لماذا تفشل مؤتمرات التقارب بين الأديان والمذاهب؟

نشر عدد من الكتاب الأفاضل في الأيام القليلة الماضية مقالات تبحث عن فشل مؤتمرات التقارب بين الأديان والمذاهب. وكان آخر هذه المؤتمرات هو مؤتمر الدوحة للحوار بين المذاهب الإسلامية. وكالعادة، بدلاً من أن يحقق هذا المؤتمر الهدف المنشود، انتهى بالفشل الذريع.
لم يكن مؤتمر الدوحة هو الأول من نوعه بطبيعة الحال، وبالتأكيد لن يكون الأخير. فأول مؤتمر عقد للتقريب بين السنة والشيعة كان في مدينة النجف الأشرف في العراق في العهد العثماني وبدعوة من نادر شاه، شاه إيران، عام 1743. ودعي لهذا المؤتمر من الفريقين، رجال دين متفقهين في المذاهب الإسلامية وعلومها وتاريخها، والأخطر من ذلك أن كل هؤلاء كانوا متمرسين في فن الخطابة والبلاغة والسجال، وهدف كل منهم إلحاق الهزيمة بالخصم، وتوظيف المناسبة للمباراة الخطابية، فهم متخندقون ضد بعضهم البعض حتى وقبل افتتاح المؤتمر.
وهذا ما جعل تحقيق التقارب أكثر صعوبة. فراح ممثل كل فريق يتبارى بضراوة ليثبت صحة مذهبه وأن الآخر على ضلال مبين. وغني عن القول، هكذا مؤتمر محكوم عليه بالفشل مسبقاً وغالباً ما ينتهي والفرقاء أشد فرقة وأكثر غيظاً وحقداً على بعضهم البعض.
وذات الشيء يمكن قوله في حالة عقد مؤتمرات التقارب بين الأديان السماوية الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية. وقد عقد أحدها في الدوحة أيضاً قبل سنوات وانتهى بالفشل كما كان متوقعاً!

المشكلة الكبرى هي أن المؤتمرين والمنظمين لهذه المؤتمرات لم يكلفوا أنفسهم للبحث عن سبب فشل مؤتمراتهم السابقة لكي يستفيدوا من تجاربهم وأخطائهم، والغرض الواقعي الممكن تحقيقه من هذه اللقاءات. فمعظم هؤلاء يعتقدون أن الغرض من هذه المؤتمرات هو البحث عن الحق والباطل أو عن الخلافات فيما بينها من أجل إزالتها بالجدل. فكل واحد منهم يعتقد أن الحق إلى جانبه، وبما إن الإنسان يميل إلى الحق بالفطرة إذا ما عرفه وبمجرد مجادلته وإبداء البراهين العقلية والنقلية له ليثبت للمقابل صحة دينه ومذهبه، وبذلك يكونوا قد نجحوا في تحقيق وحدة الأديان والمذاهب أو التقارب بينها على الأقل، وذلك بإقناع الطرف الآخر. وهذا هو الخطأ الأكبر الذي يقع فيه المتدينون والمتمذهبون.

نسي هؤلاء أن الاختلاف بين الأديان والمذاهب مسألة طبيعية وحتمية ويجب قبولها والتعايش معها. فالدين أو أي مذهب مثل الشجرة، كلما مر عليها الزمن برزت لها فروع جديدة. وهذه الظاهرة ليست خاصة بالأديان وحدها، بل نجدها حتى في الفلسفات والمذاهب الفكرية والآيديولوجيات الشمولية الأخرى مثل الاشتراكية والفاشية والنازية وغيرها. الاختلاف ليس ناتجاً عن أن هذا الدين أو المذهب على صواب أو خطأ، لأن الدين يختلف كلياً عن العلم. فمسألة الإيمان بالمعتقدات الدينية والمذهبية هي متوارثة من الأجيال السابقة ولا علاقة لها بالأدلة المادية أو المتافيزيقية، لأن هذا النوع من الأدلة يخص العلوم الطبيعية والأمور الدنيوية. فمعظم المتدينين لم يقوموا بدراسة جميع الأديان والمذاهب بعد أن بلغوا سن الرشد ليختاروا واحداً من بينها وحسب قناعاتهم، بل اعتنقوا أديانهم ومذاهبهم من العائلة منذ نعومة أظفارهم حسب الموروث الاجتماعي، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم: «إنا وجدنا آباءنا على ملة وإنا على آثارهم مقتدون».
لذلك فالمتديِّن على يقين تام من صحة معتقده، ومن الصعوبة أن يغير موقفه الديني والمذهبي بالجدل البيزنطي. فكل طرف عنده ما يكفي من الأدلة النقلية والعقلية تثبت له صحة موقفه وتكفير الآخر. أما العالِم فيشك وعلى أهبة الاستعداد أن يغيِّر موقفه في أية لحظة وإزاء أية مسألة علمية إذا ما ظهر دليل على خطأ نظرية كان يؤمن بها فيتخلى عنها ويتبنى النظرية المسندة بأدلة أقوى.

نعم، إن تعدد الأديان والمذاهب مسألة طبيعية فكما تقول الآية الكريمة: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون» (المائدة: 48.) كما ويقول في آية أخرى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" (هود / 118).

ما العمل لإنجاح هذه المؤتمرات؟
من أجل أن تنجح هذه المؤتمرات وتأتي ثمارها الطيبة في المستقبل وتساهم في دفع مجتمعاتها للعيش بسلام يجب أن تلتزم بما يلي:
1- يجب أن يعرف المؤتمرون أن الغرض من لقاءاتهم ليس توحيد الأديان أو المذاهب ولا لإزالة الفوارق والخلافات الفقهية فيما بينها، ولا حتى التقارب بينها، فهذه الخلافات مسألة طبيعية ولا يمكن إزالتها.
2- كما ويجب تجنب التطرق إلى الخلافات الدينية والمذهبية، لأن القصد هنا ليس البحث عن أي دين أو مذهب على حق أو باطل، على خطأ أو صواب، فكل حزب بما لديهم فرحون.
3- والأهم من كل ذلك هو الاعتراف بحق الاختلاف، أي أن يوافق المؤتمرون على تعايش أصحاب الأديان والمذاهب المختلفة بسلام رغم اختلافاتهم العقدية، أي أن يحترم الإنسان حق أخيه الإنسان في الاختلاف في الرأي والدين والمذهب والسياسة والمأكل والملبس والذوق، وليس لأية جهة الحق في الادعاء باحتكار الحقيقة وفرض معتقده على الآخر بالقسر. فالحقيقة مثل الهرم، لها عدة وجوه، والشخص الذي يرى وجهاً واحداً للهرم يجب أن لا ينكر وجود الوجوه الأخرى لأنه لن يراها. وعليه فليس من حق أي إنسان محاسبة إنسان آخر على دينه، أو التدخل في شؤونه الدينية، فهذا الأمر متروك إلى الله وحده ليوم الحساب.
4- يجب على رجال الدين والسياسة تطبيق مبدأ (الدين لله والوطن للجميع) و(ترك ما لله لله وما لقيصر لقيصر) وهذا يعني فصل الدين عن السياسة، وعدم السماح لرجال الدين بالتدخل في السياسة. فكما قال نبي محمد (ص): "أنتم أعرف بأمور دنياكم."
5- يجب أن يعرف رجال الدين والمؤتمرون أن التعصب الديني والمذهبي قاد أبناء مجتمعاتهم إلى كوارث، وأن المجتمعات الغربية لم تحقق هذا التقدم المذهل في جميع مجالات الحياة إلا بعد أن تحررت من حكم الكنيسة ونجحت في فصل الدين عن الدولة. وعليه فطالما بقيت المجتمعات العربية والإسلامية تخلط بين الدين والدولة والسياسة، فستبقى متخلفة تجر أذيال الخيبة والفشل وتتنقل من كارثة إلى كارثة.
6- أن تعترف هذه المؤتمرات بحقوق الإنسان وبالأخص بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل في كافة الحقوق الإنسانية ونبذ التمييز بمختلف أشكاله، وفق المواثيق الدولية، والتأكيد على حقوق المواطنة الكاملة بين أبناء الشعب الواحد.
7- الكثير من النصوص الدينية الإسلامية تحتاج إلى قراءة جديدة وتفسير جديد لتتلاءم مع متطلبات العصر الحديث، والتخلي عن آيات العنف (السيف) والتي نزلت وفق سياقها التاريخي قبل 1400 عام، ولا يمكن تطبيقها على واقع عصرنا الحاضر.
8- محاسبة أي رجل دين أو زعيم جماعة إسلاموية يقوم بتكفير أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى والتحريض ضدهم، واعتبار هذا العمل جريمة يحاسب عليها بقانون. فمسألة الإيمان أو عدمه، واختيار الدين أو المذهب هي مسألة شخصية ليس من حق أي جهة التدخل فيها، والاعتراف بحق الإنسان في الإيمان بأي دين أو عدمه وهو حق مشروع أقره له القرآن الكريم: « ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.» (يونس99) كما وجاء في آية أخرى: «وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشرَكوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيهِم حَفيظاً وَما أنتَ عَلَيهِم بِوَكيل.» (الانعام107). وعلى هذا الأساس فليس من حق أي إنسان أن ينصب نفسه وكيلاً على شؤوني الدينية.
9- العمل على تغيير مناهج التعليم والتربية في المدارس من الروضة إلى الجامعة لتتماشى مع روح العصر، وتبني روح التسامح والتعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد على أساس المواطنة الكاملة دون تمييز، وإقرار التعايش مع العالم بسلام.
10- العمل على تحديث الخطاب الديني وفق برنامج وضعه المصلح التونسي الأستاذ العفيف الأخضر، راجع (العفيف الأخضر كيف نصالح الإسلام مع العالم؟ ).

هذه هي الوصايا العشر، أقدمها لمن يهمهم الأمر فيما لو أرادوا أن تنجح مؤتمراتهم القادمة وتعيش مجتمعاتهم بسلام مع الذات ومع العالم.

د. عبدالخالق حسين
1/2/2007