في ذكرى مرور عام على رحيل الأديب سـمير نقاش ..عندما قبلتني السـت فاطمة

أقبلت علينا الست فاطمة مدرّسة التاريخ والطبيعة في مدرسـة السعدون الابتدائية النموذجية وهي تبتسم لأول مرة منذ مصرع الملك غازي (1939) وأخبرتنا نحن تلامذة السنة الثانية بأن على جميع طلاب المدرسة المشاركة غدا باحتفال المدارس العراقية بعيد ميلاد الملك المفدى فيصل الثاني في بارك السعدون (المنتزه الواسع الذي أقامته أمانة العاصمة تقليدا لهايد بارك في لندن) الذي يقع قرب مدرستنا. سرتْ الفرحة الطاغية بعد الحزن الغامر الذي عمنا منذ أن صعقنا نبأ مصرع الملك غازي المفاجئ وخروجنا في مواكب العزاء التي قادها طلاب اكبر سـنا منا جاءوا من مدارس أخرى. كنا نخرج من المدرسة وفي مقدمتنا أكبرنا سـنا عبد الرحمن الجابي وأخوه طالب، وينضم إلينا كل من إياد ابن الدكتور علي غالب وفيصل إبن رشيد عالي الكيلاني وابنا فاضل الجمالي وأبناء عائلة الأزري وصادق ابن محمد مهدي كبة ولؤي القاضي وغيرهم من أبناء كبار رجالات العراق الذين درسوا معي في هذه المدرسة النموذجية، وكنا نخرج من المدرسة ونحن نردد وراء الطلاب الكبار الهتافات ونلطم على صدورنا على وقع الشعارات:
الله أكبر يا عرب غازي انفكد من داره واهتزت أركان السما من صدمة السيارة
ثم ننتقل إلى الهتاف التالي الذي آلمنا جميعا أكثر من غيره:
مات غازي واشتفتْ به العدا فيصل الثاني الله يسـاعده
فهذا البيت خاصة كان يذكرنا بيتم المليك الطفل وبمصرع والده وقد اتهم الشعب العراقي أعداء الملك غازي الشاب الحكومة البريطانية خاصة بتدبير مصرعه، ثم أدركنا فيما بعد أن "العدا" هم الأنكليز والآثوريون الذين نكل بهم الملك غازي أثناء غياب والده في أوربا بسبب مطالباهم القومية لكي يظهر بمظهر الملك الشاب الحازم المتحمس وليثبت للشعب العراقي وللشعوب العربية رجولته وبطولته، (ثم جاء حزب البعث فيما بعد وادعى إن سبب مصرعه كانت أمور أخرى عاطفية لا يصدقها العقل).
كان الملك الطفل اليتيم فيصل الثاني محور عطفنا وشفقتنا نحن الصغار، لأنه تيتم في سـن تقارب سننا الذي نخشـى فيه من فراق الوالدين، لذلك غمرتنا الفرحة العارمة عندما أخبرتنا الست فاطمة باحتفال العراق بعيد ميلاد المليك المفدى في الغد في بارك السعدون وأن على جميع الطلاب والطالبات المشاركة في الاحتفال. فرحنا لأننا وجدناها فرصة سانحة لتفريج كربنا بعد الحزن الذي عمّ العراق خلال أسابيع طويلة.
صادف يوم الاحتفال أحد الأعياد اليهودية، وقال لي صديقي ابن وزير المعارف هامسا: "نيّالكم، أنتو الله يحبكم وانطاكم هوايا (الكثير) أعياد". وهرعت مع أطفال شارعنا قرب صلاة مئير طويق في البتاويين الى المشاركة في الاحتفال. كان بارك السعدون القريب من دارنا مزينا بالأعلام العراقية والموسيقى تصدح وفرق الرقص الشعبي تقوم بعروضها والخطباء يخطبون بحماس معزين العائلة المالكة والشعب العراقي على فقيد العراق ومتفائلين بالمليك الطفل، والمغنون منتشرون في كل مكان من هذا البارك الجديد الذي يضم مساحات واسعة من بساط "الثيّل" (العشب) الأخضر اليانع، والزهور والنباتات الغريبة الألوان والأشكال رسم بواسطها البستانيون عبارات الترحيب: "صباح الخير" و"اهلا وسهلا"، إلى جانب الأشجار المشذبة على شكل حيوانات مختلفة. وكان في وسط البارك عمود منتصب كالصاري، طويل أملس التف حوله أساتذة وطلاب من مدارس مختلفة وتدلى من رأس العمود حبل طويل أمسك بطرفه أحد الأساتذة أما الطرف الثاني فكان يمرّ على بكرة وهو مربوط إلى إطار حديدي علقت عليه أكياس السكاكر و"الحامض حلو" من مصنوعات أوربا وهي مغلفة بالورق الشفاف الملون البراق. أقبل بعض الطلاب والطالبات يجربون حظهم ويحاولون تسلق العمود. كان مدير مدرسة التفيض هو المسئول عن هذه اللعبة، وكان يقرب الأكياس من رأس الطالبات حتى قبل أن يتسلقن العمود ليمكنهن من نزع الأكياس بسهولة، أما إذا تسلق أحد الطلاب فكان يقرب الأكياس من رأسه وإذا مدّ يده أسرع المدير إلى سحب الأكياس بسرعة إلى الأعلى مسافة قصيرة من رأسه المتسلق ليواصل محاولاته. استهزأت بطريقة الطلاب في التسلق فقد كنت مع إياد علي غالب من هواة تسلق الأشجار والأعمدة في حديقة بيته الواسعة. تقدّمتٌ إلى المدير وقلت له بعد أن أخفق بعض الطلبة في التسلق: "أريد أصعد!". نظر إليّ المدير باستخفاف لصغر سني وقال لي بتحدٍ: "يلا اصعد، دنشوف شطارتك!". فتحمس إخوتي وأصدقائي وصاروا يصيحون: "أي سامي اصعد! أبدالك اصعد، لا تخاف!". كشف هذا التشجيع عن هويتي، وما أن وضعت يديّ على العمود حتى همس أحد الأساتذة للمدير: "أستاذ! دير بالك ترا هذا حسـقيل!". وما أن سمع المدير كلمة "حسـقيل" حتى اكفهر وجهه وكأن أفعى نهشـته، وسحب الحبل بسرعة إليه وإذا بالأكياس الملونة تحلق طائرة نحو السماء بسرعة مذهلة. ندت من الطلاب والمتفرجين صيحات دهشـة واستنكار، تشوبها ضحكات تشفي واستهزاء، وابتسم المدير ابتسامة صفراء، فخورا بفعلته المثبطة للعزيمة، كأنه يقول: "يلا اصعد! هسّـا أنشوف حسقيل شيسوي!". أغضبني هذا التحدي السافر وزادني إصرارا على مواصلة الصعود رغم الارتفاع الشاهق للعمود ورغم المسافة الشاسعة بيني وبين الأكياس اللامعة التي بدت كأنها تشارك المدير بسمته الساخرة. تعالت أصوات الجموع المحتشـدة وأنا أواصل التسلق بإصرار "إي! ولك عفيا، أصعد بعد يا سبع، اصعد ... أصعد ...!!". بلغت منتصف العمود، وتوقفت عندما بدأ العمود يترنح يمنة ويسرة، وندت صيحة خيبة أمل من المتفرجين،، ثم ساد صمت عميق. قلت للمدير: "العمود صار يميل، أخاف يوكع". بادر ثلاثة من المعلمين إلى الإمساك بالعمود ودعمه، وقالوا لي: "لا تخاف! إحنا لازمينا". وعندما تأكدت من ثباته واصلت التسلق بسرعة وتعالت الأصوات المحرضة مرة أخرى بحماس أشدّ: "إي عفيا سبع، إصعد، إصعد..."، وانضمّ الجميع كجوقة موسيقية تردد: "ولك على الأصفر... ولك على الأحمر...ولك على الأخضر...!!" وأنا أواصل الصعود وبدت الأكياس الصفراء والحمراء والخضراء والزرقاء هذه المرة ضاحكة متهللة لاقترابي منها، حين بلغتْ القمة وتوقفتْ وهي تلامس شعر رأسي، وأخذ كل واحد من المتفرجين المتحمسين يطالب بإنزال الكيس ذي اللون المفضل لديه. توقفت قليلا لألتقط أنفاسي، وتعالت الأصوات مرة أخرى مشجعة ومرددة: "على الأحمر ... على الأصفر... على ... على..."، أمسكت فجأة بالكيس الأحمر بغضب وقطعت الخيط المعلق به... تعالت أصوات الاستحسان من الذين فضلوا الكيس الأحمر، وتعالى التصفيق والهتاف من كل جانب: "والله بطل... والله سبع...". وفجأة، قربت الكيس من أسناني بغضب بالغ ومزقته وألقيت بمحتوياته على رأس المدير والمعلمين وانزلقت بسرعة إلى الأرض. كان بعض المعلمين يلتقط السكاكر المغلفة بورق شفاف لامع ويجمعها في كفيه ثم يدسها في جيوبي ... وربّتَ أحدهم على خدي قائلا بإعجاب: "والله سبع... والله بطل...". انقض عليّ مدير مدرسة التفيّض بغضب وسألني بتحدٍ: "ولك ليش شكيت الجيس؟" (ويلك، لماذا مزقت الكيس؟) فأجبته بفخر وكبرياء وشماتة: "آني ما طلعت على العمود خاطر الجيس، آني طلعت على شرف المدرسـة!!!". بهتَ المدير من جوابي المفحم وقال لرفاقه: "أشو هذا طلع أيهودي إبن أيهودي". أحاط بي الأصدقاء طالبين حصتهم وأتعاب تشجيعهم وتصفيقهم... وزعت السكاكر عليهم وهم يهللون لهذا النصر لمدرستهم، وعافت نفسي من تناول واحدة منها لأشاركهم بفرحة بالنصر. سار الأقارب والأصدقاء محيطين بي بفخر واعتزاز وهم يقولون لمعارفنا الذين يمرون بنا في الطريق إلى دارنا: "سامي صعد على العمود وشـقوا الكيس وأغمانو على غاس المدير" (سامي تسلق العمود ومزّق الكيس ورماه على رأس المدير). ولما سمع والدي بالقصة قال والقلق باد على وجهه: "كل المعلمين ساغوا نازيين، الله الستار!" (كل المدرسين أصبحوا نازيين، والعياذ بالله). فقالت والدتي: "أبيل وأغماد على هيكذ مدير! قيتغالب ويا ولد يطلع مقد أبن أبنو!"! (الويل والثبور لمثل هذا المدير، يتنافس مع طفل في سن حفيده)". فردّ عليها الوالد: "مقد تفتهمين! قيغيد أيقلو أنتا أيهودي، انت ما عراقي، ما منّـنا، وانتي قتخفين على سامي! ليش سامي يتعبّا بالجيب؟!" (ألا تفهمين! يريد أن يقول له أنت يهودي، أنت لست عراقيا، لست منّا. وأنت تخشين على سامي! هل هو ممن لا يعبأ به؟".
دخلت المدرسة في اليوم التالي وكأن شيئا لم يحدث البارحة. فإذا بالطالبة بثينة الكيلاني تقول للست فاطمة: "سـت فاطمة، سـت فاطمة! البارحة سامي طلع على العمود وشك الجيس باسنانه، ولما سأله المدير، ليش؟ كلّه: "آني ما اصعدِتْ على مود الجيس والحامض حلو، آني اصعدت على شرف مدرسة السعدون..." ابتسمت السـت فاطمة ابتسامة عرضة ولمع السن الذهبي بين شفتيها ببريق خلاب، وربّتت على رأسي ثم قبلتني من خدي وقالت لي بفخر واعتزاز: "عفيا سامي! والله أنت سبع وراح يصير براسك خير، عندك مستقبل". عند ذاك فقط أدركت بأني قمت بعمل يستحقّ الإعجاب، وإلا لما قبلتني مدرّستي المفضلة الجميلة.
وفي عام 1999 عندما قرأ عريف حفل توزيع جائزة إسرائيل قرار لجنة التحكيم التي رشحتني لنيل الجائزة عن أبحاثي في الأدب العربي ودعاني إلى منصة الرئاسة حيث وقف على أقدامهم رئيس الدولة آنذاك السيد عيزر وايزمان، ورئيس الحكومة السيد بينامين نتنياهو ووزير التربية والتعليم السيد أسحق ليفي، ورئيس العاصمة السيد إيهود أولمرت، وغيرهم من كبار رجالات الدولة، اعترضتْ طريقي إلى المنصة الست فاطمة وقبلتني مرة أخري وقالت لي: "سامي! آني ما كلتلك أنت راح يصير براسك خير؟!". قلت لها: "ولله تمام، لكن بالله كوليلي صدكْ مِنْ سِمع الرئيس صدام حسين انو يهود العراق تقدموا هنا وصار منهم رئيس أركان الجيش ورئيس الكنيست ووزراء وأساتذة جامعات وأطباء وعلماء وكتاب وشعراء مشهورين، كال:
وليش لا! مو هاي هيّ العبقرية العراقية؟"، ضحكت الست فاطمة وأجابت: والله هيج يكولون، لكن يكولون همين (أيضًا): من راحوا اليهود من العراق، راح الخير ويّاهم؟"، قلت لها مواسيا:
"كل ما يقوم به يهود العراق وما يقدمونه من خير إلى إسرائيل ينسب إلى العراقيين، فنحن هنا ما زلنا نُسمّى عراقيين، شايفه شلون؟ إسمعي!!".
وواصل العريف: "ولد البروفيسور ... في العراق ... ودرس في مدارس العراق ... ونشر أشعاره في جرائد العراق ... وقدم إلى البلاد عام 1951 مع الهجرة الجماهيرية من العراق ...
ونشر المقالات والكتب العديدة عن الأدب العربي وعن يهود العراق ... عراق ... عراق ... عراق... " أطل السياب بوجهه النحيل الحزين وقال: "من الأفضل أن يقرؤوا قصيدتي " غريب على الخليج" فهي تعبر خير تعبير عن موقفكم يا يهود العراق، وذلك عندما قلت:
الريح تصرخ بي: عراق!
والموج يعول بي: عراق! عراق، ليس سوى عراق!
والبحر أوسع ما يكون، وأنت أبعد ما تكون
"والموت" دونك يا عراق..."
فانطلق حمزة الحسن من عزلته في "أورستا" النرويج وقال لي: "أرانا الآن يا شاؤل، غرقنا في وحل واحد. لكنك أفضل حالا، أنت في وطن وأنا في منفى. هل تقبل بهذه المقايضة؟". قلت لحمزة بإشفاق: "كل واحد منا يؤمن بكتبه السماوية، فمتى نؤمن بالإخاء الإنساني أيضا!".
وعند مصافحتي لرؤساء الدولة المهنئين نظرت إلى وجوههم لأعرف هل سمعوا حواري مع "الأعداء"؟ وهل يعلمون سبب نظراتي الساهمة؟؟؟
قالت لي الأديبة سميرة المانع بعد أن انتهى الحفل: "نحن المسلمين العراقيين، سوف لا نعود إلى العراق إلا بعد أن يعود إليها اليهود لنرى كيف ستعاملهم الحكومة العراقية!". أجبتها بأسف: "
أما نحن يهود العراق، فما زلنا أكثر من خمسة وخمسين عاما نتمنى أن تهتم الحكومات العراقية بالشعب العراقي المسكين وأن يسود السلام والإخاء بين أفراد الشعب العراقي وبين العراق وجاراتـها، قائلين: "لعل السلام يسود قريـبا ونزور العراق مرة واحدة في العمر لنتذكر أيام الطفولة الرائعة، فشربة مااء من أنهارها العذبة ستعيد لنا شبابنا الراحل!". دمعتْ عينا سميرة وهي تودعني واختفت معها الجموع المحتفية وهي تقول: "ترى! هل ستجود الأيام وتحقق الأحلام؟!!".

أ.د. شـموئيل موريه
أورشليم – القدس، 1 نوفمبر، 2005
* جميع الأسماء التي وردت في هذه الذكريات هي أسماء حقيقية. آمل أن يقرأ أصدقائي العراقيون ما كتبته عنهم وعن أيام زمان.

المصدر: صوت العراق، 18/1/2007