المصالحة...المهمة المستحيلة!!

يكثر الحديث هذه الأيام، وخاصة تصريحات المسؤولين الأمريكان، عن نفاذ صبر الرئيس بوش وطاقمه في البيت الأبيض، من السيد نوري المالكي، رئيس الحكومة العراقية، بسبب عجزه في تحقيق المصالحة الوطنية. وهناك حملة منسقة ضد المالكي حيث (عبرت 16 وكالة استخباراتية اميركية في احدث تقييم لها بشأن العراق، عن «شكوك عميقة» في قدرة حكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في تحقيق تقدم سياسي أو أمني في المستقبل، أو الوفاء بمتطلبات المصالحة الوطنية، وأن حكومته في خطر – الشرق الأوسط، 24/8/2007). إضافة إلى تصريحات عدد من أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ ضد المالكي، تزامنت هذه الحملة واسعة مع انسحاب نحو 16 وزيراً من مجموع 37 حقيبة وزارية، الغرض منها إسقاط حكومة المالكي.

منذ أكثر من عام، وعندما تسلم رئاسة الحكومة، دشن السيد نوري المالكي عهده بخطاب في مؤتمر صحفي كبير، أكد فيه عزمه على إجراء المصالحة الوطنية مع مختلف الأطراف العراقية المتنازعة عدا جماعة القاعدة والبعثيين الذين تورطوا بارتكاب جرائم بشعة ضد الشعب العراقي. والغرض من هذه المصالحة هو بناء الدولة العراقية الديمقراطية على أسس جديدة وعادلة تضمن مشاركة جميع مكونات الشعب وممثليها في الحكم والمسؤولية، وتحقيق الأمن وتوفير الخدمات وفرض حكم القانون والبدء بإعمار العراق... وباختصار، إعادة هيبة الدولة العراقية الديمقراطية، لتستطيع أن تقدم للمواطن العراقي الأمن والحرية والخبز والكرامة والاستقرار والازدهار الاقتصادي.

ولكن منذ ذلك الوقت ولحد الآن، تمر عملية المصالحة بصعوبات كبيرة وتلكؤ وتراجع، والوضع الأمني في تدهور مستمر، والمواطن العراقي لا حول له ولا قوة عدا التفكير في إيجاد السبل الممكنة لمغادرة العراق وإلى الأبد. وفي نفس الوقت نرى أمريكا وبمختلف مؤسساتها السياسية والعسكرية، إدارة بوش والحزب الديمقراطي المعارض، تحث المالكي بالتعجيل في تحقيق المصالحة والتهديد إما باستبداله بشخص آخر، أو تسحب أمريكا قواتها من العراق و(ليكن من بعدي الطوفان) في هذا العراق!!!

المهمة المستحيلة Mission Impossible
يبدو أن الأمريكان، ورغم مرور أكثر من أربعة أعوام على وجودهم في العراق وتورطهم بالمحنة العراقية، لم يفهموا لحد الآن طبيعة المجتمع العراقي وحقيقة الصراع السياسي الدائر بين مختلف الأطراف والقوى السياسية المتصارعة في العراق. إذ إنهم يعتبرون المصالحة الوطنية وكأنها لعابة toy من السهل امتلاكها ويتصرفون كالأطفال المطالبين بهذه اللعّابة فوراً وإلا!! لا يعرف هؤلاء أن الجهات التي يطالبون المالكي بالتفاوض والمصالحة معها، هي غير معنية أصلاً بهذه المصالحة وترفضها من أساسها ولا ترغب حتى بمجرد التفكير بها.

نعم هناك جهات استجابت إلى دعوة الحكومة للمصالحة، ولكن هذه الجهات لا حول لها ولا قوة ولا دور لها فيما يسمى بـ"المقاومة الوطنية الشريفة". فمعظم الذين استجابوا لدعوة المالكي وتقدموا للحكومة وأعلنوا شروطهم المعقولة وموافقتهم على المصالحة، كان هدف البعض منهم استغلال الموقف وضعف الحكومة من أجل تحقيق مكاسب مادية ومعنوية لهم فقط، دون أن يكون بإمكانهم تقديم أي شيء لإيقاف هذا النزيف. بل وهناك من لهم رجل مع الحكومة ورجل مع الإرهابيين، أي يلعبون على الحبلين!!

أما الجهات الحقيقية المسؤولة عن هذا النزيف وتدمير العراق فتتمثل في فلول البعث وحلفائهم التكفيريين من أتباع القاعدة. وهؤلاء لهم أغراضهم وأجندتهم التي لا يمكن أن يتنازلوا عنها قيد شعرة، ويرفضون المصالحة بالمطلق، ومطالبهم تنحصر فيما يلي:
1- حل حكومة المالكي،
2- حل البرلمان وإلغاء الدستور،
3- إطلاق سراح جميع المعتقلين،
4- حل الجيش العراقي الجديد وإعادة الجيش القديم،
5- حل الشرطة العراقية الجديدة وجميع المؤسسات الأمنية التي تشكلت بعد سقوط حكم البعث، وإعادة الأجهزة البعثية مكانها،
6- إعادة جميع المسؤولين الذين كانوا يشغلون المناصب والوظائف في عهد صدام،
7- إلغاء جميع القوانين التي شرعت بعد سقوط حكم البعث...،

وبإختصار إلغاء كل شيء تحقق بعد سقوط البعث، وإعادة العراق إلى ما كان عليه في عهد صدام ولكن بدون صدام لأن الأخير لم يعد حياً!! وكما يقول المثل العراقي: (تيتي تيتي.. مثل ما رحتي إجيتي!!). فهل من أجل هذا قدم الشعب العراقي كل هذه التضحيات والضحايا؟

ومعظم هذه الشروط ذكرها قادة جبهة التوافق في مذكرتهم التي أعلنوها في مؤتمرهم الصحفي يوم 1 آب/أغسطس الجاري، عندما أعلنوا انسحابهم من الحكومة. كما وترى هذه الشروط في أدبيات معظم القوميين العراقيين التي نشروها في الأيام الأخيرة. وهي شروط الجهات التي يلح الأمريكان وجبهة التوافق التفاوض معها. فهل هذه الشروط يمكن تحقيقها والتفاوض حولها أم هي شروط تعجيزية، القصد منها إفشال العملية السياسية برمتها؟

لا أريد هنا أن أدافع عن السيد نوري المالكي، فالرجل عنده جيش من الكتاب والصحفيين الذين بمقدورهم الدفاع عنه وعن سياساته وحكومته، وأنا من مدرسة فكرية علمانية ليبرالية حد النخاع، ولكن في نفس الوقت أعتقد جازماً أن المرحلة التي يمر بها العراق هي مرحلة صعبة لا يمكن تجاوزها بمجرد طرح التمنيات والأفكار الرغبوية، وتبديل هذا الرئيس بذاك، فالواقع شيء والتمنيات شيء آخر، ولا يجب أن نتصور الواقع كما نرغب أن يكون، بل نتصرف وفق ما هو عليه ونعمل من أجل تغييره بتبني سياسة براغماتية قابلة للتحقيق ووفق فن الممكن دون طرح شروط تعجيزية أو المطالبة بالمستحيل، أو المحاولة بحرق المراحل والقفز على الواقع، ودون أن ننسى الطموح.

والمؤسف حقاً أن هناك من يريد التصيد بالماء العكر لتحقيق طموحاتهم الشخصية في استثمار الوضع المتأزم فيقومون بصب الزيت على النار. فقد أفادت الأنباء أن قائمة (العراقية) التي يرأسها الدكتور بقيادة الدكتور أياد علاوي، قامت بسحب وزراءها من الحكومة، إقتداءً بقائمة التوافق وكتلة الصدر، في محاولة منها للإطاحة بحكومة المالكي، لا لشيء إلا من أجل الصراع على المناصب. وبهذه المناسبة، وإنصافاً للتاريخ، نحي موقف قيادة الحزب الشيوعي العراقي (العضو في قائمة العراقية) برفضهم سحب وزيرهم الوحيد من الحكومة، وذلك شعوراً منهم بالمسؤولية أزاء وطنهم وأن الوضع يتطلب التضامن مع الحكومة وليس إسقاطها. أما سياسة هدم المعبد على رؤوس الجميع فلا تخدم أحداً بل تفاقم المشكلة.

كما وتفيد الأنباء أن الدكتور أياد علاوي يعمل بنشاط من أجل الإطاحة بالمالكي، في محاولة مستميتة منه عسى أن يحل هو محله. ولتحقيق هذا الغرض لم يتردد الدكتور علاوي بالإستقواء بالخارج، فقام بتأجير شركة اللوبي والعلاقات العامة الأمريكية المسماة "باربر كرفيذ اند روجرز ال ال سي" Barbour, Griffith, & Rogers – BGR للقيام بتحريك بعض أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ الأمريكيين، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ضد المالكي، ومطالبة الرئيس بوش بالإطاحة به وتعيين الدكتور أياد علاوي مكانه، والإدعاء بأن المالكي فشل في تحقيق الأمن والمصالحة الوطنية. علماً بأن السيد علاوي هو نفسه كان رئيساً سابقاً للحكومة المؤقتة وفشل في تحقيق ما فشل به المالكي. أدناه رابط يكشف محاولة السيد علاوي بالإستقواء بالخارج. وهذا ما قاله (... مسؤول في إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش، يوم الخميس في تصريح لـCNN، إن البيت الأبيض مدرك لحملة اللوبي الجمهوري، التي تقودها مؤسسة "باربور غريفيث آند روجرز"، لأنها شنت حملة بالبريد الإلكتروني تنتقد فيها المالكي وتروج لرئيس الوزراء العراقي السابق، إياد علاوي، كبديل له.) ولعل هذه الفضيحة هي التي دفعت الرئيس بوش أن يعلن في خطابه الأخير عن دعمه للسيد المالكي، قائلاً بحق: (أن المالكي رجل جيد ويبذل كل ما في وسعه لخدمة شعبه، وأن الذي يقرر بقاءه في الحكم هو الشعب العراقي وليس السياسيين في واشنطن، فحكومة المالكي حكومة ديمقراطية منتخبة وليست ديكتاتورية كما كان العراق في السابق).

ما العمل
1- الحكمة تفيد: (لا يلين الحديد إلا الحديد)، وكما قال الرئيس الأمريكي ترومان: "عندما تواجه وحشا عليك أن تتعامل معه على أساس أنّه وحش. هذا مؤلم لكنّه الحقيقة" . فالبعثيون الإرهابيون الذين تسببوا في تدمير العراق والمنطقة لا يكتفون بأقل من عودتهم إلى الحكم لمواصلة حكمهم الغاشم وتدميرهم للعراق والمنطقة. لذا فالسياسة الصحيحة في مواجهة الوحوش الضارية هي مواصلة ضربها بقوة ودون رحمة إلى أن يتم القضاء على جميع الإرهابيين قضاءً تاماً، وتأهيل كل بعثي يرغب في المشاركة في بناء وطنه وإعادته إلى صفوف الشعب.

2- والإجراء ذاته يجب اتخاذه إزاء الإسلامويين الجهاديين التكفيريين من أتباع القاعدة، فهؤلاء يحلمون بإسقاط الحكومة وتأسيس إمارتهم الإسلامية في العراق، ومنه لينطلقوا إلى دول الجوار وإسقاط حكوماتها، وبالتالي إقامة دولة الخلافة الإسلامية، وشن حرب ضروس على العالم. يجب استثمار وجود أنصار القاعدة في العراق لسحقهم بالكامل وخلاص العالم من شرورهم. وهناك أدلة تشير إلى تحقيق انتصارات عسكرية رائعة ضد هؤلاء الوحوش.

3- نؤكد للذين يطالبون باستقالة المالكي أن البديل سيواجه نفس المشكلة، والحل ليس بإسقاط حكومة المالكي بل دعمها ومساعدتها في سحق التمرد، وإقناع المعتدلين من جبهة التوافق وغيرهم بالتخلي عن شروطهم التعجيزية، وأن من مصلحتهم ومصلحة الشعب العراقي أن يساهموا في بناء وطنهم، أما ربط أنفسهم بمصير البعث فهي سياسة عدمية انتحارية تزيد وتطيل من آلام الجميع.

ــــــــــــــــــــــــــ

تقرير جدير بالقراءة:
صوت العراق يحصل على صورة العقد بين علاوي والشركة
http://www.sotaliraq.com/iraq-news.php?id=62342

د. عبدالخالق حسين
25/8/2007