أي رثاء يليق بالشهيد علي مراد ( اسطى علي )؟

للذين يعرفونه كان "أبو عماد" ولجيلنا كان "عمنا"، ولجيل قادم كان "جدو علي" ، وللجيل الذي ينتمي له وللأصدقاء القدامى كان "اسطى علي"
في يوم 1/1 / 2007 ذهب ليلحق بأخويه في مقبرة السلام بالنجف الأشرف ، ليلحق بأخيه الأكبر "عزيز مراد- أبو فؤاد" الذي استشهد في انتفاضة تشرين 1952، وذهب ليكون مع أخيه الأكبر الذي رباه "شيخ مراد – ابو طالب " الذي اغتاله الطاغية صدام حسين ، عندما أرسل مخابراته لتضربه بسيارة في الطريق في 1/1/1974 .
الأخوة الثلاثة هم معا الآن، لقد جمعهم التراب بعد أن فرقت بينهم أقدار الغدر في عراق الديكتاتورية الذي ويا للمفارقة لازال بعثيوه يواصلون حتى اللحظة مؤامراتهم وسمومهم لحد تمكنهم من ثالث الأخوة .
في حياته كلها لم يطلق أبو عماد رصاصة واحدة،فلم يكن سياسيا او عسكريا ومع ذلك كان مناضلا من نوع خاص، وبثقة أقولها كان وطنيا من الدرجة الأولى، تحمل ككردي فيلي الكثير من العسف ، مثلما تحمل الكثير بسبب اشتراك أفراد في عائلته في العمل السياسي، تحمل الاستجوابات المتكررة منذ أواخر الستينات، دائما مخابرات أو أمن أو مسئول بعثي يريد أن يترقى فتكون لعبتهم المفضلة هي استجوابه يريدون معرفة هل له علاقة ببقية أفراد الأسرة ثم لاحقا أين ذهب أولاده والعائلة ، واستمر التضييق من البعثيين عليه بسبب خروج أفراد أسرته قسرا أو هربا حفاظا على حياتهم بينما بقت حياته هو في خطر دائم وللمفارقة فإنه بعد أن سقط نظام البعث بثلاثة أعوام وثمانية اشهر فها هو يموت بسبب وشاية من بعثيين.
وصموده الرهيب في وجه كل هذه المصاعب على مدار أكثر من أربعين عاماً هو في ذاته مدعاة لفخرنا بهذا الراحل.
أتذكر في الانتخابات الأخيرة حيث كان يقطن في الدورة ذلك الحي الذي يكثر به الآشوريون سابقا بينما الآن هو مرتع لبقايا البعث، أصر وزوجته على أن يذهبا للتصويت ، رغم أن الإرهابيين من الصداميين والتكفيريين كتبوا على الحائط منزله تهديد بعدم الخروج يوم الانتخابات، وأصر وخرج وقتها ماشيا على قدميه وزوجته لمقر التصويت.
ورغم كل هذه المعاناة حتى بعد سقوط صدام ورغم توتر الوضع الأمني بمنطقته فإنه لم يفكر يوما أن يترك بيته، لدرجة انه سافر مرتين للسليمانية للإقامة في بيتنا هناك وآخر رحلة له كانت قبل شهرين ، ومع ذلك عاد لمنزله ورفض البقاء بعيدا عنه، لأنه يعتبر ذلك نوعا من التخاذل في وجه الإرهابيين.
كان عمي رجلا عصاميا بمعنى الكلمة، لم يلتحق بمدرسة لكنه علم نفسه بنفسه وتمكن من إتقان الإنجليزية مثلما تمكن من صنعته كـ" فورمن ميكانيك لمصفي الدورة"، كان قد أحيل على التقاعد بعد 30 سنة من وظيفته ، حرص تماما على التعليم الجامعي أولاده الستة، امتص كل المصائب والتجارب التي مرت على العائلة والعراق منذ طفولته حتى أصبح عمره 74 عاماً ..
وكان يعيش في منزله في حي الدورة ببغداد، مع زوجته.
كلنا سنفتقدك كثيرا يا أبا عماد، الأحفاد و الأبناء و الاصدقاء أما أشقاؤك فقد رحلوا قبلك ..كلكم على يد الظلم والغدر ..
احكي عنه لأجيال وليدة ، أحكي عنه لابني الذي لا يعرف اللغة و لم ير العراق يوما، أحكي له أن جده كان مصدرا لفخرنا جميعا، تحكي له زوجتي عن كيف فاجأنا باتصال يوم زواجنا في بريطانيا عام 1979 ، رغم صعوبة وخطورة لك وقتها، لكنه كان يعتبر الأمر واجبا تجاه احد أفراد أسرته .
ومنذ غادرت العراق في 1970 وحتى زرته بعد إسقاط الطاغية 2003، لم أر عمي أبدا ، كانت سفرتي الأولى للعراق في الحادي و العشرين من يونيو حزيران 2003، ذهبت إلى الدورة ، وددت لو تعرفت في هذه المنطقة دون دليل إلى بيت عمي ، وددت لو اكتشفته وحدي أتذكر أنه كان هناك بستان نخيل فهل لازال موجوداً ؟؟ أتمنى ذلك ، سالت صاحب دكان "تعرف فلان أبو فلان " ، سألني أليس هو من أولاده كلهم بالخارج ؟ أجبت نعم ، دلني قائلا " البيت اللي بيه الدش " ، السائق الذي تحمس لمهمة البحث عن عمي ربما أكثر مني يسير بنا حتى المنزل ، أتمنى أن أراه هناك ،وجدت شيخا يعمل بالحديقة ، لم أر عمي منذ سنوات طويلة و آخر مرة كلمته بالهاتف كان منذ 6 سنوات ، نزلت من السيارة بالجهة الأخرى ، ألقيت السلام و سألته : "أنت أبو عماد " قال " نعم " لم يعرفني ، سألته " سمعت إن ابن أخيك طالب موجود بالعراق هذه الأيام " رد متوجسا "نعم ، سمعت انه سوف ييجي هذه الفترة " الآن أفكر أنني ربما أثقلت عليه بهذه المزحة، فقد أصيب عمي منذ فترة بجلطة شفاه الله منها و هو يرتدي نظارات طبية ، بالطبع لن يعرفني ، سألني فقط بحذر عن اسمي حتى يخبر طالب به عندما يصل للعراق قلت له الاسم " قل له طالب " مرة أخرى عندما أتذكر هذه اللحظات أعاتب نفسي فربما كان وقع المفاجأة على الرجل حسبما رأيت اكبر من أن يتحملها مسن في مثل عمره وصحته.
منذ صغري كنت أحب المكوث في بيت عمي طويلا لقربه من النهر ،أمنيتي منذ كنت طفلاً هي المعيشة على النهر ، عندما زرت العراق هذه المرة وجلست مع عائلة عمي ، لاحظت أنهم لا يتحدثون عن الموتى و المفقودين ، و عندما أسألهم يردون بطريقة هادئة ، و رغم أن كل واحد كلمته من الأهل أو الأصدقاء لديه تقريبا متوف أو غائب إلا أن الحزن توزع على سنين و هو أمر أعده من رحمة ربي بهم .
والآن بعد وفاته أصرت زوجته الفاضلة "أم عماد" أن يدفن في النجف رغم خطورة الطريق، كأنما شعرت برغبته أن يلقي شقيقيه، وقد كان.
التقى عمي هناك بأبي المقتول غدرا وبشقيقه الآخر عمي "أبو فؤاد" الذي هجرت عائلته عام 1980 مثلما تفرقت بنا السبل كل في مكان، لقد التم شمل الأشقاء الثلاثة بعد طول غياب.
لقد تحمل عمي كل مصائب الحياة لكن رصاص الغدر كان أقوى هذه المرة، لقد نالوا منه أخيراً، ففي مساء الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي وبعد أن أنهى الجنود الأمريكيون وجبة الديك الرومي، شربوا واحتفلوا بعيد الميلاد، ثم خرجوا نحو الواحدة صباحا بعد إخبارية من احد العاملين معهم من العراقيين!، أحاطوا بالمنزل وبدأ الطرق فتصور عمي وزوجته أنهم من الإرهابيين الذين ينشطون بكثافة في هذه المنطقة، احتمى الاثنان بالداخل، مع تزايد الطرق العنيف على الباب، ما كان من القوات الأمريكية إلا كسر الباب الخارجي ومداهمة المنزل بعد كسر الباب الرئيسي بإطلاق النار عليه. واستمر إطلاق النار ومن ثم الهجوم على الغرفة التي كان فيها علي مراد، ليسألوا بغباء "أين الأولاد ؟" لقد كانت الإخبارية من أحد البعثيين الذين يريدون التنكيل بالرجل فالذي يعيش في هذا المنزل منذ أكثر من 40 عاما متصلة وكل أولاده كبار ويعيشون خارج العراق، وكلهم طبعا من ضحايا النظام السابق، سمعت زوجته التي كانت مختبئة بغرفة داخلية بالمنزل أصوات الرصاص وظلت بعدها تبحث في المنزل المظلم عن زوجها، التي أصيبت بدورها بالصمم، جراء إطلاق النار من قبل القوات الأمريكية في تلك الليلة عندما جاء الأقارب صباحا اكتشفوا آثار دماء في مدخل البيت، عرفوا أن الرجل أصيب، كانت إصابته بين الفك والرقبة تسببت أيضا بجلطة دماغية أفقدته الوعي، نقله الأمريكيون لمستشفى ابن سينا حيث تؤخذ عادة الحالات المشابهة وبعد يومين و عندما لم يفيق من الغيبوبة نقلوه دون تصريح من الأطباء أو أهله لمستشفى مدينة الطب لإبعاد المسئولية عنهم،و تعتبر هذه جريمة ثانية أبشع من الأولي بحقه. هذه العملية أتت على حياة الرجل حيث مات في الساعة الثامنة من صباح الاثنين الأول من يناير-كانون ثان الحالي، انه نفس يوم وفاة أبي شقيه لكن عام 1974، وقد أطلق الرصاص على عمي يوم 24/25 كانون الأول وهو تقريبا نفس الفترة التي قتل فيه أخيه الأكبر عزيز عام 1952، فهل يريد القدر أن يخبرنا بحكمة من هذه التواريخ؟
إننا مصرون على رفع دعوى قضائية لمعرفة الحقيقة، من الذي ادعى أن الرجل المسالم محل شبهة ؟ من الذي اقترح على الأمريكيين سؤاله عن أبنائه رغم أن الكل بالمنطقة يعلم أنهم خارج العراق وأن معظم أقارب الرجل خارج البلاد منذ موجة التسفيرات أوائل الثمانينات؟
من هي هذه الجهات التي أتت بالأمريكيين بوشاية كاذبة لتحملهم على قتل إنسان مسالم معروف بالمنطقة، وهل لنا أن نسأل لأي درجة وصل تغلغل بقايا البعث والتكفيريين في دوائر الشرطة العراقية و مترجمي ومعاوني القوات الأمريكية بالعراق ؟ ومن يحمي حقوق الأبرياء وأرواحهم من جراء وشايات كاذبة ؟ وكيف تقوم القوات الأمريكية بتصديق كل ما يأتي لها من معلومات وتتصرف برعونة مستهينة بأرواح المدنيين ؟ وكم من الأسر البسيطة التي راح منها أفراد بسبب هذا السلوك غير المبرر؟ وإذا كنا الآن كعائلة الفقيد نشرع في إجراءات التقاضي فإن هدفنا ليس التعويض فلن يعوض روح عمنا مال الدنيا بأسرها، لكن هدفنا الأساسي من طلب التحقيق هو كشف الحقائق ومحاصرة المغرضين و منع مزيد من إراقة أرواح الأبرياء من الشعب العراقي.
لقد كنت دائما انظر إلي ابو عماد علي انه الكبير في العائلة مقاما و عمرا و من دون سابق إنذار اكتشفت إنني أصبحت اكبر واحد عمرا عزائي لكل أهله و أصدقائه المنتشرين عنوتا في كافة أرجاء المعمورة و اخص أم عماد التي تحملت الكثير.

الخميس 04/01/2007
د. طالب مراد
Talib.Ali@fao.org

المصدر: موقع كوردستان، 4/1/2007