القضية هي الحدث نفسه لا تسجيله!

قرأت الكثرة من مقالات كتاب عراقيين وعرب عن عملية الإعدام. وملاحظتي الأولى أن معظم من قرأت لهم في الموضوع قد أكدوا شرعية وعدالة إدانة صدام والحكم عليه ولكنهم اعترضوا على الجو الذي ساد والهتافات الشاذة، وكيفية ومعايير اختيار الحاضرين.
لم أقرأ للكتاب المنصفين والمعترضين من لم يسرد جرائم صدام ونظامه، ومن هنا، فلا يمكن الرد على الانتقادات بتكرار وتكرار تلك الجرائم، وهل كان يستحق الحكم أم لا، فهذا ليس هو المقصود.
لنترك باشمئزاز تام ردود الفعل العربية ذات النفس الطائفي، وعلى كل المستويات، فهي كانت متوقعة ومهما كانت طريقة الإعدام وموعده. فقد سبق وأقيمت في بعض نواحي الأردن سرادق للمجرم الخطير الزرقاوي رغم ما فعل واقترف من جرائم وآثام في العراق. إن الكتاب الذين أقصدهم وأصفهم بالموضوعية والإنصاف ليسوا من بين من أقاموا سرادق العزاء وصلوات الغائب وحمل النعوش الرمزية، التي اتفق الطرفان الفلسطينيان المتناحران يوميا على حملها! وكما ذكر كتاب عرب منصفون قبل انفجار قصة الكاسيت، فإن الردود العربية الغاضبة انصبت على موعد العيد أي على [ الشكليات] كما وصف كاتب عربي واستغلال ذلك لإثارة الشارع العربي والمسلم وللدفاع عن صدام بلغة عنيفة وطائفية ومحاولة التعتيم على جرائم رهيبة لم يشهد العراق والمنطقة لها نظيرا من حيث الهمجية وأعداد الضحايا.
لقد كنت من بين أوائل من كتبوا بعد ساعات من خبر التنفيذ، وكان ذلك قبل نشر شريط الفيديو. وقد تساءلت عن الحكمة من تنفيذ الإعدام يوم العيد علما بمخالفة ذلك حتى للقانون العراقي المعتمد. وفي اليوم نفسه اتصل بي صديق من لندن استغرب ملاحظتي، وفسر التوقيت بالخوف من تهريب صدام نتيجة الضغوط على الحكومة وأمريكا نفسها. أجبته: وهل كان يضير لو اختير الموعد قبيل العيد أو بعده بأيام؟ ولو كانت هناك حقا خطة التهريب، فهل يسمح بها الأمريكان إلا إذا كانوا هم وراء ذلك وهم من تقصد يا صديقي!
إن ما كشف من معلومات بعد يوم التنفيذ وفضيحة الكاسيت وما تبين بالصورة والصوت ما مار رافق العملية من استفزازات وهتافات التشفي، يبرر القول بأن الهوس الطائفي ونزعة احتكار المظلومية لجهة واحدة معينة زمن النظام الساقط كانا وراء ما حدث. فيوم السبت كان يوم عيد للأكثرية الساحقة من المسلمين، أي السنة في كل مكان، والتنفيذ، كما تبين، جرى في مقر الاستخبارات السابق الذي كان مكلفا بنشاطات إيران في العراق، فضلا عن مواجهة المكان لمسجد الإمام أبو حنيفة، وهو ما ذكره مقال الأستاذ رشيد الخيون في الشرق الأوسط.
أما قصة الكاسيت، فالملاحظ من التصريحات العراقية الرسمية تناقضات فاضحة وتفسيرات غير مقنعة انتهت باتهام حارس للسيد موفق الربيعي مع أن نائب المدعي العام السيد آل فرعون ذكر أن شخصين فقط هما مسؤولان كبيران كانا يحملان الكاميرا، وهو يقصد كلا من الربيعي والسيد سامي العسكري مستشار رئيس الوزراء. إن التصريحات المتناقضة للدكتور الربيعي تدل على تخبط الحكومة، وعلى المنطق المفلوج لمحاصرة الضجة. يقول الدكتور إن الرقص حول المشنوق تقليد عراقي!!، ويقول إن الهتافات لم تكن إهانة!!، أي الهتاف بحياة زعيم جيش المهدي الذي زرع الموت في كربلاء والنجف نفسيهما، ناهيكم عن الجرائم في بغداد والتطهير الطائفي لعصاباته ردا على جرائم قوى أعوان صدام والقاعدة، وقيامهم بعمليات تطهير مذهبي وحشية، واعتدائهم على مساجد الشيعة والحسينيات وتفجير الناس من الشيعة بالجملة. ولا عجب، فالحكومة ورئيس الوزراء شخصيا هم أسرى مقتدى الصدر.
يقول المسؤول المذكور إنه شعر "بالاعتزاز بما حدث"، وقد "تم القيام بكل شيء وفقا للقواعد [أية قواعد؟؟] لكن مع الفيديو هناك أخطاء ارتكبت يجب أخذ ذلك في الاعتبار." إذن فكل شيء كان على أحسن وجه قانوني وموافقا للعرف الدولي والقانوني، ولكن المشكلة هي التصوير والبث. وبعبارة أخرى يحولون الحدث نفسه إلى عملية طبيعية مبررة ولكن المشكلة انكشافها للرأي العام! ومن هنا نعرف أن العذر أقبح من الفعل!
والآن؟
لقد ورد في مقالتي صبيحة السبت 30 ديسمبر المنصرم أي بعد التنفيذ ببضع ساعات:
" إذا كان تنفيذ الإعدام هدية مستحقة لأرواح الضحايا وعائلاتهم، فيجب أن تكون في سيرته ومصيره دروس وعظات لجميع العراقيين، وخصوصا لمن يحكمون اليوم. إن إعدام الطاغية، برغم أهميته التاريخية على نطاق العراق والمنطقة، فإن مغزاه ودلائله سوف تتلاشى إذا واصلت المليشيات وبعض القوات الحكومية ممارسات مماثلة، وإذا استمر النهب العام، كما هو الحال اليوم، وإذا ساهمت المليشيات في التهجير الطائفي، وإذا احتُقرت حقوق الإنسان، وأهينت المرأة، واستمر اضطهاد المسيحيين، ولم يسترد المهجرون الأكراد الفيليون زمن صدام هويتهم القانونية وممتلكاتهم المستباحة، ويتم التحقيق في مصير أبنائهم وهم حوالي ما بين 7000 و8000".
ولكن، يبدو أن الحكومة مصرة على نهجها الخاطئ ذي النفس المذهبي، والذي تسيره قواعد حكم الشريعة، وإن عصابات مقتدى الصدر على حالها ولا تمس بل وتزداد قوة وتسلحا بفضل أصحاب الفضل عليه من إيران، وبفضل أسره لحكومة السيد المالكي!
إن ما حدث كان أكبر من فضيحة وقد ألحق إساءة كبرى بالعدالة والقانون، وكاد يحول الطاغية بفضل وسائل الإعلام العربية إلى ضحية يرقص حولها بعض الحاضرين، الذين لا نعرف معايير اختيارهم. أما ردود الفعل العربية، فإنها تدل مرة أخرى وأخرى على رعب لدى بعض الحكام من مصير صدام، وعلى غوغائية الشارع العربي الذي تسيره قوى الإسلام السياسي والتطرف القومي العنصري.
إن هذه ليست المرة الأولى التي لا يبدي فيها الفلسطينيون وبقية العرب، وما عدا القلة الشريفة من مثقفين وساسة، ذرة تعاطف مع العراقيين وضحاياهم زمن صدام وعلى أيدي قوى الإرهاب، ونعرف إدانتهم ومقاطعتهم لمجلس الحكم حال قيامه، وتحريض رجال الدين ومراجعهم ضده، وتبريرهم أو صمتهم عن عمليات الإرهاب الوحشية منذ سقوط النظام السابق.
إن بعض الأصدقاء يصفونني بالتشاؤم في تقديراتي للوضع العراقي، والحال إنها ليست تشاؤما بل هي خيبة ومرارة تجاه أداء الحكومات المتعاقبة منذ 9 نيسان 2003، وإدانة انفلات المليشيات، والفساد المالي والإداري العام، واعتماد دستور شبه إسلامي يعتمد حكم الشريعة ويحتقر حقوق المرأة.
أجل ما هكذا يبنى عراق جديد، معافى وديمقراطي فيدرالي، بعد عهود الطغيان والخراب الشامل للاقتصاد والثقافة والعلاقات الاجتماعية، ونشر ثقافة العنف والانتهازية النفعية، وممارسة التمييز العرقي والمذهبي. إن على قيادات أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة أن تعترف بأن صدام شمل كل فئات العراق وطوائفه بالقمع، وأن ضحاياه من السنة ومن الديمقراطيين واليساريين ومن الأكراد خاصة هم مئات الآلاف، وأن الاضطهاد لم يشمل فقط عائلة الصدر أو حزب الدعوة ولا الشيعة وحدهم، وأن الدجيل واحد من بين جرائم أكبر بكثير، وصفحة دامية رهيبة من صفحات تدمير العراق وخرابه ونهبه.
كلا، لا أعتقد مع الأسف أن الحكومة الراهنة، ومع احترامي لشخص رئيس الوزراء ونزاهته، تستطيع أن تقود العراق نحو وضع أفضل، وأن تطفئ مواقد التوتر، وتعالج خراب الماضي، وتقنع كل فئات الشعب بأنها لهم جميعا لا لطائفة بعينها، وأن سيادة القانون سارية على الجميع ولا تستثنى منها المليشيات الحزبية!
شخصيا أعتقد أن الوضع شديد التدهور، وأن طريقة وموعد تنفيذ الإعدام والهتافات النابية التي رافقتها قد زادت لهب العداء الطائفي وحدة العنف. وهنا أكرر اقتراحات عدد من كتابنا بأن الوضع يتطلب حكومة مؤقتة، مصغرة، ومستقلة محايدة، وقوية، وأن يتم "تأجيل الديمقراطية" على حد تعبير الدكتور عبد الخالق حسين، حتى توجيه ضربات قاصمة لقوى الإرهاب ويتم حل المليشيات وتعالج مأساة الخدمات ولا سيما الكهرباء. ومحاسبة الفاسدين مهما كانت مقاماتهم. إن هذا في رأينا سيكون حلا سليما ولو لمدة عام رغم أنه مع كل أسف غير مقبول لدى القيادات والأحزاب الحاكمة، وليس هذا بالغريب عندنا.

عزيز الحاج
4 كانون الثاني 2007