صدامات هينتنغتون الحضارية والحرب الامريكية ضد الارهاب في العراق

بالضد من طروحات العديد من النخبة العربية، يذهب البعض من المنظرين في الغرب الى الاعتقاد ان صاموئيل هنتنغون لم يجانب الواقع في تناوله موضوعة صدام الحضارات فحسب، بل اشار الى حقائق يشتط من ذكرها المنتمون الى الحضارات غير الغربية. وهي حقيقة تكمن في الفارق القيمي والتقني والانساني الذي يشطر الحضارت الى عوالم غريبة عن بعضها البعض. في مقدمة هذه الحقائق تاتي موضوعة الحريات المدنية التي يتمتع بها مواطن الكونية وحجم الحقوق التي يستحقها الإنسان، كل ضمن حدود حضارته. كما ان توزيع الثروات غير العادل/العادل لا يتم بمعزل عن فهم الواقع الذي عليه كل حضارة على حدة، وقدرة الفرد في تسويق عطاءات حضارته لجهة الرفاه والأمن.
غالبا ما يستحوذ علينا، نحن المحسوبين على النخبة، بعض من الأساليب الإلهامية في التعاطي مع مكونات الطرح الفلسفي في اطار فكري - معرفي عماده افتراضات مختزلة ومبتسرة لرؤى او رؤية ذات السمات الستاتيكية التي تفتقد الى الموضوعية لتحليل تداعيات واستحقاقات الكونية المتغيرة في فرزها لقيم وتقنيات عسيرة على الرد، او غير قابلة على الصد زمانا ومكانا، ذاتيا وموضوعيا. هذه الاشكالية غير الجديرة بالاهتمام من قبل احد طرفي المعادلة (دعاة حضارة معينة) تقودنا بلا شك – في حال صراع او حوار الحضارات – الى تشويه المفاهيم، ومن ثم الى خلط الظاهر بالمستتر من الاهداف المنوي تحقيقها كل وفق استنتاجات رهينة لذات الافتراض.
في السياق ذاته، نجد ان المفكر صاموئيل هنتنغتون، رئيس اكاديمية هارفرد للدراسات الدولية، وكبير منظري سياسات ما بعد الحرب الباردة، تمكن عام 1996 بكتابه المثير للجدل والموسوم بـ "صراع الحضارات وإعادة هيكلية النظام العالمي The Clash of Civizilation and The Remarking of The Word Order" تمكن أن يشغل حيزا في الحقل التنظيري هو الأكبر من نوعه، والأكثر جدلا بين صفوف النخبة الكونية. لقد أثار هنتنغتون، ولا يزال، جدلا تبقى نهايته رهن لنقيض آخر، قد تفرزه طبيعة الثوابت والمحددات الخاصة بتعدد الحضارات، التي يصعب، بل من المستحيل الشروع في قولبة مرتكزاتها الراسخة من القيم والأعراف والتقاليد، والتي باتت متجذرة أيضا في سفر الشعوب والأقوام عبر تعاملها مع – الآخر – كركن من أركان أخلاقية العلاقات الدولية المتكافئة، واساس من المرجعيات في صورها الإنسانية المتجددة لجهة العدل والمساواة وتبادل المنافع بعيدا عن حسابات ومكايل مزدوجة تشكل في واقع الأمر المدخل الجدلي لصراع حضارات هنتنغتون.
هجمات 11 سبتمبر 2001
عقب هجمات 11 سبتمبر عام 2001، قال بوش الابن جملة أثارت حفيظة الكثير من مثقفي العالم: " من ليس مع أمريكا فهو مع الإرهاب". أن مثل هذه وغيرها من مفردات الخطاب الأمريكي كانت كافية لتأليب الشعوب غر الإسلامية ضد المسلمين، وأنه وضع بذلك خطا فاصلا بين حضارة مسيحية وأخرى إسلامية. في جانب آخر، يفهم منه ومن خطاب غيره من أفراد إدارته (حتى بعد احتلال العراق وافغانستان) أن المسلمين لا ينتمون إلا إلى الجماعات " العنفية " وهم ضليعون في كل عمل إرهابي تم ضد أمريكا وضد "حضارة الغرب" عموما. ومن هنا يمكن القول أن بوش الابن قد اعطى التبرير لمصداقية طرح هنتنغتون الافتراضي المتعلق بصدام الحضارات، باعتبار أن الإسلام هو العدو القادم الجديد " الأخضر" الذي يشكل في نهاية المطاف خطرا يهدد القيم الغربية. الجدير ذكره أن العالم قد تعايش طيلة فترة الحرب الباردة طرحا قريبا من طرح هنتنغتون، وهو الطرح الذي تمسك به، ونادى له خبير الاستراتيجيات هنري كيسنجر (أمريكي من أصول ألمانية) في صراع الغرب الرأسمالي مع الشرق الشيوعي، باعتبار الشيوعية تشكل الخطر " الأحمر" الذي يهدد الحضارة الغربية. ولو أخذنا استنتاجات هنتنغتون في كتابه " صدام الحضارات" بعد أحداث 11 سبتمبر على محمل الجد، وافترضنا أن العالم قد بدا بالتغيير وفقا لإيقاع تنظيره، لجاز لنا القول أن هنتنغتون، وقبل شروعه في تسطير الأحرف الأولى من كتابه المذكور، وكأنه قد اتفق مع بن لادن لتنفيذ الكارثة الأولى، ومع جماعات القاعدة في العراق لاحقا. فالأول ، أي هنتنغتون، قد قام بدور المنظر (سيناريو)، اما الثاني، أي بن لادن، فقد أتقن عمله (الأخراج) وطبق بدقة فنية فاق تخيلات " صاحبه" هينتنغتون.
ان مثل هذه " المجازية" والافتراضات التنظيرية لهنتغتون، رغم واقعية بعض ما جاء في متن تنظيره، تدفع بالكثير من النخبة المثقفة، في حال تعاملها مع شأن بهذه الأهمية والخطورة، تدفع إلى التحفظ والحذر من السقوط في شرك التسطيح الفكري وخلط المفاهيم المتعلقة بالسيرورة التاريخية لحضارات الشعوب وثقافاتها.
كان صدام الحضارات مدخلا شرع لي باب النقاش والحوار مع المفكر العالمي فوكوياما اثناء الندوة الفكرية الخامسة والأخيرة للنخبة المثقفة في العالم، والتي عقدت في براغ عام 2001.
فوكوياما هو احد اعمدة الفكر في العالم، صاحب كتاب " نهاية العالم - The End of History and The Last Man" الذي أصدره كرد على تنظير هنتنغتون. ولفائدة المعنيين والمتشوقين لمفاهيم صراع الحضارات، تقتضي الضرورة الرجوع الى متن بعض من صياغاته.
بدءا نجد ان خلطا قد تم بين تأدية مصطلح CLASH لمعناها التي يفهم على انها صدام كتلتين في دائرة واحدة مكانا وزمانا، وبين مصطلح CONFLICT التي تعني الصراع لكتلتين في اتجاهين متضادين. وعلى العكس من مصطلح CRUSH وتعني الارتطام او الاصطدام لكتلة هاوية او ساقطة من علو. نرى ان ما جاء في تعبير هنتنغتون بـ CLASH ليس إلا الصدام وليس الصراع أو الاصطدام. لقد اراد بذلك " التلميح" الى أن الحرب الباردة، التي حطت اوزارها أخيرا، ستلد في القرن الواحد والعشرين حروبا ذات طابع غير ما درجت عليها الدول والشعوب. حروب يصعب التكهن بآلياتها واساليبها والنتائج المتوخاة منها، لأنها وببساطة، هو صدام في عالم متعدد الحضارات، كالحضارة الغربية المسيحية والإسلامية والبوذية والهندوسية وغيرها من الحضارات ذات الطابع الأقلياتي.
لقد ذهب هنتغتون الى ابعد من ذلك في محاضرة عام 1992 في واشنطن، تحدث فيها عن الاثنيات والديانات والقوميات باعتبارها متعارضة في فهم التحولات السلوكية ومتصادمة مع بعضها في الموقف من القيم المادية (الثروة والتكنولوجيا) والروحية اللاهوتية (المثل والأخلاق) وأن مثل هذه "الصدامات" لن تكون ذات سمات سياسية او اقتصادية كما جرت عليه العادة عبر التاريخ. وهو ما أثار ويثير اهتمام وسائل الأعلام ودوائر الاستشراف وصنع القرارات وخاصة مركز البحوث والدراسات الإستراتيجية.
وفي مراجعة أخرى لمتن الكتاب " صدام الحضارات " نجد مقطعا ذات دلالات لو قورنت بأحداث 11 سيتنبر 2001 وما يجري في العراق لتم تفسير" نبوءة " قد لا تقبل الدحض (ص 281 باللغة التشيكية) مفادها: " يمكن بكل سهولة تصور مجموعة من الشبان في الشرق الأوسط وهم يرتدون ملاس الجينسي – الكاوبوي – يشربون الكوكا كولا عند مدينة " مكة " ويستمعون الى موسيقى الراب وهم على جاهزية تامة للقيام بعملية تفجير ضد طائرة أمريكية ". لقد أراد هنتنغتون بهذه المقاربة القول بأن التطبع او التكييف مع الحياة الغربية من قبل مواطني الحضارات الأخرى ليس إلا أمرا سطحيا.
في الحقيقة أن ما حصل من عمل ارهابي في 11 من سبتمبر 2001 وما يجري في العراق وافغانستان لا يعني بالضرورة من أن المسلمين المقيمين في الغرب هم على شاكلة هذه المجموعات الإرهابية. فاللاهوت والشرعية ومبادئ الأمم تجيز العمل على انهاء جور وظلم الاحتلال والشهادة من اجل التحرير دون المساس بالثوابت المدنية. هنا نرى أن هنتنغتون دخل في أول مطب جدلي تميل فيه الكفة الى جانب المناهضين لطرحه. ان مثل هذه الأفكار لا يمكن الاعتداد بها، وتبقى علامات استفهام أخرى يمكن تمحيصها من خلال ما ورد في كتابه باتجاهين:
الأول:
ليست بنتاج حضارة بعينها
الثاني:
انكماش تأثير الحضارة الغربية المهددة بالزوال وذلك:
- التعاون بين المجتمعات هو الطريق الى تكوين الدولة المركزية لدمج الحضارات (مقصود احادية الحضارة)
- عالمية الحضارة الغربية واستحقاقاتها تؤدي الى الصراع مع باقي الحضارات، وخاصة مع الحضارة الإسلامية والصينية، مع الاشارة الى حروب مكانية محددة (العراق، افغانستان – العرب اسرائيل وأمريكا مع إيران وغيرها مستقبلا - الكاتب) محددة تقع عند حافات العالم المسيحي والإسلامي . وهنا يأتي دور الدولة المركزية لتنظيم العلاقات بين الأطراف المتصارعة، حيث ستلعب الحضارة الغربية الدور المنوط بها وصولا الى الديمومية.
عند هاتين الملاحظتين يجب التبصر فيما إذا كانت " عالمية " الحضارة الغربية بمثابة المرجعية الاطلاقية لباقي الحضارات؟. قد نؤيد مثل هذا الطرح على خلفية التخلف الذي يلف الحضارة الإسلامية قياسا لما تحقق للإنسان الغربي من حريات مدنية نفتقد لها، وحقوق الإنسان التي تنتهك بالضد من سنة الإسلام، والثروات المسخرة لغير الرفاه العام، وليس أخيرا " اللا اعتراف " بالغير وكأن العالم ضيعة خاصة بالمسلمين.
في هذا السياق، نترك الحديث الى فوكوياما:" رغم ما يربطني بهنتنغتون من علاقة وطيدة إلا أنني اخالفه في الرؤية والموقف من تداعيات طرحه لمفاهيم تتعلق بـ " صدام الحضارات " واعتبار المواجهة بين الغرب والارهابيين بمثابة صراع بين الغرب والإسلام. علينا وقبل أن نقع في وهم مثل هذا " الصدام " ان نشير الى حقيقة مفادها ان لا حضارة من تلك الحضارات الست او السبع التي تطرق اليها هنتنغتون مدينة لحضارة محددة على صعيد التطور المادي او الروحي. ان الاشكال التنظيري في فهم واقع الحضارات وبلوغها مستوى من الوعي والادراك لمكوناتها الاخلاقية اللاهوتية ينبع من درجة تواصلها واندماجها في عملية أنسنة (من إنسان) التعامل المعاش في اطار العلاقات الاجتماعية، أي الدرجة الحضارية التي عليها كل من الانسان الغربي بالمقارنة مع ابناء باقي الحضارات. من هنا يمكن التاكيد على ان بلوغ درجة الكمال " نسبيا " لحضارة ما يعتمد على كبر رقعة الحريات والحقوق العامة – الانسانية – التي يتمتع بها الفرد، ودوره الايجابي في تنفيذ الواجبات داخل مجتمعه .. انني اعتبر ان احترام حقوق الانسان هو المعيار الحقيقي لتقارب الحضارات والثقافات، وبعكسه قد نجد نوعا من التصادم الحضاري مع الأخذ بنظر الاعتبار خصوصيات الحضارات من تقاليد واعراف وعادات لا تجيز بقبول " الاطلاقية " لحضارة على حساب اخرى، وان فهم هذا الواقع واحترامه سيعجل بتقارب الحضارات .. "
قبل القبول بطرح فوكوياما، فهو طرح دقيق بحاجة الى تحليل اكثر عمقا واشمل بعدا. بايجاز القول، نرى أن التفاوت في الدرجة الحضارية بين المجتمعات التي سايرت التطور البشري جنبا الى جنب، أدى ويؤدي الى بلا شك الى نوع من التصادم، وخاصة إذا عملنا بطروحات " التحديثية " التي اخذت مديات واسعة من التاثير في المجتمعات غير الاسلامية. فعند التطرق الى مفهوم "التصادم" فاننا لا نعني بالضرورة ان يكون ذو طابع عنفي، تعسفي، أو صراع بالشكل الذي يريد له البعض كصاموئيل هنتنغتون ومعه صقور الادارات الأمريكية تجاه الحضارة الإسلامية.
أين الحضارة الإسلامية من "التحديثية" الكونية!!!
من المؤسف القول ان الحضارة الاسلامية لم تتمكن من مواكبة مستلزمات التطور الاجتماعي- التكنولوجي-السياسي-الفكري التي دأبت على تنميتها حضارة كالغربية أو الحضارات الاسيوية كاليابان والصين والهند. كما ان الاعتراف بـ " الآخر" يبقى حاجزا يحول دون التعبير عن الرغبة في الاقناع وصولا الى تكافئ الطرح الفقهي، إن صح التعبير، بين طرفي الحوار (خاتمي والأمير الحسن بن طلال يسعون الى مثل هذه التقاربات). كما علينا الاعتراف ان الحضارة الإسلامية تعيش مرحلة من اسوأ مراحل الانغلاق الرؤية والتحجر في الرؤى الفكرية، وان شعوبها تقاسي الأمرين من اجل تحرير الذات من عقالها واغلالها التي احكم قادتها المتخلفون من شدها الى زمن اصبح من الماضي البعيد.
ولكن ورغم علمنا ان الحضارة الغربية هي ذاتها تخبطت في الاصولية ردحا من الزمن واكثر مما ينبغي، وأن تلمس الطريق المؤدية الى التنويرية والتحديثية كلفهم الكثير من التضحية بعد ان ضاعوا في متاهات اللاهوت قرابة ثلاثة قرون، فهي لا زالت، اي الحضارة الغربية، غير قادرة على نسيان المعارك التي خاضوها من اجل تحرير المنطق من عقال التزمت اللاهوتي كما هو الحال بين البروتستانت والكاثوليك.
كان الكاتب السوري هاشم صالح (مقيم في باريس) قد تطرق (في صحيقة الشرق الأوسط على ما اعتقد ) الى العلاقة بين الكاثوليك والبروتستانت، حيث يقول أن بوسيه Bossuet وهو مفكر اصولي كاثوليكي من القرن السابع عشر كان قد خلع المشروعية اللاهوتية على سياسة لويس الرابع عشر الهادفة الى استئصال المذهب البروتستانتي في فرنسا، وكانت حجته ان الاعتقاد المسيحي على طريقة المذهب الكاثوليكي لا يتغير ولا يتبدل على مدار العصور، وانه صالح لكل زمان ومكان، وذلك على العكس من المذهب البروتستاني الذي تغير او تحول او تطور اكثر من مرة، وان في تحوله هذا لدليل على زندقته وهرطقته، وانه من صنع البشر .. هذا في حين ان ثبات المذهب الكاثوليكي على مدار العصور والاجيال لدليل على انه الهي بالكامل، وبالتالي لايمكن المساواة بين ما هو بشري وما هو إلهي، فهل يمكن ان نضع البروتستانت الزنادقة على قدم المساواة مع المؤمنين الحقيقيين، اي الكاثوليك؟ معاذ الله! وهكذا اصدر فتوى سحقهم وقتلهم وطردهم من فرنسا. نعم هذا ما حصل في التاريخ البعيد جدا، ولكن الغرب تمكن منذ تلك الحقبة السوداء الأخذ بناصية العقل والمنطق والعلم، ليسخروا الامكانات المتاحة لجهة التحديث والانتقال بعالمهم من الظلامية الى النور، ومن التخلف الى تنمية وتطوير قدراتهم المادية والبشرية لصالح الحضارة الغربية وحقوق الإنسان الغربي. أما العرب، وتحديدا قادتهم، ومن بيده مقاليد السلطة والقوة والجاه، لم يتحركوا ساكنا فحسب، بل ان العطاء الإنساني (علما وثقافة وحضارة إسلامية) قد تم مسخه وتحريف رسالته حفاظا على السلطة والجاه. تلك الرسالة الربانية الداعية الى التسامح والتعايش واحترام الغير كما تنص عليه السنة النبوية. لقد تم تسخير كل فضائل الانسان الإسلامي لصالح الهيمنة وانتهاك حقوق البشر والقوميات في تطلعاتهم الى قيام دولة تحديثية قادرة على ان تكون ندا في اي حوار او صراع مع الغير. ماذا يمكن للمسلم اليوم من تقديمه للبشرية (البكاء على اطلال الماضي) ، اي نموذج حضاري نحن علية اليوم لنقف على خط واحد مع باقي الحضارات وصولا الى الرقي الذي عليه الغرب!!!.
من حقي كمفكر ان اتساءل بتواضع: كيف سيكون عليه العالم لو قدر للمسلمين، وقد لفهم التخلف على كافة الصعد .. لو قدر ان يكونوا بنفس قوة الغرب، وتحديدا امريكا، كقطب عالمي وحيد – ذو لون اسلامي – من حيث القدرة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية .. هل سننظر الى شعوب العالم وحقهم المشروع في العيش العادل المنصف كما نطالب اليوم الغرب بذلك؟. لست على قناعة من ان عالم الإسلام وفي ظل التخلف الفكري، وفي ظل أنظمة لا تزال تعيش اوهام الماضي التليد، في ظل مفكرين يعتبرون اللاهوت مقدس، وهم اول من دنسوه، مفكرين لا يزالون رهائن حضارة باتت قريبة من الزوال إن اصروا على التبجح بماضي الأمة دون العمل على ديمومة تراثه وعطائه وتحديث اطره بما يتلائم وعصر النهضة العالمية الحالية التي تجاوزتنا بقرون.
لست متشائما بقدر تفاءلي من الغد القادم، فالمفكرون المسلمون قادرون على بلورة مفاهيم لا تحيد عن المضامين او القناعات الإيمانية في التعامل مع الآخر، وستكون هذه المفاهيم على قدر من الموضوعية والواقعية الكونية بالشكل الذي لا يتعارض وحتمية التطور البشري، وسيكون بالإمكان العمل على تغيير اسلوب التعامل مع المتعيرات الدولية لجهة التعددية في الفكر والحكم. أن ما يبشر بالخير هو ان احداث 11 من سبتمبر، رغم تداعياتها اللاإنسانية، قد فتحت آفاق رحبة لتجاوز الماضي من الطرح العقيم المتشبث بـ " الأنا" لفرض ما لا نحن بقادرين على فرضه على الآخر.
ثقافة النقد ونقد الحضارات
ان جدلية موضوعتنا تحتم الأخذ بمنظار نقدي بناء وآخر يتعلق بسلبية الموقف من طروحات ومفاهيم المفكرين في قضايا تمس التحديثية والمسار التطويري للكونية. فهناك من اتخذ موقفا سلفيا من حوار الحضارات وصدامها الغارق في الالتباس بعد الهجمات الارهابية ضد امريكا، وذلك من خلال اشارة يراد بها الكشف عن فداحة الأذى وشمولية التدمير، وعمومية التشويه، الذي لحق بالإسلام، ونال من الشخصية العربية، ومع ما صاحبها من مس في الكرامة، ونيل من الكبرياء العربية، والحط من العطاء الإنساني وقيم الإسلام العظيمة، ورسم صورة المسلم ببالغ القتامة. في المقابل، هناك من يذكر باننا من الأوائل في غزو فضاء الآخر، والدخول معه في حوار تناول المقدس والممنوع، بل المنظومات المعرفية برمتها دون خوف او وجل، وبشكل لا يجرؤ عليه اليوم اكثرنا تحررا وليبرالية، وبوثوقية علمية لا يصدقها ولا يقوى عليها متزمتو هذا العصر من اصحاب العمائم والخطب الجهادية الفارغة.
اين هي إذن هذه العقلية؟ وما سبب هذا الفشل الذريع في الوصول الى عالم متحضر، وهذا الانهيار الكامل للسمعة .. أين مكمن الخلل .. هل اللغة التي خاطبنا بها لغة اموات لا يفهمها أحد غيرنا ؟؟؟.
ان من يتابع ما حدث وما يحدث لا يجد إلا شيئا واحدا وهو ان العالم يتوحد ضدنا ويزداد كرها واشمئزازا كلما واصلنا مخاطبته بهذه اللغة الجامدة، بل العقيمة، ومقارباتنا الرسمية الهشة. تاسيسا على ذلك، علينا ان نتوقف ونكف عن قراءتها وتفسريها (الاحداث) بتلك اللغة الميتة - وهو ما نفعله يوميا- إذ ان هناك انماطا من التغيرات في العلاقات مع الغير والذات والاشياء لم نكتشفها بعد. كما ان هناك اشكال تجديدية للفكر، والتفكير، والعمل للتواصل والتبادل مع الأمم. اننا لمدركون من انه لا يوجد حدثا او ظاهرة اخطر من نشوء الصراعات بين الحضارات والثقافات، وكذاك بين الهويات الاثنية، لكن ما نمارسه من حوار فكري مع الآخر قد يعمق من تداعيات هذ الصراعات وياججها وليس اقله ذلك الادعاء الفج، الذي نردده بإزعاج مستمر وببلاهة متناهية مفادها، انهم ونهضتهم مدينون لحضارتنا من قبل، والتأكيد دائما على "الأنا" و "الآخر"، وهو فرز حاد وكريه للعالم، وتحد صارخ لروح التسامح والتنوع الذي يسوده اليوم.
ان الفطنة تتطلب منا عدم الركون الى مثل هذا الفرز، والابتعاد قدر الإمكان، عن كل ما يعيق الحوار مع "الآخر"، والتخلص من الخطاب السطحي ذي النبرة الوجدانية. ولا يسعني القول إلا التاكيد على ان الغرب كي يفهمنا ويفهم ما نطمح اليه، وما نريد من هذا العالم المتعدد الهويات والاديان والثقافات والحضارات، ان نرمي جانبا ترهلنا الفكري، واهمالنا للروح الابداعية المخنوقة من قبل انظمة قمعية تعسفية (باسم الوطن تارة وفي اخرى باسم الدين) آن لها أن ترحل. كما انه أن الأوان للتخلص من سمات الكسل الذي استحوذ على كل مفاصل حياتنا المعيشية والسلوكية، ورفع كل انواع المشاجب التي نعلق عليها الهموم والعموم. وأن الأوان كي نرتقي الى مستوى المسؤولية والواجباتية التي يتطلبها الصدام السلمي للحضارات كما طرحه فوكوياما وغيره من مفكري الحداثة في العالم. لقد اشار بعض المفكرين الذين التقيتهم عالميا الى ظاهرة لا تزال تحول دون الوصول بالحضارة الإسلامية الى سقف الكونية المرجو تحقيقه.
فالانقسامات القبلية والدينية والعرقية والسياسية والثقافية داخل العالم الإسلامي من الأمور المتسببة في إثارة العنف بين المسلمين. كما ان الحروب بين العرب المسلمين وغيرهم كالغزو العراقي للكويت والحرب جنوب السودان وفي الصومال والمغرب والحروب او الاضطهاد ضد الكورد اينما وجدوا على ارضهم. من جانب أخر نرى ان هناك جماعات أو دول إسلامية كإيران والسعودية تتنافس قيما بينها لدعم نوع الإسلام الذي يريد.
الجدير ذكره في السياق ذاته، أن تركيا الاسلامية قد انسلخت عن العالم الاسلامي لحد الانظمام الى عالم غير اسلامي. فلو كانت هناك حكومة اسلامية او اثنتان تمتلك السطوة والتأثير القوي على العالم الاسلامي ( وهذا ما لم يحدث منذ نهاية الامبراطورية العثمانية) لكان هناك عنفا اقل بين المسلمين، وربما اقل بين المسلمين وغيرهم، ولما زهقت ارواح الملايين عبثا، فضلا عن الهدر بثروات لا تقدر لكبر حجمها.
لقد استعمرنا غيرنا ولا نزال نتحكم بمصير اقوام أخرى، واستعمَرنا الآخرين ... لم يلقي احدٌ علينا اللوم، بل عملوا على تحرير الذات حسب قناعاتهم ومفاهيمهم وادراكهم لحتمية النهوض، وعملوا على تنمية قدراتهم دون اي اعتبار. ان عناصر صدام الحضارات ستبقى جاهزة للحراك، وإذا كانت ردود الفعل تجاه احداث 11 سبتمبر 2001، وكذلك رد الفعل الأمريكي ( افغانستان والعراق) تمت في حدود الخطط والأطر الحضارية الخاضعة للمعايير السلبية الخاصة بالعولمة، فهل نحن على استعداد لاستغلال جوانبها الايجابية وصولا الى عالم التحديث الذي سيجعل المسلم فخورا بدينه وقيمه الإنسانية ... هل سننتظر قرونا اخرى لتعليق القادم من صور التخلف على مشاجب جديدة ؟؟؟

الدكتور خليل شمه كاكه لي ـ مستشار في الخارجية التشيكية

المصدر: صوت العراق، 23/5/2007