توني بلير سيخلده التاريخ بمداد من ذهب
من المفارقات المعروفة في كل زمان ومكان أن الأبطال العظام في التاريخ دائماً تكون شخصياتهم مثيرة للجدل والخلاف، فينشق حولهم الناس إلى فريقين، موال ومحب بشدة، ومعادي
ومبغض بشدة. وكلما كان البطل التاريخي واضحاً ومتشدداً في مواقفه كان الخلاف حوله أشد عنفاً. فهكذا كان الإمام علي بن أبي طالب الذي وصفه الدكتور علي الوردي أنه من أكثر الناس
الذين شقوا المسلمين. لأنه لم يساوم على موقفه من العدالة الاجتماعية وتشدد في تطبيق مبادئ الإسلام كدين يطلب العدل والمساواة بين الناس، بينما رؤساء القبائل وبعض الصحابة أرادوا
منه أن يميِّز بينهم وبين أبناء قبائلهم وعبيدهم في توزيع الغنائم. لذا فكان الإمام علي شريراً في نظر خصومه وبالأخص الخوارج، وقديساً عند أتباعه وخاصة الشيعة.
وهكذا كان الزعيم العراقي عبدالكريم قاسم الذي تمسك بالوطنية العراقية فأراد أن يخلِّص العراق من تخلفه وذلك بتحقيق أكبر قدر من مكتسبات تقدمية ومعاملة أبنا الشعب العراقي المتعدد
الأعراق والأديان والطوائف بالتساوي وبدون أي تمييز عرقي أو ديني أو طائفي، فانقسم حوله الناس إلى ألد أعداء وألد محبين. فالخصوم رأوه شريراً دموياً، بينما رآه الموالون له أنه
أفضل زعيم عرفه العراق الحديث وأنه "كان حمامة سلام في ثوب نسر"، كما ورأى محبوه من الفقراء صورته في القمر!! وهذا هو ديدن البشر في كل زمان ومكان. فالناس لا يكتفون
بإضفاء صفات البشر العادية على أبطالهم، بل أما أن يضعوهم في خانة الأشرار جداً، أو في خانة التأليه والإنسان الأعلى superman في الأساطير.
وهذا ما يجري الآن للسيد توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الذي أعلن في الأسبوع الماضي أنه سيستقيل يوم 27 حزيران/يوينو القادم عن رئاسة الحكومة بعد عشر سنوات في قيادة
السلطة و 13 عاماً في قيادة حزب العمال الحاكم. والرجل كغيره من المصلحين، اختلف الناس حوله، فمن يراه شريراً ومن يراه بطلاً تاريخياً يستحق كل التقدير.
لا أفشي سراً إذا قلت أني من المعجبين جداً بهذا السياسي اللامع الذي ساهم مع الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في إسقاط أبشع نظام دكتاتوري عرفه التاريخ ألا وهو النظام البعثي
الدموي الصدامي في العراق.
لقد تبوأ السيد توني بلير قيادة حزب العمال عام 1994 على أثر وفاة الراحل جون سميث زعيم الحزب المفاجئ بسكتة قلبية. وكان الحزب يتعافى آنذاك من مشاكل مزمنة مثل الانشقاق في
صفوفه والصراعات الفئوية بين جناحيه اليسار واليمين حول سياسات معينة جعلته في حكومة الظل لمدة 18 عاماً. رفضت غالبية الشعب البريطاني حزب العمال طيلة تلك الفترة عقاباً له
على طغيان الاتجاه اليسار الطفولي على سياساته، والإضرابات المتوالية التي شنتها نقابات العمال والتي شلت الحياة في بريطانيا وخاصة في شتاء عام 1979 الجليدي القارص، والذي
يتذركه البريطانيون بـ winter of discontent أي شتاء التذمر في عهد رئيس الوزراء العمالي الراحل جيمس كالاهان. إضافة إلى تمسك هذا اليسار بسياسات ومبادئ قديمة ومتطرفة
في نظر معظم البريطانيين، ولا تلائم تطورات العصر مثل سياسة نزع السلاح النووي من طرف واحد، وهيمنة اتحاد النقابات على قرارات الحزب، والتمسك بالمادة الرابعة من دستور
الحزب والتي كانت تقضي بتأميم المؤسسات الاقتصادية وفق الاشتراكية الماركسية، حيث صارت المؤسسات التي أممها الحزب بعد الحرب العالمية الثانية عبئاً اقتصادياً ثقيلاً على خزانة
الدولة لما سببته من خسائر مادية بدلاً من تحقيق الأرباح...الخ.
وبعد فشل الحزب في الانتخابات البرلمانية عام 1979، تنحى جيمس كالاهان زعيم الحزب ورئيس الوزراء آنذاك عن قيادة الحزب وتم انتخاب الزعيم اليساري المعروف (مايكل فوت)
زعيماً للحزب رغم تقدمه في السن والذي واصل تأييده لليساريين.
فكانت النتيجة كارثة ماحقة على الحزب، حيث أصيب بهزيمة تاريخية مذلة في الانتخابات البرلمانية العامة سنة 1982، مما اضطر مايكل فوت إلى الاستقالة عن زعامة الحزب مدحوراً
مهموماً، ليفسح المجال للجيل الجديد من قادة الحزب حيث تم انتخاب السيد نيل كينوك زعيماً للحزب. وقد تميَّز نيل كنوك بالشجاعة والكفاءة والحيوية والحكمة وفن الخطابة والتواصل
المؤثر مع الجماهير ورغبته في تغيير الحزب وتحويل اتجاهه، من حزب مرفوض من قبل غالبية الناخبين إلى حزب قابل لنيل ثقتهم. إلا إن مشاكل الحزب كانت كثيرة وعميقة ومزمنة لا
يمكن حسمها ومعالجتها في فترة قصيرة وذلك نظراً لثقل اليسار المعارض للإصلاح داخل الحزب. فرغم نجاح نيل كينوك في إجراء بعض التغييرات ولكن هذه التغييرات لم تكن كافية ولم
يكن بمقدوره الذهاب إلى أبعد مما ذهب في غضون ثمان سنوات من زعامته للحزب، لذا فشل في انتخابين متتاليين آخرين إثناء رئاسته للحزب، مما اضطر هو الآخر إلى الاستقالة من
زعامة الحزب، وجاء بعده الراحل جون سميث، وهو سكوتلندي وسياسي بارز وخطيب مفوه ومؤثر، واصل عملية الإصلاح التي بدأها كينوك، ولكنه توفي فجأة بعد عامين من توليه زعامة
الحزب بسكتة قلبية عام 1994، مما فسح المجال للشاب اللامع والمحامي القدير توني بلير لزعامة الحزب والذي حصد ثمار الإصلاح الذي تم على أيدي كينوك وسميث اللذين مهدا له
الطريق.
يتميز توني بلير بالكارزمائية والشجاعة الفائقة والذكاء الخارق وحيوية الشباب النشط وجاذبية نجوم السينما اللامعين، وهو نفسه كان عازف كيتار ومغنياً طويل الشعر مثل الهبيز عندما كان
طالباً جامعياً، وكان يحلم أن يكون نجماً في إحدى فرق الروك أند رول. لقد حصد بلير بين الحظ والكفاءة ثمار جهود كينوك وسميث في تحويل حزب العمال من حزب مرفوض من قبل
أغلبية الناخبين البريطانيين إلى حزب قابل لنيل ثقة هذه الأغلبية لتبوئ السلطة. كان محظوظاً لأن كنوك وسميث قد قطعا شوطاً بعيداً في إصلاح الحزب وتخليصه من هيمنة اليسار
الطفولي والمبادئ التي أكل الدهر عليها وشرب ومهدا له الطريق لقطف الثمار.
كذلك قامت السيدة تاجر بتقليم أظافر اتحاد نقابات العمال (TUC) خلال حكمها، فقلصت من نفوذهم وواجهت إضراباتهم بالشدة غير المسبوقة، كما ونفذت سياسة خصخصة المؤسسات
الاقتصادية الكبرى مثل شركة النفط البريطانية (BP) وشركة التلفونات (BT) وشركة الطيران البريطانية (BA) وغيرها، وحققت نجاحاً باهراً في هذا المجال. ونتيجة لهذه النجاحات أصاب
حزب المحافظين نوع من الغرور بعد نحو عشر سنوات في الحكم عندما أصدرت السيدة تاتشر قانوناً مجحفاً بحق الأغلبية مثل قانون ضريبة السكن الذي كان حسب حجم الدار، فجعلته
السيدة تاتشر حسب عدد الأفراد الساكنين في الدار (pole tax)، مما قلل الضريبة على لأغنياء وضاعفها على الفقراء. وكان هذا القانون هو الذي أدى سقوط السيدة تاتشر وتذمر الشعب
البريطاني من حزب المحافظين، فأرغم المتنفذون في قيادة الحزب السيدة الحديدية على الاستقالة عام 1992، وجاء بعدها السيد جون ميجر الذي استمر في الحكم لست سنوات أخرى.
وعندها مل الشعب البريطاني من حكم المحافظين، فتولدت لديه الرغبة في التغيير بعد 18 عاماً من الحكم بيد حزب واحد، خاصة وإن جون ميجر اتصف بالضعف، حيث وصفه الصخفي
المعروف في البي بي سي أن (جون ميجر لم يترك أي أثر في التاريخ السياسي البريطاني، وإذا أراد ذكره بشيء فسيقول عنه أن (جوميجر هو رئيس الوزراء البريطاني الذي جاء بعد
تاتشر وقبل لير).
لذلك لعبت هذه الظروف في صالح توني بلير، إلا إن الرجل كان مؤهلاً بالفطرة والكفاءة للاستثمار هذه الظروف ليجعل منها فرصة ذهبية لتحقيق المزيد من التغيير والإصلاحات في حزب
العمال فنجح في إلغاء المادة الرابعة المشار إليها أعلاه من دستور الحزب، كذلك ألغى سياسة نزع السلاح النووي من طرف واحد، وغيرها كثير من الإصلاحات التي بدأها نيل كينوك في
الثمانينات. وبذلك فقد نجح بلير في تجديد الحزب وجعله بحق يستحق اسم (حزب العمال الجديد New Labour).
لقد حقق توني بلير فوز الحزب بالسلطة لثلاث دورات برلمانية لحد إعلان استقالته، وهذا نجاح غير مسبوق لحزب العمال منذ تأسيسه عام 1900. كما حقق الكثير من الإنجازات للشعب
البريطاني، فحقق أقوى اقتصاد لأطول مدة لحد الآن، مع أقل نسبة تضخم، كما وأجرى تحسينات كبيرة غير مسبوقة في الخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية، وضاعف عدد طلبة
الجامعات، ووفى بجميع التزاماته ووعوده التي قطعها على نفسه للشعب البريطاني.
وفي السياسة الخارجية، دافع بلير عن الشعوب المضطهدة وخاصة تلك التي واجهت إبادة الجنس، مثل شعوب البلقان، فأقنع الرئيس الأمريكي بيل كلنتون لإنقاذ هذه الشعوب من الإبادة على
يد الفاشية الصربية رغم معارضة الأمم المتحدة والوحدة الأوربية لشن حرب على نظام ميلوسوفيج، وبذلك أنقذ بلير هذه الشعوب. كذلك في تيمور الشرقية حيث أنقذ بلير مع بيل كلنتون هذا
الشعب من الإبادة على يد حكومة سوهارتو. كما وبذل بلير قصارى جهوده مع بيل كلنتون وخلفه بوش في سبيل حل الصراع العربي-الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية ولكن دون جدوى.
كما ونجح بلير في إقناع الدول الصناعية الكبرى في إسقاط الديون عن الدول الأفريقية الفقيرة، والتي تقدر بخمسين مليار دولار... وهكذا ترك بلير بصماته على مجالات كثيرة سواء في
السياسة الداخلية أو الخارجية.
مشكلة بلير بدأت بعد الحرب العراقية وإسقاط نظام المقابر الجماعية. فمن الناحية الإخلاقية، لقد أصر بلير على التزامه بإنقاذ الشعب العراقي من الفاشية البعثية كما أنقذ شعوب البلقان
وتيمور الشرقية من قبل. ولم يكذب بلير حول ملف أسلحة الدمار الشامل كما يدعي البعض. بل هذه هي المعلومات التي وفرتها له الاستخبارات البريطانية والأمريكية. كذلك يجب أن لا
ننسى أن صدام حسين نفسه كان يتباهى بقرب امتلاكه للسلاح النووي وكان يسعى لتحقيق ذلك. وكان صدام يمتلك سلاح الدمار الشامل من نوع آخر مثل الكيمياوي الذي استخدمه ضد
الشعب الكردي في حلبجة، وكذلك في الحرب مع إيران. وغني عن القول، أن سلاح الدمار الشامل لا يعني النووي فقط، بل يشمل الكيمياوي والجرثومي أيضاً.
والكل يعلم أنه خلال الأيام الأولى من سقوط الفاشية كانت غالبية الرأي العام البريطاني والعراقي مع إسقاط الحرب، ولكن بعد أن تكالبت قوى الشر على الشعب العراقي، والمعادية
للديمقراطية في العراق خوفاً على عروشها وأن لا تصل رياح التغيير فتكتسح أنظمتهم الجائرة، حيث راحوا يجندون الإرهابيين وإرسالهم لقتل العراقيين واغتيال الديمقراطية الفتية، وعندما
تصاعد عدد ضحايا القتل الإرهابي في العراق، راحوا يبشرون بفشل الحرب ويلقون اللوم على بلير وبوش مدعين أنهما ارتكبا خطأً كبيراً في إسقاط صدام حسين وكانت الحرب غير
شرعية...الخ.
لم ينتقد أحد بلير وكلينتون على إسقاط نظام ميلوسوفيج رغم عدم حصول قرار مواقة الأمم المتحدة، لأن العملية نجحت ولأن ميلوسوفيج لم يمتلك المليارات من الدولارات لشراء الذمم
والمنظمات اليسارية واليمينية للدفاع عنه وعن نظامه كما عمل صدام حسين وحزب البعث اللذان نهبا ثروات الشعب العراقي والتي تقدر منهوباتهما نحو 60 مليار دولار والتي مازالت
تعمل في إدارة الإرهاب في العراق. وكما قال بلير عن الحرب العراقية خلال زيارته الأخيرة لواشنطن يوم 19/5/2007 "اتخذنا قرارا صعبا للغاية، واعتقدنا حينئذ ومازلت أعتقد أنه كان
القرار الصواب".
اعتقد جازماً أن قرار توني بلير وبوش كان صائباً وسوف يقيِّمه التاريخ لصالحهما. لقد دخل بلير التاريخ من أوسع أبوابه، وسيذكره أنه الزعيم السياسي الشجاع الذي أسقط الطغاة من أمثال
صدام حسين وميلوسوفيج، وناصر الشعوب المغلوبة على أمرها، الرجل الذي قاد حملة واسعة لمساعدة الشعوب الفقيرة بإسقاط ديونها ومحاربة الفقر في العالم. أما التحسينات التي أجراها
على حياة الشعب البريطاني فلا تقدر.
وفي الختام، من الجدير التطرق إلى علاقة بريطانيا بأمريكا. إن العلاقة بين البلدين هي علاقة إستراتيجية مصيرية غير قابلة للمساومة بغض النظر عن أي حزب أو أي شخص يقود
السلطة في كلا البلدين. إنه لمن منتهى السذاجة من يعتقد أن توني بلير كان خاضعاً لجورج دبليو بوش. فهذا التحالف البريطاني- الأمريكي له جذوره في عمق التاريخ منذ استقلال أمريكا
في أواخر القرن الثامن عشر وإلى الآن، وهكذا كانت العلاقة مصيرية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي عهد تشرتشل وعهد تاتشر وعهد توني بلير، وستستمر هذه العلاقة بهذا
التلاحم والتحالف الاستراتيجي إلى أجل غير معلوم. وهذه السياسة ليست في صالح الشعبين الأمريكي والبريطاني فحسب، بل هي في صالح البشرية جمعاء أيضاً. وهذا ليس تطرفا أو
مبالغة مني كما يتصور البعض، بل أذكرهم بما كان سيحصل للبشرية لولا هذا التحالف الإستراتيجي بين أمريكا وبريطانيا، لكان العالم اليوم غابة تحكمها الطغاة من أمثال هتلر وموسوليني
والفاشية اليابانية وصدام حسين.
لقد تقاعد توني بلير وهو في أوج نشاطه وعنفوان عطائه الفكري والسياسي، يمتلك طاقة فكرية هائلة، وهكذا شخص لامع لا بد وأن ينتظره مستقبل رائع وسيخلده التاريخ بمداد من
ذهب.
د.عبدالخالق حسين
19/5/2007