وزارة المهجرين والمهاجرين وقاعدة (لاارى ولا اسمع ولا اتكلم)

تعد مشكلة التهجير من ابرز واعقد المشكلات الموروثة والمستحدثة، وقد كلفت مسار التطور التاريخي والمجتمعي والموضوعي الشيء الكثير على مفترق طرق التشرذم المجتمعي وضياع الخصوصية المانحة لوهج الخصب والحياة في دولة العراق منذ ظهورها السياسي على المسرح الدولي عام 1921 وحتى سقوط الدكتاتورية عام 2003 كحقبة رئيسة مؤسسة حيث لعبت الدولة دور الراعي والمخطط والمنفذ ثم الفترات الملاحقة التي نعيشها والتي بدأت من 2003 كحقبة لاحقة بفعل موجات الاحتقان الطائفي وما يتعرض له العراق من اجندة محلية واقليمية هادفة الى زعزعة امنه واستقراره بغية تعطيل دوره ومشروعه الديمقراطي الناهض، ومشكلة كبيرة بهذا التاريخ الضارب في عمق الدولة من جهة ومخلفاتها على صعيد البنية المجتمعية بوصفها اسفينا يدق في صرح المجتمع ومكوناته واطيافه من جهة أخرى لابد ان تحتاج الى استيعاب تاريخي عميق ورصين كيما تتم معالجة هذه المشكلات بروح وطنية بناءة وبما يشكل التمهيد لازالتها من الحياة العراقية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا اولا ثم الأسهام في بناء البنية المجتمعية عبر اقرار الحقوق للمتضررين وبما يساعد في اعادة اللحمة الاجتماعية ومعالجة الجروح الناشئة ما يستلزم معها وجود برنامج وطني مخلص تناط مهمة تنفيذه بسلطة تنفيذية وهي فكرة تأسيس حقيبة وزارية بعنوان (وزارة المهجرين والمهاجرين) والتي لم نلمس منها عبر هذه السنوات الاربع اي نشاط في هذا الاتجاه سوى الاهتمام بالاحداث المستجدة وبقدر البعد الانساني والوطني الذي يحمله مثل هذا العمل، الا ان اغفال جوهر المشكلة الرئيسة يعطي انطباعا بان الوزارة قد صنفت مسبقا نوعية القضايا التي تتعامل معها وهو ما ينافي اسس النظرة الوطنية الشاملة.فالوزارة معنية بشؤون كل العراقيين بماضيهم وحاضرهم، وانبثاقها لم يتم على اساس الظروف الحالية الطارئة وانما على اساس تاريخ طويل من الانتهاكات والمآسي التي لحقت بالعراقيين من كل الاطياف كان للكورد حصة الاسد فيها حيث هم المبتدأ والمنتهى، ان تجاهل حقائق الواقع الموضوعي يشكل غيابا لمنطق الرؤية الوطنية وهو ما يستوجب على الوزارة تداركه، ان القاء نظرة تاريخية عابرة على اصل ونشوء وتطور هذه المشكلة ينفعنا في سبر اغوار هذه المشكلة ويمدنا بآليات الحل الناجع عسى ان تكون ايضا منطلقا لنظرة جديدة ازاء مئات الالوف من المهجرين الذين يشكل تهجيرهم وترحيلهم قسرا وصمة عار، اخلاقيا وسياسيا في جبين السلطات المتعاقبة التي اقرت هذه السياسات ومنحتها الفعالية ومدتها بقوة البطش والانتهاك.
احتلت سياسة التهجير ركنا اساسيا من سياسات النخب الحاكمة في العراق بالشكل الذي لم يخل منه برنامج عمل اية حكومة عراقية وقد استخدمت ضد الكورد بهدف تغيير التكوين القومي السكاني لصالح الفئة الحاكمة وانطلاقا من اهداف ترقين الوجود القومي للشعب الكوردي، فقد مرت هذه السياسة بمراحل مختلفة حيث كانت تقطع في كل مرحلة شوطا وتتنامى متصاعدة بنسب مئوية مبرمجة ومخططة ظهرت الى الوجود بعد حل مشكلة الموصل التي انعطفت من خلالها السياسة الحكومية الى التقليل من الوجود الكوردي في العراق بشتى الوسائل لعدها اقلية غير مهمة من خلال اخراج جماعات بشرية وقبلية كوردية فضلا عن سياسات التهجير الهادفة الى تقليص المساحات التي يوجد عليها الكورد بهدف تطويقهم وصهرهم، كما استهدف فئات من المجتمع الكوردستاني مثلما سنوضح لاحقا، اول الغيث كان القانون المرقم (42) لسنة 1924 والذي شرع للاستيلاء على بوابات كوردستان الجنوبية عبر الشريط الحدودي في مدن خانقين ومندلي وبدرة وتوابعها فضلا عن الكورد القاطنين في بغداد والذين كانوا يشكلون نسبة مؤثرة في العاصمة، فقد اعتبر القانون المذكور العديد منهم من اصول اجنبية بالاستناد الى ذلك القانون من منطلقات سياسية ليس ادل عليها من اناطة موضوع الجنسية حكما وتنفيذا الى وزير الداخلية بدلا من القضاء برغم معرفة النخب الحاكمة لاشكاليات وملابسات الواقع العراقي وذلك مما مهد الى القيام بتهجير الكورد الى خارج العراق بموجات متعاقبة على شماعة القانون المذكور حيث جرت محاولات التسفير في سنوات 1941،1963،1970، 1979،1980 هجر من خلالها مئات الالوف من الكورد الفيليين وقد بلغ اعداد المهجرين عام 1980 وحسب احصائيات المنظمات الدولية وحدها حوالي نصف مليون كوردي باعتبارهم من تبعيات ايرانية في حين انهم سكان شرق دجلة الاصليون منذ قدم التاريخ وتعد اراضيهم جزءاً من اقليم كوردستان حتى العهود المتأخرة وتأكيد حقيقة استهداف القاطنين في كوردستان بالجريمة التي ارتكبت في اب عام 1933 على خلفية مظاهر قلق ابدوها لعدم اعتبارهم عراقيين رغم حوزتهم على وثائق عثمانية، ومع بدء العمل في حقل بابا كركر في كركوك بدأ اتجاه جديد في سياسات التهجير تمثل في القيام بسلسلة جديدة من التهجيرات المقترنة بالزحف والاستيطان عبر سياسات التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي التي شملت الشريط الممتد من سنجار مروراً بكركوك وخانقين وانتهاء بمندلي وبدرة وتوابعها، ومثلما جرى التهجير عبر الضغط والاكراه والقوانين التعسفية للمناطق الجنوبية من اقليم كوردستان ومحاولة سلخها من الاقليم، جرى الابعاد والنفي لمئات الالاف من الكورد في عمليات تهجير داخلية وخارجية وفي سيناريوهات متشابهة عبر خلق ازمات اقتصادية ومعيشية وفرض تغيير القومية، ومن اجل تكوين فكرة عن حجم الدمار الذي لحق بالكورد من جراء هذه السياسة نقول: جرى في كركوك تدمير اكثر من (823) قرية حتى عام 1988 موزعة على مناطق متعددة بموازاة عملية الاستيطان والزحف التي ابتدأت مع مشروع ري حويجة وتكشف عمليات الاحصاء السكاني عن الانخفاض الملحوظ للسكان الكورد وكانها مقاربة للسلطات لتقييم برامج التهجير التي تمارسها، ففي الاحصاء السكاني الذي اجراه البريطانيون عام 1919 بلغت نسبة الكورد 65% من مجمل مجموع سكان المحافظة فيما كانت نسبة التركمان 19% والعرب 18% اما تقديرات عصبة الامم المشكلة لحل مشكلة الموصل فقد اشارت الى ان نسبة الكورد 45% والعرب 32% والترك 23% ومع تصاعد عمليات التغيير الديموغرافي في منتصف القرن المنصرم، كشفت احصائية عام 1957 ان مجموع نسبة الكورد في المحافظة (كركوك) هي 48% والعرب 40% والترك 28% وقد رافقت عمليات التهجير والتعريب اللاحقة ممارسات التغيير الديمغرافي للمدينة باوسع الصور وفيما كانت الممارسات السابقة تركن جزءاً في القرار والعمق، ظهرت جليا هذه المرة حيث جزأت اوصالها عبر الحاق اربعة من اهم اقضيتها الى محافظات اخرى حيث تم الحاق قضائي كلار وجمجمال بمحافظة السليمانية وكفري بمحافظة ديالى وطوزخورماتو بمحافظة صلاح الدين وانخفض عدد الوحدات الادارية من (23) وحدة ادارية الى (11) وحدة. وانخفض معها عدد سكان الكورد الى النصف من تلك الاعداد الواردة في الاحصائيات فيما استعيض عن تلك الاقضية بأخرى جديدة وحلت اسماء احياء جديدة مثل (حي المثنى، حي الشهداء، الاندلس، البعث، غرناطة العروبة، الوحدة، الحرية، دور الامن) محل اسماء الاحياء الكوردية المهجرة وفي الوقت الذي شهدت المحافظة نموا كبيرا لصالح العرب شهدت انخفاضا كبيراً في نمو الكورد والتركمان فيما تعرض الكورد الى تدمير مجمعاتهم السكانية كما اصدر النظام البائد قراراً يمنع فيه المواطنين حق التملك في كركوك، وبلغت اعداد القرى المرحلة بين عامي 1969-1988 (218) قرية تمثل 11694 عائلة كوردية تمثل 37% من مجموع القرى المرحلة في المحافظة فيما كانت اعداد الاسر الكوردية المرحلة من التون كوبري وحدها وحتى عام 1988 (4305) عائلة وهذا غيض من فيض وفي المدن الاخرى حسبنا ان نذكر الجداول الاحصائية الرسمية كيما تتضح الصورة، ففي مدينة السعدية قزلرباط اشارت الاحصائيات السكانية الى مايأتي(جدول رقم 1).
اما فيما يخص مدينة مندلي فالجدول الاحصائي الرسمي يبين مدى الخراب الحاصل والتغييرات السكانية الحادة حيث ذكرت:
الفترة نسب التغيير
1947-1957 0.7
1957-1970 0.6
1970-1987 0.1
1987-1997 0.5
وقد تعرضت مدينة مندلي الى ابشع حالة تهجير وعلى اوسع نطاق عام 1975 على خلفية نكسة الحركة الكوردية حيث هجرت عشرات الالاف منهم وبخاصة عشيرة قره لوس التي تعد واحدة من اكبر العشائر الكوردية في المنطقة الى مناطق بلدروز وبعقوبة وبغداد مجردين حتى من ممتلكاتهم. وفي بدرة وتوابعها (زرباطية وجصان) جرى ذات المسلسل المخزي بتهجير الكورد الى مناطق متفرقة عبر الضغط بالعوامل السياسية والاقتصادية ومشكلات المياه، فيما كان الكورد يمثلون نسبة كبيرة في محافظة واسط التي قال عنها المؤرخ الحسني في سفره التاريخي (انها خليط من العرب والاعاجم) في اشارة الى الكورد الفيليين فيما اورد لونكريك حول نسب الكورد في المحافظة ما يأتي: (ان سكان مناطق بدرة وزرباطية وجصان وشيخ سعد هم في غالبيتهم من الكورد اللر.)
فيما اشارت السالنامة العثمانية الى ان مدينة الكوت كانت تابعة الى بدرة.
وعندما نتابع هذه الاحصائيات التي عملت فيها ايدي السلطات والتي برغم التزوير الحاصل فيها تكشف عمق النظرة العنصرية ومبلغ سياسات الصهر وعندما نستجمع اعداد المهجرين الكورد نجد ان اعدادهم هم فقط يفوق المليون ونصف المليون، ترى اليس لهؤلاء الكورد المظلومين من حق على الوزارة كي تضعهم في اجندة وزاراتها؟ وليكن في معلومها ان الكثير من قرارات اعادة الملكية وبخاصة الاراضي الزراعية في كركوك وديالى مازالت معرقلة بفعل تعليمات وزارة الزراعة. لا ادري لماذا لا تعقد الوزارة مؤتمرات حول العديد من المدن التي تعرضت الى تهجير جماعي بالكامل تطرح فيها هذه المشكلات ليتم تدارسها ووضع اليات تساعد على تطبيق المادة (140) من الدستور انطلاقاً من المصالح الوطنية وتنفيذا للدستور الراعي والمنظم في العراق الاتحادي الجديد. ان اجندة الوزارة ما تزال غائبة عن الساحة فالوضع الجديد الناشئ تكمن خلفه تضحيات الشعب العراقي بعربه وكورده وطوائفه اقيم مؤخرا عدد من المؤتمرات حول مدن خانقين ومندلي وبدرة، نأمل من الوزارة ان تلعب الدور المطلوب وان تتوغل في عمق المشكلات الوطنية ومشكلات الكورد الفيليين.

احمد ناصر الفيلي
كاتب وصحفي عراقي

المصدر: التآخي، 5/4/2007