الحرب على الإرهاب... لماذا في العراق؟

مقدمة
منذ سقوط نظام البعث الفاشي على يد قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا في التاسع من نيسان/أبريل 2003 صار العراق ساحة جذب للإرهاب العربي- الإسلامي الخارجي والإرهاب البعثي الداخلي. وفي هذا الوضع الدامي صار الشعب العراقي هو الضحية ليدفع الثمن باهظاً من أرواح أبنائه وممتلكاته ودون إرادته أو اختيار منه. لذا فالسؤال الذي يوجهه العراقيون دائماً وبألم هو، لماذا العراق؟ لماذا يدفع الشعب العراقي هذا الثمن الباهظ في الحرب على الإرهاب العالمي لتتحول بلادهم إلى ساحة قتال بين القوات الدولية بقيادة أمريكا والمنظمات الإرهابية المؤلفة من التحالف البعثي- التكفيري؟

كذلك هناك أسئلة عديدة أخرى يطرحها البعض استلمها من خلال بريدي الإلكتروني، سأذكرها أدناه، محاولاً الرد عليها قدر الإمكان، مع علمي بأن هذا العمل لا يخلو من خطورة تعريضي إلى شتى التهم مثل الدفاع عن أمريكا والصهيونية وغيرها من الاتهامات الجاهزة. كما وأود التوكيد على أن الغرض من محاولتي هذه هو لتفسير ظاهرة ما يجري في العراق وليس لتبريره. ولا يعني هذا أني سأنجح في إقناع الجميع بهذا التفسير، لأن هناك أناساً لا يمكن إقناعهم في جميع الأحوال، كما ولا يعني أني أمتلك الحقيقة الكاملة أو الإجابة الكافية على كل التساؤلات وتعقيدات الوضع.

بادئ ذي بدء، أعتقد أن ما يجري الآن في العراق له امتداد عميق في تاريخ هذا البلد، كما وله علاقة مباشرة بالعقل الجمعي للمجتمع العراقي وثقافته الموروثه وموقع العراق الجغرافي ودول الجوار. كذلك لِما تعرضت إليه مكونات الشعب العراقي من ظلم وجور وقهر واستلاب وإجحاف وصراعات على مر العصور، لذا فقد كان البركان العراقي جاهزاً ينتظر اللحظة المناسبة للانفجار منذ زمن بعيد وقد توفرت هذه الفرصة بعد سقوط النظام الجائر وغياب سلطة قادرة على فرض النظام وحكم القانون.

لماذا صار العراق ساحة للحرب على الإرهاب؟
هناك من يعتقد أن أمريكا قد خططت مسبقاً لتحويل العراق إلى ساحة جذب للإرهابيين في العالم ليسهل عليها اصطيادهم في مكان واحد بدلاً من مطاردتهم في مختلف بقاع العالم.
أعتقد أن سبب مواجهة الإرهاب العالمي في العراق بالذات هو تحصيل حاصل ولم يكن مخططاً له. فالقضية العراقية صارت دولية بسبب السياسات الطائشة التي اتبعها نظام البعث الصدامي الساقط منذ شنه الحرب على إيران، ومن بعدها غزو الكويت واحتلالها واضطهاد شعبها، حيث فرضت الأمم المتحدة الحصار الاقتصادي الدولي على العراق لمدة 13 عاماً. كذلك لما تعرض إليه الشعب العراقي من ظلم وقمع وقهر واستلاب وشراسة نظام البعث، صار من المستحيل إزاحة هذا النظام بدون تدخل خارجي، يعني تدخل القوات الدولية بقيادة الدولة العظمى أمريكا. وهذا ما حصل.
وكلنا نعرف أنه حتى قبل إسقاط النظام، شنت أئمة المساجد الوهابية في السعودية ودول الخليج حملة ضارية ضد تحرير العراق واعتبرته حرباً صليبية- صهيونية على الإسلام. يعني نظام البعث الصدامي هو الإسلام حسب زعمهم. وقد رافقت تلك الحملة الوهابية سلسلة من إصدار فتاوى يدعون فيها الشباب المسلم بالتوجه إلى العراق للجهاد لحماية أخوتهم في الدين والمذهب من "الصليبيين الكفار" والمتعاونين معهم من "الرافضة!"، ولدي عدد من هذه الفتاوى. إضافة إلى عزم إيران وسوريا على إفشال العملية السياسية في العراق وتصميمهما على دعم الإرهاب في العراق لتحقيق هذا الغرض. والنتيجة أن العراق، شئنا أم أبينا، صار ساحة للحرب على الإرهاب العالمي وهو تحصيل حاصل لمجمل الأوضاع في العراق والمنطقة المحيطة به وتعاقب الأحداث منذ سقوط البعث، وليس مخططاً مسبقاً له كما يدعي البعض.

هل الطائفية صناعة أمريكية؟
كما يعتقد البعض أن ما يجري من صراع طائفي في العراق كان مخططاً له مسبقاً أيضاً ومن قبل أمريكا بالذات وذلك لتدمير الشعب العراقي وتفتيته!!
أنا لا أتفق مع هذا الرأي، إذ ليس من مصلحة أمريكا تفجير فتنة طائفية أو عرقية أو أي نوع من أعمال عنف في العراق، بل من مصلحتها أن تنجح في تحقيق مشروعها المعلن وهو دمقرطة منطقة الشرق الأوسط واتخاذ العراق نموذجاً يحتذى به لهذا النجاح، كما حصل في اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية وغيرها. أما ظاهرة السنة والشيعة في العراق فهي قديمة سبقت اكتشاف أمريكا بألف عام. فأمريكا لم تخلق هذا الانقسام الطائفي والعرقي ولا الصراع بين مكونات الشعب العراقي، وإنما العبوات الناسفة لهذا الصراع كانت موجودة في المجتمع العراقي منذ مئات السنين، ولكنها كانت خامدة تنظر من يسحب الزناد لتفجيرها. وفلول البعث والتكفيريين هم الذين سحبوا هذا الزناد وفجروا الصراع. ففلول البعث يجيدون استثمار التناقضات وتعقيدات المجتمع العراقي لصالحهم وتفعيلها وتفجيرها عندما يريدون. والحقيقة الناصعة هي أن الحرب الجارية في العراق هي بين بقايا حزب البعث وحلفائهم الإرهابيين من القاعدة من جهة ضد جميع مكونات الشعب العراقي وحكومته المنتخبة من جهة أخرى، ولكنهم ينفذون جرائمهم هذه تحت غطاء محاربة المحتل و"المتعاونين معهم"، وألبسوا هذا الصراع لبوساً طائفياً كصراع بين السنة والشيعة وهو ليس كذلك. إذ إنهم يقتلون عامة الناس الأبرياء من العمال الفقراء والنساء والأطفال والطلاب في المدارس والجامعات وأماكن تجمع الفقراء الكسبة وينشرون القتل العشوائي في كل ربوع البلاد ولم يسلم منهم السني ولا الشيعي أو أي كان دينه ومذهبه إلى أن بلغ القتل العشوائي في المحافظات السنية، بل وحتى بين عصابات الإرهابيين أنفسهم، وهذا ما توقعناه من قبل.

كذلك استفاد البعثيون من الوضع الدولي المعقد وبعض الجهات المعادية للإدارة الأمريكية مثل إصرار إيران وسوريا على إفشال العملية السياسية في العراق ومحاربة أمريكا في العراق وبدماء وأرواح شعبه وذلك بالتحالف مع فلول البعث ومنظمة القاعدة لإفشال هذا المشروع الحضاري الحيوي الإنساني، لكي يقولوا لشعوبهم أن الديمقراطية الأمريكية تعني الخراب والدمار.
ومع الأسف الشديد نجحت سياساتهم هذه في جر حتى بعض المثقفين الليبراليين في ترديد هذا القول، فبدلاً من إلقاء اللوم على الإرهابيين في المحنة العراقية راحوا يلقونها على أمريكا والديمقراطية واتهام الشعب العراقي بأنه جاهل وغير مستعد للديمقراطية ولا يستحقها ولا يصلح له نظام غير نظام القبضة الحديدية مثل نظام صدام حسين، واتخذوا هذه الحالة ذريعة لشتم الدول التي حررت العراق من أبشع نظام فاشي عرفه التاريخ بدلاً من إلقاء اللوم على الإرهابيين.

تهميش دور القوى العلمانية الديمقراطية والليبرالية
كذلك نسمع ونقرأ أن أمريكا هي التي أبعدت القوى العلمانية الديمقراطية والليبرالية عن الحكم ونصبت الأحزاب الدينية الطائفية في السلطة وتبنت نظام المحاصصة الطائفية عمداً وقصداً من أجل إشعال الفتنة الطائفية بين مكونات الشعب العراقي ...الخ.
الحقائق على الأرض تفند هذه الادعاءات. إذ لا يعقل أن أمريكا وخاصة بعد زوال الخطر الشيوعي وانتهاء الحرب الباردة وفي ظروف تفشي الإرهاب الإسلامي، فضلت الأحزاب الإسلامية على القوى الديمقراطية العلمانية والليبرالية. أما سبب تصاعد المد الإسلامي وانحسار التيار العلماني الديمقراطي في العراق يعود إلى ظروف موضوعية لها علاقة بمظالم نظام البعث الساقط، حيث لم يجد الشعب العراقي أي حل آخر لمحنته سوى التوجه إلى الله والدين والقوى الغيبية للتخلص من النظام الجائر. وقد استغلت الأحزاب الدينية السياسية هذه المشاعر الطاغية لدى الجماهير المغلوبة على أمرها للكسب السياسي. وهذه الحالة لا تقتصر على الشعب العراقي، بل هي عامة متفشية في جميع البلدان العربية والإسلامية مثل الجزائر ومصر والسعودية وغيرها.
وقد بلغ المد الإسلامي من الخطورة إلى حد أن صار معظم الديمقراطيين العرب يدعون إلى تأجيل الديمقراطية والانتخابات النزيهة لتجنب فوز الأحزاب الإسلامية واستحواذها على السلطة. وقد جئنا على هذا الموضوع بالتفصيل في مقال من ثلاث حلقات بعنوان (خوف الديمقراطيين من الديمقراطية).
في الحقيقة إن فوز الأحزاب الدينية وفشل الأحزاب العلمانية الديمقراطية في العراق لدليل على نزاهة تلك الانتخابات وليس العكس. وهذه مفارقة لأن سبب نزاهة هذه الانتخابات هو وجود الاحتلال. فالتاريخ يعلمنا أن جميع الانتخابات التي جرت في البلاد العربية في ظل الاحتلال كانت نزيهة ونتائجها على الضد من رغبة القوى المحتلة. بينما الانتخابات التي كانت تجرى في ظل الحكومات الوطنية والثورجية تزيَّف نتائجها وتعطي دائماً 99.99% لصالح مرشحي السلطة. وإلا فهل من مصلحة إسرائيل المحتلة أن تفوز حماس التي تراهن على إزالة دولة إسرائيل؟ وهل من مصلحة أمريكا أن تفوز قائمة مقتدى الصدر الذي أعلن العداء لأمريكا ويحاربها من اليوم الأول من سقوط صدام؟
وعليه نعتقد أن المرحلة التي يمر بها العراق هي مرحلة الأحزاب الإسلامية وهي مرحلة مؤقتة سوف تزول قريباً عندما تستنفد شروط بقائها ويعود الوعي المغيّب إلى الجماهير، وليست صناعة أمريكية.

أمريكا متعمدة في عدم القضاء على الإرهاب
كما ويعتقد البعض بأن بإمكان أمريكا إلقاء القبض على الإرهابيين في العراق وسحقهم بسرعة وبسهولة، بل وبغمضة عين!! وذلك لما تتمتع به أمريكا من خبرة وإمكانيات هائلة في القوة العسكرية والعلمية والاقتصادية والتكنولوجية وغيرها، ولكنها تتعمد في ترك الإرهابيين يعيثون بأمن البلاد لإطالة فترة الصراع مع الإرهاب على الأرض العراقية، ومن أجل تدمير الشعب العراقي وإيجاد المعاذير لبقاء الاحتلال لفترة أطول...الخ. ويضرب أحد الأخوة مثلاً في هذا الصدد بالسعودية التي تمكنت قواتها الأمنية في الآونة الأخيرة من إلقاء القبض على 172 مشتبهاً بالانتماء إلى تنظيم القاعدة، فلماذا لا تستطيع أمريكا وإمكانياتها الهائلة أن تعمل الشيء ذاته في العراق؟ وعليه يسأل الأخ، هل السعودية أكثر تقدماً وخبرة من أمريكا؟

أعتقد من الخطأ مقارنة الإرهاب في العراق بما يجري في المملكة العربية السعودية أو أي بلد عربي آخر، لأن هناك أوجه اختلافات عديدة. أولاً، حجم الإرهاب في العراق المدعم من دول الجوار وخاصة إيران وسوريا بل وحتى السعودية نفسها. إذ هناك الألوف من الإرهابيين يتدفقون على العراق من هذه البلدان، إضافة إلى فلول البعث الساقط الذين نهبوا أموال الشعب والذخيرة العسكرية ويمتلكون خبرة 35 عاماً في ممارسة الإجرام والإرهاب ضد الشعب. ثانيا، صحيح أن المملكة العربية السعودية تحارب الإرهاب في بلادها إلا إنها تشجعه وتدعمه بالمال والفتوى في العراق. وقد جئنا على هذا الموضوع في مقال لنا بعنوان: (دور السعودية في دعم الإرهاب والتطرف والتخلف)، كذلك البحث القيم الذي قدمه الشيخ الأزهري الدكتور أحمد صبحي منصور بعنوان: (جذور الإرهاب في العقيدة الوهابية) جدير بالقراءة (الرابط أدناه).
ثالثاً، صحيح أن أمريكا تمتلك أقوى الجيوش وتتمتع بأكبر قدرات علمية وتكنولوجية في مواجهة الجيوش، ولكن هذا في الحرب الكلاسيكية، بدليل أنها استطاعت إسقاط النظام البعثي رغم جيشه العرمرم خلال ثلاثة أسابيع فقط، ولكن الحرب على الإرهاب تختلف كلياً إذ أنها حرب شوارع والأمريكان يحاربون عدواً غير منظور، فيمكن أن يصافحك الإرهابي بيد دون أن تعرفه ثم يفجر نفسه باليد الأخرى. رابعاً، الجندي الأمريكي يحارب في بلاد غريبة عليه لغة أهلها وثقافتها وفي جو مشحون بالعداء ضده، بينما القوات والمخابرات السعودية تحارب الإرهاب على أرضها وتعرف كل شيء عن العدو. خامساً والأهم، أن تنظيمات الإرهابيين في السعودية هي صناعة سعودية، إذ ولدت من أحشاء المخابرات السعودية نفسها أيام "الجهاد" ضد الاحتلال السوفيتي والنظام الشيوعي في أفغانستان فيعرفون كل شيء عنها. سادساً وأخيراً، فحتى نجاح الأجهزة السعودية في إلقاء القبض على 172 من أخطر الإرهابيين مؤخراً، وكما أفادت التقارير، يعود الفضل فيه إلى المخابرات الأمريكية التي سربت لها معلومات حصلت عليها من الشخص الثالث في الأهمية بعد أسامة بن لادن في منظمة القاعدة وهو عبدالهادي العراقي الذي نجحت أمريكا في إلقاء القبض عليه على الحدود الأفغانية الإيرانية قبل عام وهو في طريقه إلى العراق.
وبناءً على ما تقدم، فلا يمكن مقارنة الإرهاب في السعودية بما يجري في العراق والتقليل من دور القوات الأمريكية والعراقية في مواجهة هذا الإرهاب.

أخطاء أمريكا
نعم الأمريكان ارتكبوا أخطاءً كبيرة وقد اعترفوا بها وجئنا على ذكر البعض منها في مناسبات سابقة. ومن هذه الأخطاء، أن أمريكا استعجلت في تطبيق الديمقراطية بعد سقوط النظام الفاشي مباشرة ودون مقدمات وممهدات مثل بناء الدولة القوية ومنظمات المجتمع المدني. لذا نعتقد مع غيرنا، أن أمريكا تعجلت في إجراء الانتخابات التشريعية، و إصدار الدستور الدئم، وتركت المجال للنهب والفرهود في الأيام الأولى من سقوط النظام... الخ. بل كان من المهم جداً البدء ببناء الدولة ومؤسساتها ومنظمات المجتمع المدني إلى أن تستقر الأمور ومن ثم البدء بتطبيق الديمقراطية وإجراء الانتخابات وكتابة الدستور. ولكن هذا لا يعني أن نلقي بكل غسيلنا وجميع مشاكلنا على شماعة أمريكا وغيرها والتمسك بنظرية المؤامرة ونترك فلول البعث والإرهابيين ومن يدعمهم بالمال والسلاح والإعلام والفتوى وكأن هذه من الأمور المفيدة نضفي عليها صفة المقاومة الشريفة.

الخلاصة والاستنتاج
ومن كل ما تقدم، نرى أن ما يجري في العراق هو عبارة عن حلقة في سلسلة من الكوارث، كل كارثة تلد كارثة أخرى، أشبه بسلسلة التفاعلات الكيميائية والانفلاق الذري chain reactions، بدأت بمظالم النظام البعثي الذي زرع الفتنة بين مكونات الشعب العراقي وحكمها بالقوة الغاشمة، وسياساته الطائشة أدت إلى تدويل القضية العراقية وبالتالي إسقاطه الحتمي على يد القوات الدولية بقيادة أمريكا، ومعارضة دول الجوار، وليس الشعب العراقي للديمقراطية في العراق، وإرسالهم للإرهابيين إلى العراق أدى إلى هذا الوضع المتأزم.. وهكذا.
ولكن في نهاية المطاف ومهما بلغت تضحيات الشعب العراقي فلا بد لهذا الشعب أن ينتصر وينهض شامخاً من محنته، وأن أعداء العراق هم الخاسرون.

د. عبدالخالق حسين
6/5/2007

ـــــــــــــ

مقالات ذات علاقة بالموضوع:
1-الدكتور أحمد صبحي منصور: ِِشجرة -الاخوان المسلمين- زرعها السعوديون فى مصر فى عهد عبد العزيز آل سعود.
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=42552

2- خوف الديمقراطيين من الديمقراطية (2)
http://www.sotaliraq.com/abdulkhaliqhussein.php?id=391

3- دور السعودية في دعم الإرهاب والتطرف والتخلف
http://www.sotaliraq.com/abdulkhaliqhussein.php?id=395