من وصايا الماوردي للسلطان العربي

ولد الفقيه السياسي أبو الحسن علي بن محمد البصري البغدادي الشهير بالماوردي في البصرة عام 974م . ونشأ فيها يسقي طلاب العلم ماء الورد، كما كان يفعل والده، ومن هنا جاء لقبه بالماوردي. تولى وظيفة قاضي القضاة في نيسابور، وذاعت شهرته، ولُقب بأقضى القضاة، وكان أول من لُقب بذلك في تاريخ الإسلام. والماوردي، يُعدُّ من أوائل من اهتموا بعلم السياسة، وأصول الحكم الديني. وكان معاصراً لخليفتين من أطول الخلفاء بقاءً في الحكم، وهما: الخليفة العباسي القادر بالله (991-1031م) ومن بعده ابنه القائم بأمر الله (1031-1075م). وهما الخليفتان اللذان كانا تحت سيطرة بني بويه، ووصل الضعف في عهدهما حداً كبيراً، حتى إنه خُطب في عهد القائم بأمر الله، للخليفة المستنصر بالله الفاطمي على منابر بغداد. فيما عُرف عهد المستنصر بالله بعهد المجاعة الفظيعة، حيث بلغ ثمن الرغيف في مصر 15 ديناراً، وأكل الناس الكلاب والقطط النافقة. ومات في مصر عشرة آلاف شخص. والخليفة الفاطمي المستنصر بالله، هو الذي أجبر الخليفة العباسي القائم بأمر الله، على توقيع وثيقة مُذلّة تقول: "لا حق لبني العباس في الخلافة مع وجود بني فاطمة الزهراء".

كان الماوردي قريباً من هذهالحياة السياسية في عصره، فقام بكتابة العديد من المؤلفات السياسية النادرة مثل: (الأحكام السلطانية والولايات الدينية)، و(قانون الوزارة وسياسة الملك)، و(أدب الدنيا والدين)، (نصيحة الملوك)، وغيرها.
ولنتخيّل الماوردي هنا، وقد عاش في هذا الزمن العربي الرديء، كالعصر الذي عاش فيه أصلاً، قبل ألف عام تقريباً، حيث تحوّل الإبداع إلى اتباع، والدراية إلى رواية. فتعالت في ذلك العصر وفي عصرنا الحديث، سلطة المحدّثين والنص المنقول على حساب النص المعقول. فأُحرِقت كتب المعتزلة، والفلاسفة، وكتب الفرق المخالفة. ووضعت آراء المعارضة في ذلك الوقت، خارج العقيدة القويمة، التي أعاد تأسيسها أبو الحسن الأشعري، ومن أتى بعده من أئمة المتكلمين، وبخاصة بعد صدور" المنشور القادري"، الذي أصدره الخليفة القادر بالله ، واعتُبر هو الفكر الديني الوحيد للمسلمين، وأن من خالفه فقد فسق وكفر(الكامل، لابن الأثير مجلد 7، ص219). وسادت القراءة الحرفية الجامدة للنصوص. ومنذ أن أعلن الخليفة القادر بالله في جوامع بغداد، بأن من يقول بأطروحات المعتزلة فدمه حلال، لم تقم للقراءة العقلانية قائمة في أرض الإسلام. وتم في ذلك العهد وفي عصرنا الحديث قتل المعتزلة وغيرهم من المعارضين، ونفيهم، ولعنهم على المنابر، وتشريدهم من ديارهم (حسن ابراهيم، تاريخ الإسلام السياسي، ج3، ص 98‏). وهذا ما حدث ويحدث الآن بالفعل في العالم العربي، كدليل على عصر الانحطاط، حيث شُنق سيد قطب في مصر، وقُتل المفكران الطليعيان حسين مروة ومهدي عامل في لبنان، واغتيل فرج فودة في مصر، وتم شنق محمود طه في السودان في عهد النميري وحسن الترابي، وتم الاعتداء على نجيب محفوظ، وتشرّد نصر حامد أبو زيد من مصر، وتمَّ حرق ومنع مئات الكتب، في مختلف أنحاء العالم العربي.

فبماذا يمكن للماوردي الذي سكت عن كل هذه الأمور في عصره قبل ألف عام، ولم يكتب عنها، ولم يكشف عن الاستبداد والطغيان في عصره، وعاد - كأحد فقهاء السلطان - ليجد العرب اليوم على ما هم عليه، أن ينصح السلطان العربي الحالي، ويوصيه أن يفعل، في شأن كشأن الدستور مثلاً؟

ربما - وانطلاقاً من موقفه السلبي في ذلك العصر، ومجاراته للسلاطين، سينصح الماوردي السلطان العربي الذي هو امتداد طبيعي للخليفة العباسي، بما يجب أن يفعل في شأن الدستور مثلاً. ويذم - ربما - المعارضة التي سيُطلق عليها "المرتزلة" - على وزن "المعتزلة" - أي "المرتذلة"، أو المرذولة. وهي المعارضة التي سمَّاها عبد الناصر "أذناب الاستعمار"، و "عملاء السفارات". وسمَّاها أنور السادات طبقة "الأراذل" أو "الأفنديات"، وسمَّتها أنظمة البعث السلطانية "المرتزقة"، و "الخونة"، و "الطابور الخامس". وهي تعني الطبقة المرذولة الملعونة من قبل السلطة، كما كانت المعتزلة الطبقة المعارضة الملعونة المرذولة، من قبل بعض خلفاء بني أمية والعباس:

-1-
مولاي:
هناك يا مولاي، مواد في الدستور - إن وُجِدَت - عليكم أن تتمسكوا بها، وتصرَّوا على إدراجها في الدستور الدائم. وإذا طالبت الأحزاب السياسية يوماً بتعديل الدستور، فيمكن أن يُستجاب لطلبها، شريطة أن لا يتمَّ تبديل أو تعديل هذه المواد والتي أبرزها، أن السلطان لا يتنحّى ولا يُنحّى، ولا تنتهي ولايته إلا بموته. فهو دائماً من القصر إلى القبر. وهو رأس الدولة. وهو مصون من كل تبعة، وكل مسؤولية، أو حساب، أو عقاب.

وقد تهزأ "المرتزلة" من هذا المادة الدستورية، فتقول: كيف يكون السلطان رأس الدولة، وفي الوقت نفسه مصون من كل تبعة ومسؤولية. وفي الدول الديمقراطية، السلطان مسؤول عن كل صغيرة وكبيرة، ويحاسب عليها، فلا مسؤولية دون حساب؟ وسوف تذكرُكم "المرتزلة" بقول الرسول عليه السلام: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته". كما ستُذكركم بمسؤولية السلطان في قول عمر بن الخطاب: "والله لو ضاعت عنـزة في إحدى شعاب العراق، لكان عمر مسؤولاً عنها أمام الله". وغيرها من الأقوال.

وردكم علي كـل ذلك يا مولاي، هو أن لنا ظروفنا التاريخية الآن، التي تختلف عن ظروف السلف الصالح. فمشاغل السلطان أكثر مما كانت عليه أيام السلف الصالح. ولم يعد السلطان يُعنى بعنـزة ضاعت في شعاب العراق، أو في وديانه.

ولا تستمعوا يا مولاي، إلى قول "المرتزلة"، بأنه لا يحق للسلطان أن يفضَّ مجلساً جاءت به الرعية. وقولهم ما جاءت به الرعية، تذهب به الرعية، وتفضَّه الرعية. فتلك من مبادئ الديمقراطية الغربية المستوردة، الغريبة عنا وعن تقاليدنا، وتراثنا المقدس.

-2-
مولاي:
على الدستور أن ينُصَّ يا مولاي، على مادة مهمة، وهي أن لا نفاذ للقوانين التي تقرها المجالس المنتخبة أو المجالس المعيّنة إلا بأمر وتوقيع وتصديق السلطان. فلا قانون رسمياً ينفذ إلا بإرادتكم. ومن هنا، فإن هذه المجالس سوف تحسب حساباً لهذا، وتختبر حرارة المياه وعمقها، قبل أن تُقرَّ القوانين التي من شأنها أن تمسَّ العهد، أو صاحبه، أو ورثته المحتملين، وإن كانت هذه القوانين في مصلحة الوطن.

فالسلطان فوق الوطن. والشعار السامي المرفوع دائماً هو (الله، السلطان، الوطن). فكل قانون في مصلحة الوطن وضد مصلحة العهد وصاحبه، هو بالتالي ضد الوطن.

فالعهد هو الوطن. والوطن هو صاحب العهد. والعهد والوطن كالجسد والروح لا ينفصلان.

-3-
مولاي:
لا شك يا مولاي، بأنكم من المؤمنين بأنه "كما تكونوا يولّى عليكم". وأنكم معشر السلاطين ثمرة، تأتون منّا نحن الشعب الشجرة. وأنكم منَّا وإلينا كما تقولون دائماً، أعزكم الله. لذا، فإن كل ما يقال عن تغيير الدستور، والمجيء بدستور عصري جديد، كما تطالب "المرتزلة"، يجب أن يردّ عليه بسؤال:

لماذا التغيير، ونحن لم نتغير؟

فكيف يمكن أن يتم التغيير في مجتمع متوقف عن التغيير، بل هو يعود إلى الوراء في وعيه السياسي والاجتماعي والثقافي؟ والدليل يا مولاي، أن نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية، التي تُعلن في العالم العربي من حين لآخر، في هذا الوقت، لم تكن موجودة بهذا الكذب والمغالاة والتزوير والفساد في الماضي القريب. وأن قوى "المرتزلة" في الماضي القريب، كانت على وعي، ومن القوة أكثر بكثير من "المرتزلة" الهشة - إن وُجِدَت- الآن.

-4-
مولاي:
إذا كانت دولتكم يا مولاي، من الدول التي لا تتخذ من القرآن الكريم دستوراً مباشراً لها، وإنما تتخذ لها دستوراً موضوعاً طال عليه الزمن، وأصبح بحاجة إلى تعديل في بعض مواده، وكنتم أنتم الكارهون لهذا التعديل، الضائقون به، غير الراغبين فيه، لأنه يضرُّ بكم وبمصالحكم، فاجعلوا كُتَّابكم وصحافييكم يا مولاي، يدرأون أي تفكير لتعديل الدستور الذي يحتاج تعديله إلى وقت طويل، خاصة إذا أرادت "المرتزلة" تعديله بما يتلائم، وحلول الألفية الثالثة.

فتعديل الدستور يا مولاي، عملية صعبة بمكان. مثلُها مثل تعديل حال الأمة. فإن لم يتم تعديل حال الأمة، فلا تعديل سليماً في الدستور. كما يتطلب هذا التعديل – لو حصل – دراسة تاريخ بلدكم من قبل المختصين، ودراسة أحوال العالم العربي والإسلامي من حولكم، وأحـوال العالم الآخر الغربي والشرقي أيضاً، والاطلاع على التجارب السابقة، وتقويم التقدم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي في بلدكم لكي يصير التعديل - لو حصل - على ضوء كل هذه المعطيات المهمة.

أما أن يجيء تعديل الدستور - وهو من النصوص المقدسة لديكم - بجرة قلم، وبين ليلة وضحاها، كما تريد "المرتزلة"، وكمـا تسعى إليه، فهذا من شأنه أن يُعرِّض العروش والقروش والجيوش لشتى الأخطار، ومصائب الأمصار.

فلماذا تريد "المرتزلة" أن تُغير وتبُدل الدستور، وهي تعلـم علم اليقين، بأن سرَّ الاستقرار في الاستمرار، وأن التغيير مطلبٌ شرير؟

أنا أعلم يا مولاي، بأن "المرتزلة" سوف تردُّ غداً على هذا بقولها، أن هذه حجة يسوقها أصحاب العهد دائماً، حتى لا يعدلوا الدساتير التي تأتي الانقلابات العسكرية فتدوسها بالبساطير. وأن أصحاب العهد، عندما يكون لهم مصلحة في وضع دستور جديد، يجنّدون طاقات القوى القانونية والقضائية لوضع دستور جديد بأسرع وقت ممكن. فعبد الناصر، وضع دستوراً للجمهورية العربية المتحدة في خلال شهر واحد فقط . فقد تم إعلان الوحدة المصرية – السورية في 1/2/1958 وتم وضع الدستور في 5/3/1958. والهاشميون، وضعوا دستور "الاتحاد العربي" خلال شهر أيضاً. فقد تم إعلان الاتحاد في 14/2/1958 وتم وضع الدستور في 19/3/1958. كما أن الثورة المصرية من 1952-1958، وضعت أربعة دساتير جديدة خلال ست سنوات.

السلام عليكم.
د. شاكر النابلسي

المصدر: الاخبار، 7/1/2007