعرف على أصحاب الجثث.

وما يزيد الطين بلّة، أن العراق لا يمتلك قاعدة بيانات مركزية، لمحاولة ربط أكثر من 15،000 جثة مجهولة دفنت من دون التعرف على أصحابها خلال السنوات القليلة الماضية. وليس هناك أيضا أي تسجيل لضحايا العنف الطائفي الذين دفنت جثثهم بشكل غير رسمي وفي أماكن غير معلّمة.

وحتى إذا اعتقد أفراد العائلة أنهم وجدوا "قريبهم المفقود"، فإنهم في الغالب يحتاجون الى مساعدة مختبرات الحكومة لكي يتأكدوا. والكثيرون من ضحايا العنف الطائفي، وجدت جثثهم مقطوعة الرؤوس، أو مبتورة الأعضاء أو بجماجم حفرت بالمثاقب، الأمر الذي يجعل الفرصة ضعيفة جداً للتعرف على أصحابها. كما تعرّضت جثث آخرين للتفسّخ، ولم يعثر معها إلا على ملابس مهترئة، أو نعلان بلاستيكية كدليل.
ويهبط مستوى التعريف أحياناً الى "التخمين"، كلون القميص الذي لبسه المفقود في يوم اختطافه كما تستعيده ذاكرة زوجته التي بهتت مع الأيام وكثرة المصائب، أو بالبحث عن أي سن فقده "الابن" قبل الحادثة.

وتقول (غنية أياد) التي تعيش في المدينة الصناعية ببيجي شمالي العراق، أن أخاها، و2 من أبناء عمها، و2 من أنسبائها، قد فقدوا منذ سنة 2006. وأخوها (محمد) ترك وراءه 4 أطفال، و11 فرداً مسؤولاً عنهم. وفي المدة الأخيرة، جاء "غريب" الى بيت العائلة، مطالباً بمبلغ يساوي 7،000 دولار من أجل عودة (محمد). ودفعت العائلة "الفدية"، لكن المفقود الذي أصبح عمره –إذا كان حياً- 29 سنة، لم يعد حتى الآن!!.

وفي حي الشعلة ببغداد –يقول مراسل النيويورك تايمز- أبقت (فضيلة حرفيش) الغرفة الخاصة بابنها (محمد) الذي يبلغ الخامسة والعشرين كما تركها، فقط اهتمت أكثر من ذي قبل بترتيبها؛ السرير كما هو، والستائر مسحوبة. وقمصانه معلقة في خزانته. والأقرباء أزالوا صور (محمد) من البيت لأن الأم إذا ما رأت واحدة منها تمضي ساعات في البكاء. وكانت العائلة قد بحثت عنه في المشارح، والسجون، والمقابر، وبعضهم أجرى اتصالات بشكل ما مع القاعدة في بلاد الرافدين، وجيش المهدي، لكنّ كل تلك الجهود ذهبت عبثاً. و(محمد) الذي كان يدرس ليتخرج معلماً، عمل سائق تاكسي، وهي الوظيفة الشائعة للعراقيين الذين لا يستطيعون العثور على وظيفة. وهذا النوع من العمل، هو الأكثر خطورة في مرحلة تصاعد عمليات القتل الطائفي. لقد اختفى ذات صباح من شهر كانون الأول سنة 2007، وفي وقت مبكر من يوم عمله. وتقول (فضيلة): ((لا أستطيع النوم في الليل)) وتضيف: ((لا أستطيع أن أنساه. إنه كالهواء الذي أتنفسه)).

وعائلة (أنعام) التي اختفى ابنها ذو ألـ13 ربيعاً، بينما كان يشتري الخضار لأمه، يعيشون في مكان قريب من قاعدة سابقة للجيش في حي العامرية ببغداد. إنهم –كما يقول المراسل تيموثي وليامز- يقتاتون من جمع علب الألمنيوم التي يلتقطونها من "مكبّات القمامة" التي لا تبعد عنهم إلا ياردات قليلة.

وزجاج نوافذ بيتهم حطمته تفجيرات السيارات المفخخة، ولا باب أمامياً في سور بيتهم، فقط قطعة قماش مهلهلة. وإحدى الغرف مليئة بالعلب الفارغة، بانتظار حزمها. ووسط بعض ممتلكات العائلة بغلان أبيضان، وتلفزيون صغير. وتقول (أنعام) إنها قررت الكف عن البحث عن ابنها (ميثاق) بسبب الإرهاق والإحباط اللذين أصاباها. لكن زوجها باسم الذي يبكي لمجرد ذكر اسم ابنه، اقسم على الاستمرار في البحث. وقال: ((هذه المسألة استنفدت المال الذي كنا نحصل عليه منذ أن فقد ميثاق)). وأضاف: ((لكنني لن أتوقف عن البحث حتى أجد شيئا)).

المصدر: اخبار العراق، 4/6/2009