ثورة أكتوبر البلشفية كانت ضد قوانين حركة التاريخ

تمر هذه الأيام الذكرى التسعون للثورة البلشفية التي قام بها الحزب الشيوعي الروسي بقياد فلاديمير إيلج أوليانوف (لينين) في 25 أكتوبر 1917 (7 نوفمبر حسب التقويم الغريغوري). ولاشك أن هذه الثورة قد هزت العالم وأثرت على مسار التاريخ لعقود طويلة، ولها دور كبير ومشرف في تنبيه الشعوب وخاصة الطبقات الكادحة منها في زجها في النشاط السياسي الثوري، والمطالبة بحقوقها وتحقيق كرامتها الإنسانية في العيش الكريم والقيام بدورها في حركة التاريخ. وشملت الثورة بلداناً واسعة في وسط آسيا وشرقها، وضمتها في منظومة سميت بجمهوريات الاتحاد السوفيتي (USSR) رغم أن هذه البلدان كانت على مستويات مختلفة من التطور الحضاري والتشكيلات الاجتماعية غير المتناسقة آنذاك، فمنها ما كانت في مراحل بدائية جداً كمرحلة الرعي وأخرى في مرحلة الإقطاع، مثل بلدان آسيا الوسطى، ومنها كانت في مرحلة النظام الرأسمالي مثل روسيا.

وكنا ولحد ما قبل انهيار الكتلة الاشتراكية نعتقد، كيساريين مؤمنين بقوانين التطور، أن الثورة البلشفية كانت استجابة لقوانين حركة التاريخ وفي الاتجاه الصحيح ومنسجمة مع مساره، وأنه لا يمكن للتاريخ أن يرجع القهقرى، وأن نجاح المجتمع الاشتراكي وتطوره نحو الأفضل، وانحسار المعسكر الرأسمالي وبالتالي انهياره وزواله، مسألة حتمية لا بد منها، لأن هذا هو مسار التاريخ وحكمه!! وكان فلاسفة الاشتراكية في غاية التفاؤل من نظامهم، إذ يستشهد أفاناسييف قائلاً: [ ينص برنامج الحزب الشيوعي السوفييتي على: " ان الإشتراكية التي تنبأ ماركس وإنجلس بحتميتها تنبؤاً علمياً، الإشتراكية التي رسم لينين برنامج بنائها، قد أصبحت في الاتحاد السوفييتي واقعة". أما إمكانية عودة الرأسمالية فكانت تتقلص أكثر فأكثر مع تقدم الاشتراكية حتى لم تعد قائمة عملياً الآن لأنه لا توجد قوى في العالم قادرة على بعث الرأسمالية في الاتحاد السوفييتي أو على أن تسحق معسكر الاشتراكية الجبار. إن إنتصار الإشتراكية في الإتحاد السوفييتي كامل ونهائي.] (أفاناسييف، أسس المعارف الفلسفية، دار التقدم، موسكو، 1979، ص 151.).

ولكن المفارقة، أن الذي حصل فيما بعد هو العكس، أي تحول الأنظمة الاشتراكية إلى الرأسمالية الذي بدأ بسقوط جدار برلين عام 1989، وانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1992 المدوي قد غير جميع المفاهيم التي ترسخت في رؤوسنا من قبل والتي تبين خطأها. لذا فقد حان الوقت للمفكرين وبالأخص اليساريين منهم، أن يعيدوا النظر في حساباتهم وإعادة قراءة التاريخ، ويستخلصوا الدروس والعبر، ويراجعوا فهمهم لما يسمى بالحتمية التاريخية.
مشكلة بعض الماركسيين أنهم حفاظ نصوص، أي أنهم يحفظون المقولات الماركسية عن ظهر القلب (يعني درّاخين- بالعراقي) يرددونها كالببغاء ودون أن يستوعبوا معانيها. وهذا ما يسمى في الأدبيات الماركسية، بالجمود العقائدي والذي ينتقدونه بشدة، ولكنهم في نفس الوقت هم أنفسهم من أشد الناس المصابين بهذا المرض الوبيل. فرغم أنهم يقولون أن الماركسية فلسفة خلاقة تتطلب الإبداع في تطبيقها وفق الشروط الموضوعية لكل بلد، ولكن ما أن يخرج أي مفكر أو زعيم ماركسي بشيء من الإبداع في تطبيق الماركسية حتى وتنهال عليه الاتهامات الجاهزة من كل حدب وصوب، مثل التحريفية والخيانة للمبدأ والعمالة للبرجوازية والإمبريالية وغيرها من الاتهامات الباطلة. وهذا ما حصل لإمري ناج في هنغاريا وألكساندر دوبجيك في جيكوسلوفاكيا وغيرهما من الزعماء الماركسيين في الدول الاشتراكية. ومما يجدر ذكره، أن كارل ماركس نفسه رفض تحويل فلسفته إلى مذهب وصبها بقوالب آيديولوجية جامدة سميت بالماركسية، لذلك قيل أن ماركس ليس ماركسياً، على غرار المسيح ليس مسيحياً.

يفتخر بعض الماركسيين مع الأسف الشديد، بإصرارهم على عدم تغيير أفكارهم وقناعاتهم والتباهي بالثبات على المبدأ، وخاصة الشيوعيون المخضرمون الذين دخلوا الحركة الشيوعية في الأربعينات من القرن الماضي عندما كانوا في سن المراهقة ودون توفر مصادر المعرفة الكافية لهم آنذاك، فحكموا على أنفسهم بالثبات والسجن في شرنقة الأيديولوجيا التي اعتنقوها في تلك الظروف وأصروا على عدم التغيير لحد الآن، ويكيلون النقد الجارح ضد كل من استجاب لمتطلبات العصر وطور أفكاره وغيَّر مواقفه. فالحياة تتغير ومعها الأفكار. إذ كما يقول الروائي الفرنسي الخالد فكتور هيجو في هذا الصدد: " إنه لثناء باطل أن يقال عن رجل إن اعتقاده السياسي لم يتغيَّر منذ أربعين سنة… فهذا يعني أن حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمق الفكري في الأحداث… إنه كمثل الثناء على الماء لركوده وعلى الشجرة لموتها…".

أعتقد أن لينين هو المسؤول الأول عن هذا الخطأ وما حصل للفلسفة الماركسية من تشويه. فبإصراره على القيام بالثورة البلشفية في روسيا في أكتوبر عام 1917 والقضاء على الثورة البرجوازية الديمقراطية التي اندلعت في شباط/فبراير من العام نفسه بقيادة الديمقراطي ألكسندر كيرنسكي، والتي أطاحت بالنظام الملكي (القياصرة)، قد خالف لينين أهم مبدأ من مبادئ الماركسية. فماركس حدد مراحل التطور الاجتماعي بخمسة تشكيلات اجتماعية وهي: المشاعة البدائية والعبودية والإقطاع والرأسمالية والنظام الاشتراكي الذي جاء ليحل محل الرأسمالية.
إلا إن ماركس مثل أستاذه هيغل، أكد على أنه لا يمكن القفز على المراحل أو حرقها، فكل مرحة تاريخية لا يمكن تجاوزها إلا بعد أن تستنفد شروط ومبررات وجودها. وهذا يعني أن المرحلة في روسيا كانت منسجمة مع ثورة كيرنسكي البرجوازية الديمقراطية. ولكن إصرار لينين على إجهاض الثورة البرجوازية الديمقراطية وحرق المرحلة والقفز عليها إلى مرحلة لاحقة ما بعد الرأسمالية وهي الاشتراكية على الرغم من أن مرحلة الرأسمالية كانت مازالت في طور نموها، إذ كانت روسيا تمثل الحلقة الأضعف في الأنظمة الرأسمالية آنذاك، فكان المفروض دعم هذه المرحلة بالسماح لها بالنمو والتطور الطبيعي التدريجي إلى أن تستنفد شروط وجودها وصولاً إلى الاشتراكية. وهذه هي التعليمات التي نادى بها الفلاسفة الماركسيين الأوائل من أمثال بليخانوف وكاوتسكي وروزا لوكسمبورع وغيرهم. إلا إن لينين انتقدهم بشدة وشن عليهم حملة شعواء إلى حد الشتيمة، فألف كتاباً ضد أحدهم وهو كاوتسكي بعنوان (المرتد كاوتسكي).

لقد طالب هؤلاء الفلاسفة الماركسيون بالسماح لمرحلة الرأسمالية أن تنضج خاصة بعد ثورة كيرنسكي البرجوازية الديمقراطية، والاستفادة من الحرية التي وفرتها، للترويج للديمقراطية الاجتماعية والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، أي إتباع نهج التطور الطبيعي السلمي التدريجي بدلاً من القفز إلى النظام الشيوعي وبدون هزات وثورات دموية عنيفة التي من مخاطرها السقوط وإجهاض المرحلة وتأخير التطور. لقد تم تطبيق فلسفة كاتوسكي ولوكسمبورغ وغيرهما في الدول الاسكندنافية حيث حققت هذه الدول مجتمع الرفاه والعدالة الاجتماعية ودولة الخدمات والضمان الاجتماعي لجميع أبناء شعوبها دون استثناء بفرض ضريبة تصاعدية وفي ظل الديمقراطية الليبرالية. وهذا هو سر نجاح الدول الاسكندنافية التي تتمتع الآن بأروع نظام اشتراكي ديمقراطي. فالاشتراكية، وكما قال عنها لينين نفسه، أنها ليست على نمط واحد، بل ستتحقق في مختلف بلدان العالم بطرق مختلفة وأنماط مختلفة، كل حسب ظروفها الزمنية والمكانية. ولكن رغم ذلك أصر لينين على حرق المراحل في روسياً وتوابعها وإجهاض مرحلة الرأسمالية الديمقراطية وفرض الاشتراكية بالعنف المسلح وإقامة نظام الديكتاتورية البروليتارية. ولولا خطيئة لينين، لكانت روسيا الآن مثل الدول الاسكندنافية في مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. ومن هنا نعرف أن لينين قد تسبب في عرقلة التطور في روسيا لعشرات السنين، إضافة إلى الضحايا التي دفعتها شعوب الدول الاشتراكية.

لقد اضطر لينين ومن بعده ستالين، تطبيق الاشتراكية عن طريق العنف ومن خلال ما سمي بالدكتاتورية البروليتارية كما ذكرنا. والمعروف عن الديكتاتورية وبشتى أشكالها ومهما كانت أغراضها نبيلة، أنها تؤدي في النهاية إلى أن تنقلب حتى على مؤيديها ولذلك قيل: "أن الثورة تأكل أبناءها". إذ تفيد الأرقام أن عدد ضحايا العنف الثوري "المقدس" ضد من أسموهم بـ"أعداء الثورة" في روسيا بلغ نحو خمسة ملايين في عهد لينين فقط، معظمهم من الفلاحين والمزارعين، أما الضحايا في عهد ستالين فقد بلغ بحدود خمسين مليوناً، كما وقضى ستالين على معظم رجال الثورة البلشفية من رفاق لينين. ولا أدري ما قيمة الدخول في الجنة الاشتراكية بالقوة وبهذه التضحيات التي لا حد لها.

يصف ماركس السمة المميزة الرئيسية للمادية الجدلية والمادية التاريخية على النحو التالي: "أن الفلاسفة حتى الآن لم يفعلوا سوى تفسير العالم بمختلف الطرق، بيد أن القضية هي تغييره" وإن قوة الفلسفة الماركسية تتلخص في صلتها العضوية بالنشاط العملي وفي أنها تخدم نضال الطبقة العاملة ضد الرأسمالية، ومن أجل الاشتراكية والشيوعية. (أفاناسييف، نفس المصدر، ص 25).

طيب وهنا نود أن نسأل دعاة الثورة والكفاح المسلح وتغيير العالم بالعنف والانتقال إلى الاشتراكية بالقوة المسلحة: أين كانت الفلسفة الماركسية والأحزاب الشيوعية الثورية في انتقال المجتمعات البشرية من تشكيلة بدائية إلى التشكيلة الأرقى منها؟ أي حزب قام بالثورة لنقل البشرية من المشاعة البدائية إلى مرحلة العبودية؟ ومن الذي قام بالتحولات الاجتماعية من مرحلة العبودية إلى الإقطاع، ومن الإقطاع إلى الرأسمالية؟ في الحقيقة لو درسنا كتب التاريخ وعلم الاجتماع لعرفنا أن المجتمعات البشرية محكوم عليها بالتطور، أي تتطور بشكل تلقائي وتدريجي وخارج عن وعي الإنسان. فكل مرحلة لاحقة تكون قد نمت بخفاء ودون وعي في رحم المرحلة السابقة، ولا يمكن حرق أي مرحلة منها بالقوة والثورات الدموية، وأي تدخل في مسار التاريخ بالقوة يؤدي إلى العرقلة وإجهاض الوليد القادم، ولا تخدم المسيرة والتحولات الاجتماعية.

قال ماركس "أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعي الإنسان وليس العكس." فالتحولات الاجتماعية هي التي تتحقق أولا وخارج وعي البشر ودون قصد منهم ومن ثم يتغير الوعي. وحتى إذا خطط من نسميهم بصناع التاريخ عملية التغيير وبوعي مقصود منهم، فالنتائج تكون غالباً على غير ما كانوا يرغبون. كان هيغل يعزو القوة المحركة للتاريخ إلى الروح المطلقة، أما ماركس وإنجلز فقد أوعزا القوة المحركة التاريخ إلى القوى المادية وعلاقات الإنتاج. وأنا أميل إلى التفسير الماركسي للتاريخ. وعليه وبناءً على ما تقدم، فالمجتمع البشري إذا ما أراد أن يتحول إلى الاشتراكية فإنه لا يحتاج إلى ثورة دموية كثورة أكتوبر البلشفية، بل هو يتحول تدريجياً بمثل ما تحول خلال تاريخ تطوره من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى بدون مساعدة من أيديولوجيا أو حتى وجود حزب شيوعي أو غير شيوعي. ويبدو أن لينين قد انتبه إلى هذه الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان. ولذلك قال عنه السياسي الإنكليزي الحكيم ونستون تشرتشل: "كانت ولادة لينين كارثة على روسيا لم يكن أسوأ منها غير وفاته المبكر." وهذا يعني أن لينين أراد أن يصلح الوضع المأساوي الذي أوجده بثورته، وأن يجري تعديلات على الثورة الشيوعية وربما تغيير اتجاهها إلى الديمقراطية الاجتماعية، ولكن وافته المنية قبل أن يحقق ما يريد، ليأتي بعده أبشع دكتاتور وحش في التاريخ صبغ الحركة الشيوعية بالدم وإرهاب الدولة.

لقد دام النظام السوفيتي نحو 74 عاماً عن طريق القهر والاستبداد إلى أن سقط عام 1992. وسبب سقوطه هو ليس لعوامل خارجية، أو خيانة ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسن، كما يتصور البعض، بل لأن النظام الشيوعي كان مخالفاً لقوانين حركة ومسار التاريخ وللطبيعة البشرية، وجاء في مرحلة سابقة لأوانها واعتمد في بقائه على القهر، وسقط عندما رفض آخر زعماء الكرملين، غورباتشوف، مواصلة القهر والعنف ضد أبناء الشعوب السوفيتية.

دور العقل والرغبات الفطرية
من نافلة القول أن أي نظام يخالف الطبيعة البشرية وقوانين التاريخ مآله الفشل إن عاجلاً أم آجلاً. فالإنسان يسعى لمصالحه، وهذه المصالح هي وفق رغباته الفطرية وغرائزه الطبيعية التي ورثها من الحيوانات التي تطور منها في سلم التطور، ولا يمكن القضاء عليها بالوعظ والإرشاد والزجر. فالإنسان قبل كل شيء هو حيوان، إلا إنه يمتاز عن بقية الحيوانات بنعمة العقل. وكما ذكرنا في مناسبات سابقة، أن العقل هو ليس لمحاربة الغرائز الطبيعية، أو التمييز بين الخير والشر وإرشاده إلى الحق، بل وكما يؤكد العلامة علي الوردي، هو وسيلة دفاعية وآلية لتحقيق أغراض هذه الغرائز والدفاع عن المصالح. فكما يقول الوردي في هذا الصدد:" إن العقل في الإنسان ما هو إلا عضو كسائر الأعضاء، وهو إنما خلقه الله في الإنسان لكي يساعده على تنازع البقاء كمثل ما خلق الخرطوم الطويل في الفيل، أو المخالب القوية في الأسد، أو السيقان السريعة في الفرَس، أو الناب السامة في الحية، أو الدرع الواقي في السلحفاة. وبعبارة أخرى: إن العقل ليس المقصود منه اكتشاف الحقيقة، أو التمييز بين الخير والشر، كما كان القدماء يفتون، بل المقصود منه اكتشاف كل ما ينفع الإنسان في الحياة ويضر بخصمه." (علي الوردي، لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث، ج2، ص 306).

وفي الحقيقة، حتى الديانات السماوية التي جاءت في عصور متخلفة من مراحل تطور المجتمع البشري، حاولت أن تهذب من طبائع البشر وغرائزهم البدائية عن طريق استثمار هذه الغرائز ذاتها لتحقيق الغرض، أي عامل المصلحة مثل، الكسب المادي والمعنوي والجنس والشهوات والطعام والشراب وامتلاك القصور وغيرها، وذلك بكيل الوعود المعسولة للناس بنيلها في الحياة الآخرة الخالدة في جنة عرضها السماوات والأرض فيها أنهار من عسل ومن لبن ومن خمر لذة للشاربين، وحور العين وولدان مخلدون...الخ على شرط أن يعاملوا أبناء جنسهم في هذه الدنيا الفانية بالتي هي أحسن. أما النظام الشيوعي فأراد من البشر أن يتحولوا إلى ملائكة ويتخلوا عن رغباتهم الغرائزية ويقيموا نظاماً طوباويا بمجرد قراءة الكتب الماركسية اللينينية على طريقة وعاض السلاطين، والتضحية بمصالحهم وإلغاء طموحاتهم في الكسب والملكية الخاصة وبدون أي وعود معسولة في حياة أخرى ما بعد الموت، لأن الشيوعية لا تؤمن أصلاً بالأديان وبالحياة بعد الموت. لذلك فالشيوعية كانت محكوم عليها بالفشل مسبقاً، فكل شيء قبل أوانه هو إجهاض للعملية.

خرافة دور ستالين في انهيار الكتلة الاشتراكية
يردد الشيوعيون، كغيرهم من أصحاب الأيديولوجيات الأخرى، أن سبب فشل الأنظمة الاشتراكية وانهيارها هو الخطأ في التطبيق وليس في الأيديولوجية. وهذا موضوع طويل وعريض يستحق مقال مستقل بذاته، ولكن يكفي في هذه العجالة أن أؤكد أن الحجة ذاتها يرددها المؤدلجون من جميع الاتجاهات دفاعاً عن أيديولوجياتهم. فمعظم الشيوعيين يلقون اللوم على ستالين، والإسلاميون على الخلفاء الذين لم يطبقوا الشريعة السمحاء كما يدعون، أما البعثيون فيلقون اللوم على صدام حسين وحده وكأن بقية قادة البعث كانوا ملائكة، وكلنا نعرف كيف تصرف البعثيون في انقلابهم الدموي الأسود في 8 شباط/فبراير عام 1963 عندما كان صدام مجرد صبي من صبيان الحرس القومي يتدرب على تعذيب الوطنيين العراقيين.

في الحقيقة، إن سبب فشل الأنظمة الأيديولوجية لا يعود إلى خطأ في التطبيق أو انحراف قادتها، بل لأن هذه الأنظمة الأيديولوجية هي غير قابلة للتطبيق لأنها ضد قوانين حركة التاريخ وضد التطور وضد الطبيعة البشرية. ولذلك فهذه الأنظمة محكوم عليها بالفشل الذريع ولكن بعد الخراب الشامل. وبالنسبة للحركة الشيوعية، فيا للمفارقة، هناك من الشيوعيين من ذوي الجمود العقائدي أو التحجر العقائدي إلى حد أنهم مازالوا يمجدون ستالين ويعتبرون التخلي عن سياساته كان هو السبب الرئيسي في انهيار الكتلة الاشتراكية ويلقون اللوم على خروتشوف الذي أدان ستالين عام 1954 وأخرج جثمانه من مقبرة الكرملين، إضافة إلى لوم غورباتشوف ويلتسن فيما بعد.

ماذا سيكون عليه المستقبل؟ رأسمالية، إشتراكية أم بربرية؟
هذا السؤال طرحه عالم الاجتماع الأمريكي الأستاذ ستيفن كي ساندرسون في كتابه القيم، التحولات الاجتماعية (Social Transformation). يسأل عن التحديات التي سوف تواجه البشرية في المستقبل فيما لو سلمت من كوارث الحروب النووية والبيئية ؟
يرى المؤلف أن تنبؤ ماركس في تحول الرأسمالية إلى الاشتراكية ربما كان صحيحاً، ولكنه أخطأ في تقدير عمر الرأسمالية، فبدلاً من تحول الرأسمالية إلى الاشتراكية، نرى أنه قد حصل العكس كما ذكرنا آنفاً. يرى المؤلف أن ماركس استهان بعمر النظام الرأسمالي واعتقدَ أنه على وشك الزوال في نهاية القرن التاسع عشر وأنه يحتاج إلى مجرد ركلة من الطبقة العاملة الثورية. إذ لم يدرك قدرة النظام الرأسمالي على تجديد نفسه وإعادة شبابه والتغلب على مشاكله. فالنظام الرأسمالي استطاع تحسين أحوال الطبقات الكادحة بالاستجابة إلى الكثير من مطالبهم، وبالتالي تجريد العمال من ثوريتهم.

كذلك التغيير الذي حصل في وسائل الإنتاج، إذ كان العامل في السابق هو الذي يكسب عيشه عن طريق قوة عضلاته، أما اليوم فقد حلت المكننة والأتمتة لزيادة الإنتاج، الأمر الذي أدى إلى انحسار العمال من ذوي الياقات الزرق وحل محلهم ذوو الياقات البيض الذي لا يعتبرون أنفسهم عمالاً كادحين. والآن نحن نعيش في مرحلة ما بعد الحداثة، أي ما بعد الثورة الصناعية ودخلنا الثورة التكنولوجية المتطورة (High Tech) ومعها الثورة الإلكترونية والثورة المعلوماتية، وقد انتهى دور الطبقة العاملة في القيام بالثورات البروليتارية. وحتى الأحزاب الشيوعية تخلت عن اللينية وأسقطن من أنظمتها الداخلية الدكتاتورية البروليتارية وتبنت الاشتراكية الديمقراطية. فهذا هو الحزب الشيوعي الصني تخلى عن الاقتصاد الماركسي وتبنى اقتصاد السوق الرأسمالي، وبذلك حقق نجاحا باهراً في النمو الاقتصادي الذي بلغ معدلاته 10% سنوياً.

ولكن هذا لا يعني أن الرأسمالية هي نهاية التاريخ كما تنبأ المفكر الأمريكي الياباني الأصل، فرانسيس فوكوياما، والذي سحب قوله هذا فيما بعد. على أي حال، هناك بين علماء الاجتماع من يعتقد باحتمال تحقيق الاشتراكية في المستقبل فيما لو تغلبت البشرية على احتمالات فنائها بالحروب النووية والمشاكل البيئة التي تهددها. تنبأ إثنان من علماء الاجتماع الأمريكيين بولادة الاشتراكية في المستقبل وفي وقت متقارب ودون أن يعرف أحدهما بالآخر.

يستشهد المؤلف بآراء إثنين من علماء الاجتماع الأمريكيين، أحدهما هو Immanuel Wallerstien الذي قال في بحث له نشر عام 1984 أن الاشتراكية ربما ستتحقق في المستقبل ما بين 100- 150 سنة من تاريخ نشر البحث، ولكن ليس عن طريق الثورات الدموية بل عن طريق التطور السلمي التدريجي وبشكل هادئ تفرضها ظروف المرحلة ووسائل الإنتاج، وما سيطرأ على المجتمع البشري من تغييرات وتطورات اجتماعية واقتصادية وسياسية. والآخر هو Walter Goldfrank الذي نشر بحثا عام 1987، تنبأ باحتمالات عديدة، منها الهلوكوست النووي... الخ، ولكنه قال أن الرأسمالية مليئة بتناقضات فنائها، وإذا سلمت البشرية من الفناء فربما ستتحقق الاشتراكية ما بين 80 إلى 140 عاماً من نشر البحث.
(S.K. Sanderson، Social Transformation، p 370-373)

خلاصة القول، أثبتت الأحداث في العقد الأخير من قرن العشرين وإلى الآن، أن ثورة أكتوبر البلشفية كانت انحرافاً عن مسار التاريخ وضد قوانين حركته. فلو كانت منسجمة مع منطق التاريخ لبقيت وفق مبدأ البقاء للأصلح. فالتاريخ يحافظ على مساره مهما طال الزمن ومهما حصل من تعرجات وتراجعات، ولا بد أن يُسقط عن مساره ما فرض عليه بالقوة، إذ لا يمكن حرق المراحل والقفز عليها، بل لا بد وأن يحصل التطور بشكل طبيعي وتدريجي. وقد فرض لينين التحول الاشتراكي بالقوة خلافاً لمنطق التاريخ. لذلك وبعد أربعة وسبعين عاماً من القهر والاستبداد، انتفض التاريخ وانتقم لنفسه وأسقط من تاريخ روسيا المرحلة الدخيلة عليه الممتدة من بدء تاريخ الثورة البلشفية إلى نهاية حكم غورباتشوف، ليبدأ بوريس يلتسن من حيث انتهى حكم كيرنسكي، وليعيد مواصلة مسار التاريخ من جديد. وهذا هو منطق التاريخ، وهذا هو الدرس البليغ الذي يجب أن نستخلصه ونتعلمه من قراءتنا لثورة أكتوبر البلشفية.

د. عبدالخالق حسين
17/11/2007