الكرد الفيليون تاريخ و معاناة - عبد الستار نورعلي

(صوت العراق) - 04-03-2008

الكرد الفيليون شريحة من شرائح الشعب الكردي، موطنهم وسكناهم مناطق كردستان الجنوبية الواقعة على امتداد جانبي الحدود العراقية الايرانية. وقد كثرت الدراسات والبحوث لمستشرقين غربيين ومؤرخين عرب وكرد وفرس في تاريخهم ومناطقهم وأصل تسميتهم ، فتعددت الآراء والتفسيرات فيها .
تعرض الكرد الفيليون الى معاناة مزدوجة في خضم الصراعات التي كانت دائرة بين الدولتين الفارسية والعثمانية قديماً، والعراقية والإيرانية حديثاً ، مما أضفى على تاريخهم ووضعهم الاجتماعي والسياسي خصوصية امتازوا بها ضمن المسيرة التاريخية والجيو سياسية والقومية للشعب الكردي . لقد واجهوا اضطهاداً وتهميشاً ونكراناً ومحاولة لطمس الهوية من جهات مختلفة على جانبي الحدود المشار اليها.
يذكر المؤرخون والباحثون بأن موطنهم يمتد من جنوب كرمنشاه وشمال ديزفول في الجانب الايراني جنوباً على امتداد جبال زاكروس حتى مدينة (كازيرون) و مرفأ (حصار) عند شواطئ الخليج العربي الشمالية الشرقية، في مناطق عشائر اللُّر(البختيارية والكوهكلوية والمامسانية) . و يعدُّ الفيليون الفرع الرابع من هذه القبائل في رأي العالم الأمريكي (هنري فيلد) الذي يقول باثبات انتمائهم جميعاً الى نفس المجموعة الإثنية الكردية، وهم آريون قدماء . كما أن هذا التواجد والامتداد قائمان على الضفاف الغربية لوادي نهر (السيمرة) المنساب حتى خوزستان (عربستان) في الجنوب الايراني، حيث يصب في نهر الكرخة الذي يصب بدوره في شط العرب . ويمتد نشاطهم السكاني وتجمعاتهم غرباً ليصل حدود نهر دجلة في العراق من خانقين شمالاً حتى حدود البصرة جنوباً، تواصلاً وتداخلاً مع سكان العمارة ومدن الكوت خاصة: الحي، واسط ، علي الشرقي، علي الغربي ، العزيزية ، بدرة ، جصان ، مندلي ، بلدروز و زرباطية . منهم من استقر و سكن بغداد، حيث كونوا تجمعاً سكانياً ضخماً واسعاً كان له دوره وأثره البارزان والفاعلان في الحياة العامة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في بغداد خاصة والعراق عامةً .
وبهذا التجمع والامتداد فإن أراضي الكرد الفيليين تقع في اقليم (عيلام) الذي يلفظونه (ايلام) واقليم (لورستان) المتاخم للحدود العراقية الايرانية. وكما أسلفنا فإن المؤرخين والباحثين يعدونهم من المنتمين إلى عشائر (اللُّر) التي أطلق اسمها على الأقليم الذي تقطنه (لرستان) في ايران. لقد ورد ذكر هذه القبائل في كتاب (الشرفنامه) لمؤلفه (شرف خان البدليسي) الذي يرجع تاريخه إلى عام 1596 م ، حيث يذكر البدليسي بأن اللُّر يشكلون فرعاً هاماً من فروع الشعب الكردي الأربعة التي ورد ذكرها . كما جاء ذكر اللُّر في كتاب (معجم البلدان) لياقوت الحموي (1229-1179 م) حيث يقول "اللُّر بالضم وتشديد الراء ، وهو جيل من الأكراد في جبال بين اصبهان وخوزستان وتلك النواحي تعرف بهم فيقال بلاد اللُّر، ويقال لرستان، ويقال اللُّر أيضاً."
ويذهب العالم الامريكي (هنري فيلد) إلى أن عشائر الفيلية هم "اللُّر الصغرى"، ومنطقتهم يطلق عليها اسم (بشتي كوه) بمعنى خلف الجبل ، والعشائر الثلاثة الأخرى هي "البختيارية والمامسانية والكوهكلوية" وهي " اللُّر الكبرى" ومنطقتهم هي (بيشي كوه) بمعنى أمام الجبل . ويذكر الاستاذ محمد توفيق وردي في كتابه (الأكراد الفيليون في التاريخ) بأن تاريخ اللُّر يشمل ما كان يسمى بـ(كاسي، كوسي، كوش) وكان الأكديون يسمونهم (كاشوا) وقد احتلوا بابل وحكموها ستمائة سنة ، وبعد سقوط حكمهم رجعوا إلى بلادهم الأصلية لرستان .

أصل تسميتهم

اختلف الباحثون في أصل تسميتهم (فيلي) فذهبوا فيها مذاهب شتى. يرى السيد (حميد أزيناه) في كتابه (آثار وتاريخ لرستان) أنها مشتقة من كلمة (فهلة) أو (بهلة) أو (بهلوي) ، والتي بأثر من تقادم الاستخدام والنحت اللفظي تحولت إلى (فيلي). أما العالم الأمريكي هنري فيلد فيرى أنها تعني (المتمرد)، ويبدو انه استند على أساس كونهم جبليين أشداء مقاتلين ذوي بأس وتمرد. وذهب البعض إلى أنها مشتقة من لفظة (فئة علي) نسبة إلى الإمام علي بن أبي طالب ع ، و ذلك لأنهم يتبعون المذهب الشيعي ، وبمرور الاستعمال الشفاهي اختزلت الى فيلي . لكن الباحث الكردي الفيلي المرحوم الاستاذ نجم سلمان مهدي الفيلي فيجزم في كتابه (الفيليون) أنها مشتقة من اسم الملك العيلامي بيلي ( Peli ) الذي اسس سلالة باسمه في عيلام حوالي العام 2670 ق. م. وقد تحول الحرف (باء) الذي كان قديماً يكتب عوضاً عن حرف الفاء الحالية إلى فاء مثل كلمة (بارس) القديمة التي تحولت الى (فارس) الحالية . ويعتقد البعض الآخر أن اللفظة مستعملة منذ الأزمنة الآشورية والبابلية، وكانت تطلق على القاطنين في جبال زاكروس، و بالذات على سكان منطقة بشتي كوه و عيلام. وهناك رأي يرى بأن التسمية قد جاءت من (الكرد الفعلي)، حيث كانت قبائل اللر كما أوردنا تنقسم الى (اللر الكبرى)، و(اللر الصغرى) وهي التي كانت ترى أنها القبائل الكردية (الفعلية) وقد تحولت مع مرور الزمن كلمة الفعلي بالاستعمال اليومي اللفظي الى (الفيلي)، وبدليل أن تسمية الفيليين كان الناس والباحثون يطلقونها على سكان منطقة (بشت كوه) ولذلك كانت التسسمية تعنيهم بالتحديد، وأيضاً بدليل أن سكان خانقين ومندلي الكرد لا يعتبرون أنفسهم من الفيليين.


جذور مشكلتهم

تعود جذور مشكلة ومعاناة الكرد الفيليين إلى أزمنة الصراعات التي كانت دائرة بين الدولتين الفارسية الصفوية والعثمانية التي حكمت العراق قروناً. هذه الصراعات أدت إلى تخطيط وترسيم وتقسيم الحدود بينهما في اتفاقية عام 1639م التي مرت بمراحل متعددة ليتم أخيراً التصديق النهائي عليها في اتفاقية قصر شيرين (زهاب) في 1929-12-16 بين الدولة الفارسية وبين الحكومة العراقية حينها الوارثة للدولة العثمانية.
من المراحل المتعددة التي مرت بها اتفاقية عام 1639 هي اتفاقية أرضروم 1905 حول وضع الحدود حيث أعطيت منطقة سومار الفيلية إلى ايران مقابل هورين شيخان و قوتو اللتين رُدتا الى العراق. كما تم تقسيم بشتي كوه و مندلي التي كانت حدودها تقع حتى ديراله داخل الحدود الايرانية ، والدليل وجود مخفر داخل عمق الاراضي الايرانية يسمى مخفر العثمانيين .

لقد أدى هذا التقسيم والتقطيع القسري لأوصال كردستان ومنها الجنوبية منطقة سكنى الكرد الفيليين إلى مشاكل سياسية واجتماعية، حيث تشتت العائلة ضمن العشيرة الواحدة بتشتت الأرض لتتفرق فروعها على جانبي حدود الدولتين، مما خلق تداعيات ومشاكل انسانية سحبت في أذيالها مآسي ونكبات لا يزال الكرد الفيلييون يعانون منها حتى اليوم . فقد وقعوا أسرى اضطهاد وتمييز مزدوج على جانبي الحدود. في ايران يعتبرهم البعض أنهم من الفرس الجبليين والبدو، ويعتبرون لغتهم لهجة فارسية جبلية. أما في العراق فيعتبرونهم من الإيرانيين الفرس ، لذا كانوا يعاملونهم ولا يزالون على هذا الأساس منذ الحكم العثماني مروراً بمختلف الحكومات العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية سنة 1921 .
لقد اضطر رجالهم في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من تسجيل أنفسهم على أنهم أيرانيون هرباً من التجنيد الاجباري لعدم المشاركة في حروب الدولة العثمانية في القرمن والحرب العالمية الأولى. و قيل أنهم كانوا يدفعون الرشاوى للقنصل الايراني في العراق للحصول على وثيقة تثبت ايرانيتهم. هذا الوضع الانساني استغل من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة لتسجيلهم ايرانيين بعد تشريع قانون الجنسية العراقية عام 1924 الذي ينص على أن كل عثماني سابق وكل من ولد من أبوين عثمانيين عراقي تلقائياً وقانونياً . وهو من تأثيرات وتبعات الحكم العثماني في العراق ليبقى تحكمهم وتأثيرهم مستمرين في الوضع العراقي . وقد أنيط منح الجنسية بوزير الداخلية وحده وهو آخر مرجع للفصل في الأمر . زبهذا حُرم الكرد الفيليون في العراق من الجنسية، وإذا منح أحدهم إياها فكان يسجل فيها أنه من (التبعية الايرانية) ، وهي فقرة كانت مثبتة في شهادة الجنسية العراقية عموماً (تبعية حاملها) . فإذا كانت عثمانية فحاملها عراقي أصلي ومواطن من الدرجة الأولى له كل الامتيازات والحقوق القانونية في الدولة . وإذا كانت ايرانية فتجر عليه التمييز والتفريق والحرمان من حقوق المواطنة الشرعية في تقلد الوظائف والمناصب العليا في الدولة من مثل ضابط في الجيش والشرطة والأمن وموظف في الإدارات العامة والوزارات، وحتى بعض الوظائف الدنيا. وكان يثبت أيضاً في شهادة الجنسية للكرد الفيليين بأن والد حاملها من ولادة منطقة (بشتي كوه) حتى لو كان من مواليد العراق، وذلك امعاناً في الظلم والاضطهاد والتمييز العنصري والطائفي.
كان من آثار ذلك التمييز والتعصب أن الكرد الفيليين تعرضوا لحملات تهجير الى ايران خلال عقود القرن العشرين كلما حدثت أزمة بين الدولتين العراقية والايرانية، ليكونوا هم الضحايا البريئة التي تدفع ثمناً انسانياً باهضاً لتلك الازمات والصراعات السياسية التي لا تنتهي لتضيف الى معاناتهم والمظالم التي تعرضوا لها مصائب أخرى. وأكبر تلك الحملات جرت في زمن حكم البعث في العراق وهما حملتا عام 1971، وعام 1980 قبل وأثناء الحرب العراقية الايرانية التي استمرت ثماني سنوات، إذ تم تهجير حوالي النصف مليون فيلي، وصودرت أموالهم وبيوتهم ووثائقهم العراقية، والقي بهم على الحدود العراقية الايرانية وسط الالغام التي تفجرت بالكثير منهم لتنثرهم شظايا في الهواء، منهم الشهيدة الشابة الصغيرة ميسون حسن ابنة شقيق حامي هدف منتخب العراق لكرة القدم السابق أنور مراد. كما تعرضت العديد من بناتهم للاغتصاب من قبل قطاع الطرق، وسلب منهم ما حمل معه بعضهم من مال ومصوغات وأمتعة من قبل أزلام النظام وقطاع الطرق، كما تاه الكثير منهم وسط شعاب الجبال دون أثر، منهم والد ووالدة أحد أصدقائنا.
حجزت السلطات العراقية في حملة التهجير هذه أكثر من خمسة آلاف من شباب المهجرين الزاهر المتفتح للحياة، مابين طلاب مدارس وجامعات ومعلمين وموظفين ومحامين واطباء ومهندسين وتجار وأصحاب مهن، وحتى فتيات في عمر الزهور، ليختفوا جميعاً في غياهب السجون ولم يعثر حتى على جثثهم في المقابر الجماعية التي أكتشفت بعد انهيار النظام الدكتاتوري الفاشي. وظهرت أسماء الكثيرين منهم في سجلات اعدامات المخابرات والأمن دون أن يقترفوا ذنباً ولا جريمة. لقد كانوا من خيرة الشباب المحب والمخلص الوفي والعامل الخادم النزيه لوطنه العراق ولشعبه دون تعصب قومي أو طائفي أو سياسي.
وللعلم لم يظهر مطلقاً بين الكرد الفيليين خائن أو جاسوس أو مخرب أو ارهابي يعمل ضد العراق وشعبه ومصالحه، بل العكس كانوا من أشد المناضلين والمدافعين عن وطنهم والمحبين والمتشبثين بأرضهم، فآلاف من شبابهم قاتل ضمن صفوف الجيش العراقي في كل معارك العراق، وقد شاركوا أيضاً في الحروب العربية في فلسطين عام 1948 وفي حزيران 1967 وقد سقط منهم شهداء لتمتزج دماؤهم بدماء إخوانهم العراقيين والعرب .

الأسباب الحقيقية وراء اضطهاد الكرد الفيليين

هناك أسباب عديدة تكمن وراء حملات الاضطهاد والتهجير التي تعرض لها الكرد الفيلييون غير ادعاءات الحكومات العراقية المتعاقبة وأولها أنهم ايرانيون محاولة لاسقاط المواطنة العراقية الحقة عنهم وتغطية للأسباب الحقيقية الكامنة وراءها والتي نجملها فيما يأتي :
1- الدافع القومي : كونهم كرداً، وخوف السلطات من أن يتحولوا الى ظهير مساند في دعم الحركات والاحزاب الكردستانية، لذا عمدت الى حملة تفريغ لبغداد والمدن الأخرى منهم في عملية تعريب شوفينية لهذه المدن والقصبات المحيطة بها .

2- الدافع السياسي : منها خلق أزمات ومشاكل داخلية في إيران وخاصة أثناء الأزمات والصراعات التي كانت تحدث بينها وبين العراق . بينما من أهم الدوافع السياسية هو أن التيار اليساري متمثلاً بالحزب الشيوعي العراقي لقي تجاوباً وساحة رحيبة وانتشاراً واسعاً بين أوساط الشباب الكردي الفيلي في أربعينات و خمسينات القرن العشرين وبخاصة بين المتعلمين منهم، حتى أن الكثيرين وصلوا الى مناصب قيادية في الحزب الشيوعي، نذكر منهم الدكتور عزيز الحاج وأخاه لطيف ، و جمال الحيدري ، والأخيران قتلا بعد الإنقلاب الدموي البعثي في 8 شباط (14 رمضان) عام 1963 وغيرهم . وقد واجهت القوى المناهضة للبعثيين هذا الانقلاب في المحلة التي يقطنها الفيلييون في منطقة باب الشيخ نسبة الى مرقد الشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد مواجهة مسلحة استمرت أياماً ، وهو ما لم تغفره لهم القوى القومية العربية ومنها البعثيون، فأخذوا يتحينون الفرص للتنكيل بهم واضطهادهم والتخلص منهم بوسائل مختلفة منها التهجير الى ايران عام 1971 ، وعام 1980 مع انطلاق الحرب العراقية الايرانية وبالحجة ذاتها وهي التبعية الايرانية ، وما إعدام شبابهم المحجوزين إلا في إطار الابادة الجماعية التي اتبعوها أيضاً مع الكرد البارزانيين أثناء حملة ما سمي بالأنفال خلال تلك الحرب. وتزامنت الحملة الأخيرة عام 1980 مع الحملة ضد الشيوعيين التي بدأت سنة 1979 ، و كذلك ضد حزب الدعوة الاسلامي الشيعي في الفترة ذاتها. و هما الحزبان الأكثر تهديداً للبعث حينها من حيث قوة التنظيم والتجذر في أوساط الناس وربما القيام بالمقاومة المسلحة كما وردت في حسابات هواجس السلطة. لذا أتهموا الشباب الفيلي بتأييد والانخراط في هذين الحزبين ، فأعدم كثير من المحجوزين من شباب الفيليين بتهمة الانتماء الى حزب الدعوة بالذات، وهي التهمة الجاهزة والأدعى للتنكيل باعتبار أن العراق كان في حرب مع ايران وكانت السلطة تتهم هذا الحزب بأنه عميل لايران. ومن الدوافع السياسية ايضاً التمييز الطائفي وهو كون الفيليين من اتباع المذهب الشيعي .

3- الدافع الاقتصادي : كان الغالبية من التجار في السوق العراقية و بالخصوص سوق الشورجة، وهي أكبر أسواق بغداد والعراق والعصب الرئيس للاقتصاد العراقي ، من الكرد الفيليين ، مثل التاجر القديم المعروف حافظ القاضي الذي سميت منطقة في شارع الرشيد باسمه تقع في بداية جسر الأحرار وسط بغداد من جانب الرصافة، وهي المنطقة التي كان يمارس فيها أنشطته التجارية. و كذلك آل قنبر، والحاج أحمد، والحاج فرز علي، والحاج احمد منيجه، والحاج رستم (روسمكَ)، وعبد الرحيم فيلي، والسيد عبد علي سيد محمد وأخوه حسن، واسماعيل كرم الشمايلي، و حيدر توفيق، والحاج شاكر براخاس، وعبد الرزاق فيلي ، وغيرهم الكثير ممن لا تسعف الذاكرة في أسمائهم.
وفي القطاع الصناعي كان لهم دورهم المهم أيضاً من مثل المرحوم فاضل ولي صاحب معمل المنيوم الذي اعتقله الأمن العراقي وحين أطلق سراحه توفي بعد اسابيع ويظن أنه قد سُمم في التوقيف .
لقد ساهم هؤلاء التجار ورجال الأعمال والصناعيون مساهمة فاعلة نشيطة مهمة في تطور الاقتصاد العراقي . و لأهمية الاقتصاد في التأثير على الحياة العامة السياسية والاجتماعية في الدولة تربصت السلطة بهؤلاء التجار لتوجيه ضربة قاصمة لهم كي يتسنى لرجال وعائلات وأزلام النظام السابق المنهار من كبار رجال الدولة و الأمن والمخابرات السيطرة على السوق التجارية . وهو ماحصل بالفعل .ففي حملة التهجير عام 1980 كانت الوجبة المهجرة الأولى من الفيليين هم التجار وبمكيدة أمنية خبيثة، حيث تمت دعوتهم إلى اجتماع في غرفة تجارة بغداد بدعوى مناقشة الأسس الجديدة في الاستيراد ، وهناك ألقي القبض عليهم وحشروا في باصات توجهت بهم إلى الحدود الايرانية حيث ألقي بهم مجردين من كل شئ إلا اللباس الذي كان عليهم . وتمت مصادرة جميع أموالهم المنقولة وغير المنقولة. ثم ألحقت عوائلهم بهم وتم حجز أبنائهم ليعدموا بعد ذلك بتهمة الانتماء الى حزب الدعوة . وهي تهمة باطلة !!
ومن التهم الباطلة التي حاول النظام البعثي المنهار الصاقها بهم هي تهمة دعم حزب الدعوة مالياً، وهو ما أشار اليه مديرالأمن في حينه فاضل البراك في كتابه (المدارس الايرانية في العراق) مشيراً الى اسم أحدهم ، وعلى معرفتي وعلمي به كان أبعد شخص عن الدين .
وقد عانى هؤلاء في ايران من شظف العيش والحرمان حتى اضطر الكثيرون منهم العمل في مهن صغيرة كي يوفروا لأنفسهم ولعائلاتهم العيش الكريم . كما اضطر البعض الآخر الى الهجرة الى الدول الاوربية بحثاً عن حياة جديدة آمنة مستقرة، و فارق الكثيرون منهم الحياة كمداً وألماً وأملاً في التغيير والعودة إلى أحضان الوطن الحبيب على قلوبهم .

دور الكرد الفيليين في الحياة الثقافية العراقية

ساهم الكرد الفيليون مساهمة فعالة متفاعلة ونشيطة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية العراقية مما لايمكن نكرانها أو تجاوزها. لقد شاركوا في بناء العراق الحديث، كل من موقعه، حيث برز بين الفيليين اطباء حاذقون نذكر منهم طبيب العيون المرحوم شهاب عزيز أول من قام بعملية زرع قرنية عين في الشرق الأوسط وقد أجراها بنجاح لأمير سعودي عرض عليه بعدها مساعدته في فتح عيادة في السعودية يتكفل هو بكافة مصاريفها وتجهيزها بأحدث الأجهزة الطبية ، لكنه اعتذر لأن بلده العراق في حاجة إليه، و كان جزاؤه الحجز أثناء حملة التهجير عام 1980 ليقتل في السجن.
كما شارك الفيليون في الجانب الثقافي بمختلف فروعه الأدبية والفنية والرياضية والصحفية . نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر : الشاعران الكبيران جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي، القاص عبد المجيد لطفي، والمرحوم الباحث الدكتور كامل البصير، الشاعر بلند الحيدري، الروائي غائب طعمة فرمان، الشاعر زاهد محمد، الشاعر الحديث جليل حيدر، الشاعر والصحفي عباس البدري، وكاتب هذا البحث، والمذيع المعروف رشدي عبد الصاحب .
وفي مجال الموسيقى: عازف العود العالمي المرحوم سلمان شكر وأخوه محمود شكر ، الموسيقار المعروف نصير شمه ، الملحن كوكب حمزة ، مطرب المقام المرحوم حسن خيوكه ، المطربون جعفر حسن، رضا علي، جاسم الخياط، حسن السعدي، رضا الخياط .
أما في مجال الرياضة فقد رفدوا الحركة الرياضية العراقية بخيرة اللاعبين منهم :
الرباع عبد الواحد عزيز الذي حصل على ميدالية برونزية للعراق وذلك في دورة روما عام 1960 ، الرباع البطل في الألعاب الآسيوية عزيز عباس، حاميا هدف منتخب العراق السابق لكرة القدم أنور مراد و جلال عبد الرحمن، اللاعبون الدوليون السابقون محمود أسد ، عبد الصمد اسد ، مهدي عبد الصاحب ، ولاعبا منتخب كرة السلة الوطني داود سلمان و عبدالحسين خليل، واللاعب جبار سيف الله .
وقد اسس الفيليون في المجال الرياضي نادي الفيلية الرياضي الذي ساهم في مختلف أنشطة الحياة الرياضية العراقية حيث فاز مرة بالمرتبة الثانية في بطولة العراق لكرة القدم ، كما كان رياضيوه من الرواد الأوائل في فن المصارعة .
وفي المجال الاجتماعي أسسوا عام 1946 جمعية المدارس الفيلية التي أنشأت مدرسة ابتدائية نهارية ومسائية وثانوية مسائية في بغداد لأبناء الطائفة ولغيرهم ، وقد تخرج منهما الكثيرون كرداً وعرباً وتركماناً ومسيحيين ساهموا في الحياة العامة في مختلف المجالات . وقد قام بالتدريس فيها خيرة المعلمين والمدرسين من مختلف القوميات والطوائف العراقية . منهم القائد الشيوعي سلام عادل والقاص غائب طعمة فرمان ، وكاتب البحث هذا فقد عملت مدرساً في ثانويتها المسائية ثم مديراً لها في بغداد قبل سيطرة الدولة عليها وغلقها في أوائل السبعينات. ومن الذين تولوا إدارة الابتدائية المرحوم الدكتور شهاب أحمد الذي هاجر الى ألمانيا وتخرج هناك طبيباً حتى وفاته قبل سنوات، والمرحوم الاستاذ سلمان رستم (أبو داود)، أما المدرسة الثانوية فقد تولى إدارتها المحامي المعروف المرحوم حسين محمد علي الصيواني وبعده كاتب البحث هذا .

إن خصوصية مشكلة الكرد الفيليين هي التي دفعت و تدفع الى التركيز عليها والبحث فيها وإلقاء الضوء على ماعانوه ولايزالون يعانونه. و من المضحكات المبكيات أن الجانب العراقي كان يحسبهم من الايرانيين ، و الجانب الايراني يعتبرهم عرباً عراقيين ، و بين هؤلاء و هؤلاء ازدادت و تعمقت هذه المعاناة الانسانية السياسية المعقدة. لكن الثابت أن معضلتهم ومأساتهم ارتبطتا أساساً بالمشكلة الكردية عموماً في كردستان كلها التي ذهبت ضحية المصالح والصراعات التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل . وفي اعتقادي أن الحل يكمن في الحل العام والجذري لمشكلة الشعب الكردي عموماً في كل أجزاء كردستان .