كنت ولم تزل أبنا بارا للعراق يامصطفى المدامغة

منذ أن وعيت نذرت نفسك للعراق ، فكنت أبنا بارا تنحاز للفقراء والضعفاء ، وتنتصر للمظلومين ، وتحملت عواقب هذا الالتزام سجونا وفصلا وتشريدا ، غيرأنك بقيت كما أنت معلما وعالما يفتخر بك كل من تعرف اليك أو عمل بقربك .

عرفتك المحاكم العراقية قاضيا عادلا ونزيها ومتواضعا ، وعرفك أهل القانون ملتزما وصلبا وعالما جليلا تتعلم منك الأجيال ، لتكون سندا ومرجعا وفقيها في مجالات القانون المختلفة ، غير انك نقشت أسمك في قلوب الناس قبل أن تنقشه في قلوب العاملين في المجال القضائي والقانوني .

تتلمذ على يديك خيرة قضاة العراق ، وكنت مثالا ونبراسا للقاضي الذي لايخشى في الحق لومة لائم ، وحين انصرفت على البحث ، خرجت لنا بأبحاث قضائية مهمة في قانون الإثبات منها اليمين في القانون العراقي ودراسات في قانون الأحوال الشخصية .

أيها الرمز العراقي الكبير ، يامن أجد الكلمات تفر مني حين أريد أن اسطر بعض الكلمات عنك بعد رحيلك ، وكانت مواقفك في زمن الدكتاتورية ماتشرف القضاء الذي كان ساعيا للبقاء على نظافته وهيبته ، وتدفع المبتدئين في العمل القضائي أن يتلمسوا طريقك ، وعدك بعض الباحثين من القضاة المتميزين جهدا وعلما وأخلاقا .

والقاضي مصطفى المدامغة بالأضافة الى ممارسته القضاء وتمرسه في القوانين شاعرا أصيلا ومتمكنا ، وله قصائد رائعة في هذا المجال .

تحمل المدامغة تعسف وظلم السلطة الصدامية ، وأحيل على التقاعد المدني وحرم من العمل في المحاماة أسوة بجمع خير وعدد كبير من قضاة محكمة التمييز ، ممن قضوا أكثر أعمارهم في القضاء العراقي ، وبعد إن تم تهميش هذا العدد في حادثة سميت ( بمجزرة القضاء العراقي ) ، ركن في بيته قانعا بما قسم الله له ، متابعا للقضاء وللمؤسسات القانونية ، ولم تحيد عينه عن العراق .

ولحاجة العراق اليوم الى تلك الطاقات والكفاءات ، فقد تمت إعادته الى القضاء العراقي في عمله السابق كعضو في محكمة التمييز ، وهي المهمة التي أضطلع بها لأكثر من 20 عاما ، وأستمر في العطاء بجدارة ومهنية عالية ، ورحل من بيته كبقية المهجرين نتيجة الحروب الطائفية القذرة في العراق ، ولاحقته أيادي الإرهاب والغدر تقطع طريقه من بيته الى عمله ، فتغدر به ، وحين تتمكن هذه العصابات من إيقاف عطاء الأصيل مصطفى المدامغة ، فأنها تسعى لتصيب العراق في الصميم ، فمصطفى المدامغة أبنه البار الذي لم يتوقف عن العطاء ، ووظف كل عمره في خدمة الحق والحقيقة والإنسان .

سينام أبا علي قرير العين مطمئنا لعطاءه وخدمته للقضاء العراقي ، فقد دخل مسلك القضاء نزيها وكبيرا وغادر القضاء والحياة نزيها وكبيرا كما كان دوما ، خالدا في ضمائر الطيبين من أهل العراق .

رحلت عنا ونحن في أمس الحاجة لعقلك النير وفكرك المنفتح وعلميتك المشهودة ، ورحلت عنا ونحن بحاجة لأمثالك من أبناء العراق المخلصين والطيبين ، وفي زمن الغدر والموت الطائفي البغيض غادرتنا تحمل جراحك ووجعك وأنت الذي لم تفكر أن تؤذي نملة في يوم ما ، أيها الشهيد الكبير والقاضي الجليل أوفيت بعهدك وأكملت مسيرتك وقطعوا عليك طريق العطاء ، فكنت تريد إن تعطي للعراق بالرغم من شيخوختك وعمرك ، لكنك لم تحمل سوى ذلك الضمير النقي والتأريخ الأنقى ، وتلك السمعة التي تتباهى بها بين أقرانك أيها الإنسان والقاضي والعالم والشاعر مصطفى المدامغة .

زهير كاظم عبود
30/9/2007