الازدواجية العربية وعقوبة الإعدام

ذكرني إعدام المجرم صدام بالكثير من العراقيين وغير العراقيين من أهلنا واحبابنا، الذين اعدموا في زمن الطاغية في سجون واقبية بلا محاكمات وبلا أي جرم ارتكبوه، واول من تذكرته منهم هو أخي الشهيد حيدر، الذي استشهد على يد جلاوزة النظام بعد الانتفاضة عام 1991، أخي الشاب الذي كان مقبلا على الزواج ولم يتم فرحه حيث استشهد مواجها الظلم وضاعت جثته كآلاف من ضحايا صدام الذين لا قبر لهم في أرض العراق الفسيحة، ولصدام جثة وقبر وزوار وكم اخشى أن يصبح قبر هذا المجرم في المستقبل مزارا للوهم العربي القادم.
تذكرت الذين قطع نظام صدام ايديهم، وفقأ أعينهم، وصلم اذانهم، وجدع انوفهم بحجة وبغير حجة، وبالخطأ احيانا وضمن فورة حب القتل، اعدم العشرات وهم ابرياء واطفال لاذنب لهم في شيء.
ان تذكري جرائم الطاغية ليس من باب التشفي باعدامه، فلايستطيع الإنسان السوي أن يفرح بموت انسان مهما كان، كما أن صداما لم يترك لنا ما نفرح به بعد، وقد دُمر العراق بسببه ولايزال ي¯ُدمر بتأثير سياسته الرعناء، فماعاد موته أو عدمه مهما، لكن الأهم هو ايقاف الموت اليومي في شوارع وساحات العراق.
كمدافعة عن حقوق الانسان لا أحب الإعدام كعقوبة وأحترم دعوات الاخوة المطالبين بالغاء عقوبة الاعدام بل وانا من دعاة الغاء هذه العقوبة من القوانين، لكن الاجدر بجميع المدافعين عن حقوق الانسان في العالم العربي، ان يناضلوا من أجل احقاق العدالة ليرتقي الانسان إلى فهم معنى الحرية، وعدم التعدي على حقوق الاخرين حتى لايكون هناك الالوف أو المئات من أبناء هذا المجتمع جلادين وذباحين وقاطعي رؤوس ومغتصبي نساء واطفال، عندها يكون المجتمع مؤهلا لالغاء هذه العقوبة.
ان الوضع الاستثنائي للمجتمع العراقي والموت اليومي الذي يحدث لابد وان يكون له عقوبات تتناسب مع الفعل الجرمي للقضاء على ترويع المجتمع وتحطيم كل قيمه قبل كل شيء.
ولا أريد هنا أن اناقش الحجج التي تدعم مبدأ الغاء عقوبة الاعدام او الابقاء عليها، كما انني اضم صوتي للمطالبين بالغاء عقوبة الاعدام في بعض الدول العربية الآمنة كتونس والمغرب وغيرها لكنني اناقش ازدواجية الرأي العام العربي الذي يندد بشدة بعقوبة الاعدام بصدام حصرا،مع ان كل قوانين الدول العربية تنص على هذه العقوبة وتطبقها باستمرار على المجرمين كما على السياسيين والابرياء من اصحاب الراي والصحفيين والمثقفين وحتى العلماء ان لم يتفقوا مع ما يريده اي نظام عربي، كما انها تطبقها من دون محاكمة واحيانا بالاغتيال والغدر واحيانا بالمفخخات والحرائق وباساليب شتى والنتيجة هو اعدام، لكن باساليب والوان مختلفة تؤكد عدوانية القائم بها اكثر مما لو كانت بعد محاكمة ودفاع وشهود.
وأتساءل :أين المنظمات الانسانية العالمية والعربية عندما كنا نحن اهل العراق نعاني من 35 مادة تنص على عقوبة الاعدام في قوانين العراق القرقوشية زمن صدام وهو اكثر قانون يضم مواد اعدام بالعالم، رغم ان المجتمع كان آمنا ولم ينتشر فيه العنف والقتل اليومي الا على ايدي جلادي البعث في السجون واقبية المخابرات، والتي ذهب بها خيرة ابناء العراق، من حملة الشهادات والمفكرين واصحاب الرأي حتى كاد العراق ان يخلو منهم وقد اثرت ابادته وتهجيره لعشرات الالاف من الاساتذة والمربين الى تراجع مروع للثقافة والتعليم في العراق وادى الى عودة الامية التي كادت ان تنتهي في سبعينات القرن الماضي لولا صدام الذي اعادها من جديد بالهائه الشعب بالحروب والمشاكل والقهر والركض وراء سد الرمق؟
كان نظام صدام لا يراعي يوما دينيا حينما يرتكب المجازر بحق الابرياء من اهل العراق بكل مكوناته، وما كنت اتمنى ان تمارس الحكومة العراقية ذات الاسلوب اللامبالي بالاخر، كما اسجل نقدي لترديد الحاضرين من المسؤولين العراقيين في قاعة الاعدام جمل الثأر والتشفي والهتاف وهي عادات لاتنسب الى العقلاء واهل الحكمة الذي نتوسم فيهم السمو الاخلاقي. لكنني اتسائل بدهشة:

كيف تجرح مشاعرالمسلمين الدينية بيوم العيد وما كانت لتجرح في كل مرة ؟
أين من يدعون الانسانية والرقة بالمشاعر وقد علق صدام رؤوس النساء بعد قطعها على ابواب بيوتهن من دون أن ينبس احد بحرف واحد من كل العرب المنددين اليوم باعدامه؟ واباد الكرد بالغازات السامة وقتل الحياة بقرى ومدن شمالية وجنوبية عراقية كاملة، هل ان الله يطالب بتقديس يوم العيد اكثر من تقديس حياة البشر؟
ان كنت لا استغرب موقف شعوب بسيطة غارقة بالوهم ترتفع عندها نسبة الامية، او مجموعات فقيرة كانت تلحس من قصاع صدام الذي يطعمها بتجويعه اكثرية ابناء العراق، لكنني استغرب من ازدواجية السياسيين والمتعلمين ورجال الدين ومؤسساته حينما يتعلق الامر بالبعث العراقي دون سواه. ففي انقلاب شباط الاسود عام 1963 قتل الجلاوزة من القومجيين والبعثيين عبد الكريم قاسم في مبنى الاذاعة العراقية وعرضت صورته على الملأ ومن شاشة التلفزيون باسلوب وحشي بشع، حيث يرفع به احدهم رأسه من شعره وهو مقتول ويبصق فيه، قتل بدون محاكمة ولاشهود وهو صائم وفي رمضان - ورمضان من الاشهر المحرم فيها القتل دينيا - ولم يندد أي رئيس عربي أو رجل دين مسلم اوعالم أو سياسي أو مثقف بهذا القتل. حتى لم يترحم عليه سوى وزير خارجية تونس انذاك..

فهل إن صدام مقدس لأنه عرف اللعب على اوتار الجهل العربي وازدواجية الشخصية وشراء الذمم بخبث ودهاء ؟.
وان كان لابد لنا من الحديث عن الموت اليومي بشوارع العراق من قبل ما يسمى بالمقاومة اوالمليشيات او تنظيم القاعدة والرعاع من فلول البعث وسواهم من الارهابيين لاطفال ونساء وابرياء فهو مسكوت عنه، رغم الجثث المرمية بالطرقات بعد تشويهها ورغم المشاهد التي يندى لها جبين البشرية حيث الدماء والاجساد البريئة في كل مكان، وفي جميع ايام الاعياد وغير الاعياد وبرمضان وبمحرم، وانتهاك كل ايام الاسلام التي يقدسونها، ولم يحض َ جميع الالاف من الابرياء بهذا التنديد الذي هبت له الفضائيات والاقلام والاصوات والدينيين في سبيل اعدام أعتى طاغية عرفه التأريخ.

فلماذا هذه الازدواجية ؟
لا أتمنى ان تسال قطرة دم واحدة لاي مخلوق على وجه الارض ولا أتمنى اي مشهد للموت لكن الطغاة على انفسهم وعلى شعوبهم يجنون.
من الاجدر بكل التنظيمات الانسانية والحقوقية العالمية والعربية ان تهب من اجل محاربة الجهل والامية واحترام حقوق الانسان واشباع حاجاته الاساسية في الحياة اولا، والارتقاء بالانسان العربي الى مستوى تقديس حياة البشر قبل ان تطالب بالغاء عقوبة اعدام الطغاة والمجرمين امثال صدام الذي تسبب بانتهاك ابسط حقوق البشر وموت وعذاب الملايين ودمر وطنا بالكامل.
إن احدى أهم اهداف العقوبات هو الردع العام، فكيف يمكن ان يرتدع معتادو الجريمة من الالاف الذي تربوا في كنف جلادي صدام والذين اطلقهم من السجون لو ايقنوا بانه لاموت عليهم في كل ما مايفعلون؟ انهم لولا عدم ايمانهم بامكانية السلطة والملاحقة القضائية لكشف جرائمهم والذي يسهل عليهم الوقوع بالجريمة، لكان لعقوبة الاعدام في نفوسهم خوف رادع حتما ؟
ثم كيف يرتدع الذباحون وآكلو لحوم البشر من المتطرفين والذين يبيحون قطع رأس اي انسان لمجرد انتمائه لطائفة او دين يختلف عنهم، ولمجرد كلمة يقولها مثقف أو أمرأة طالبت بإنسانيتها في وطن كالعراق يعيش به مختلف الطوائف والانتماءات الدينية؟

كما ان العراق في حالة طوارئ بسبب الارهابيين وفلول البعث الذين يتوعدون بحرق البلاد والعباد؟
لكل مجتمع قانونه الذي يتناسب مع مرحلة التطور والواقع المعاش فيه، ولابد ان تتحرك القوانين مع حركة المجتمعات لتلبي حاجاتها وتحل مشكلاتها، ولم تلغ اوروبا ودول الغرب عقوبات الاعدام الا بعد ان بلغت مستوى عال من الامن والاستقرار وبلوغ وعي المواطن بحدود حريته التي لاتتجاوز حدود حرية الاخرين..
أخيرا أقول: سياتي يوم ينتهي به العراق من الارهاب، ليتوقف الموت العشوائي والمنظم، طال الزمن ام قصر، بهذه الحكومة او بسواها، فدوام الحال من المحال وسيتحقق الامن ليناضل الجميع من أجل بناء الإنسان والارتقاء بحاجاته الروحية، عندها يكون مطلب الغاء عقوبة الاعدام ضروريا.

بلقيس حميد حسن
عراقية ناشطة في مجال حقوق الإنسان
balkis8@gmail.com

المصدر: جريدة السياسة الكويتية، 5/1/2007