ماذا يجري في العراق؟

مصالحة مستحيلة..؟! إنفجار سُـنّـي - شيعي في المنطقة؟ أم أن االعراق يدخل "زمن فقدان السيطرة" وماهي حقيقة "فرق الموت" في العراق ؟ وهل أشعل "تفجير سامراء الحرب الطائفية" ؟

يتساءل كثيرون ألا يُحرّك مقتل 202 عراقي دُفعة واحدة في حرائق مدينة الصدر، والمئات من القتلى الآخرين في مدينة الحرية والأعظمية وغيرها من المدن والأحياء في بغداد وباقي مدن العراق ضمير الإنسانية، الذي ذهب في إجازة مدفوعة الأجر مع دخول قوات الاحتلال إلى البلاد باسم "التحرير ونشر ديمقراطية نموذجية" في العراق؟
ومتى يتوقف نزف الدماء، وهي تجري أنهارا في عراق الرافدين الخالدين، دجلة والفرات، بدلا من أنهار العسل واللبن التي بشر بها المحتل الأمريكي شعب العراق؟

المفخخات والانتحاريون، الذين يقتلون العراقيين لأنهم وُعدوا بوجبة غداء مع الرسول الأكرم محمد "ص" أو هكذا تقول أدبياتهم، لم يكتفوا بالتفجير الانتحاري أو بالريموت كونترول، لأن من يُـريد للعراق أن يغرق في بحر الحرب الأهلية والطائفية، لجأ مؤخرا إلى "حرب تقليدية" قديمة بهجمات، يجري تنفيذها بمدافع الهاون وبصواريخ الكاتيوشا، ربما لتكريس مقولة العراق المُقسّم إلى كانتونات، والذي دمّـرت أحداثه القاسية الإنسان العراقي من الداخل، وحوّلته إلى كومة لحم سريع الاشتعال والانفجار، حتى على أهله.
الموت والخطف ثم القتل الجماعي لأسر كاملة على الهوية، ينتشر هذه الأيام برُعب يملأ ضجيجه كل أركان العراق، خصوصا بغداد... من مدينة الصدر الشيعية بسكانها الفقراء المهمّـشين على الدوام إلى حي الأعظمية السُـني بأهله الطيبين، الذين حاول "عثمانهم" الشاب إنقاذ العراق من أتون الحرب الطائفية، عندما غرق ومات أثناء محاولاته إنقاذ أبناء وطنه الشيعة، ومن غرق منهم الكثير في حادث جسر الأئمة قبل أكثر من عام.
هل هو هذا قدَر العراق أن يصبح الدّم العراقي رخيصا جدا، بحيث يُقتل على جسر الأئمة بين الكاظمية الشيعية والأعظمية السُـنية أكثر من ألف ومائتين عراقي مرّة واحدة، بإشاعة عن وجود سيارة مفخخة، وليس بالرصاص أو بالمدافع، كما يجري هذه الأيام؟
بعد كل عملية قتل للعراقيين، يخرج الساسة الجُـدد ببيانات استنكار وإدانة ودعوات لضبط النفس، وكأنهم يضغطون على "أزرار" تفجير أخرى أو أنهم يقرأون بيانات مشفّـرة تحمل تعليمات جديدة للانتقام والانتقام المتبادل، الذي يشمل حرق مساجد ونسخ من القرآن الكريم لهذه الطائفة أو تلك.
خطابات متشنّـجة ومتوترة، واحتقان طائفي يغلّـف حقيقة الأطماع السياسية لرجالات العهد الجديد، وأهداف إقليمية ودولية ينفذها عراقيون، بعضهم يظن أنه يعمل لوجه الله، وآخرون للوطن، والأكثرية يتحركون بأجندة غيرهم... ويحسبون أنهم مهتدون.
اليوم، فإن العراقيين يتبادلون الاتّـهام بأصل "عراقيتهمّ"، لأن الشيعة برأي إخوانهم "الأعداء" صفويون، والسُـنة من وجهة نظر خصومهم ينحدرون من أصول تركية ومن الدولة العثمانية، والأكراد لا يختلف عليهم اثنان أنهم ليسوا عربا، فإذن هم ليسوا عراقيين!
من وجهة نظر الدّين، حيث كثرت المرجعيات والفتاوى المكفرة لهذا المذهب أو ذاك، فإن الشيعة روافض كَـفرة يستحقون القتل، وهم أشد كفرا وخطرا من الصليبيين واليهود، وهذا ما ينتشر علنا في البيانات والخطابات ولا يخفي الترويج له عدد من رجالات القوم.
كذلك، فان فتاوى أخرى.. لكنها في الاتجاه المُـضاد، تضع السُـنة في خانة النواصب أو تُـصنّـفهم وهّـابيين! وتُـبيح قتلهم لأنهم.. غير مسلمين!
الأكراد طبعا خونة، وهم مارقون ومتعاونون مع الصليبي الكافر، ويجب قتلهم... والحبل على الجرار، كما يقول المثل العراقي.
وليس الأمر داخل الطائفة الواحدة أو حتى بين مُـكونات القومية الواحدة بأفضل منه خارجها.
السُـنة باتوا منقسمين أكثر من أي وقت مضى، والقتل فيهم يؤشّـر عليه عدد الاغتيالات التي تتكرّر في محافظة الأنبار المغلقة تماما عليهم، بما يجعل أي اتهام للشيعة بأنهم يقفون وراء تلك الاغتيالات، يتهافت بسهولة..
ونفس الحال داخل الطائفة الشيعية، مع فارق واحد، وهو أن المناطق الشيعية غير مُـغلقة وأن الصراع، إذا اندلع بين فصائل شيعية، كما حصل بين منظمة بدر التابع للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وجيش المهدي، وهو الذراع العسكري للتيار الصدري، فإن الدّم يسيل فيه إلى "الرُكَب"... علانية، دون استحياء.
الأكراد والتركمان وباقي القوميات، ليسوا في وضع يُـحسد عليه، فالجميع في العراق يريد قضم ما يمكن من العراق، الذي تحول إلى مجرّد كعكة... وإن تلطّـخت بدماء وأشلاء الأهل والأحبة وحطام السيارات المفخّـخة وشظايا قنابل الهاون، التي لا تفرّق بين العراقيين.

من جمهورية الخوف إلى جمهورية الرعب
يستمر كلُّ هذا الموت، رغم أن الجميع في العراق وخارجه من دُعاة الحلّ الأمريكي، اعترف أن المشروع الأنكلو - أمريكي للعراق فشل فشلا ذريعا، وهذا ما كانت بعض القوى العراقية المُـخلصَة تحذر منه قبل سقوط النظام العراقي السابق.
صحيح أن حجم القمع الذي كان رأس النظام السابق يمارسه والذي لم يستثن حتى البعثيين، دفع بالكثير من العراقيين إلى الاعتقاد أن تغيير النظام السابق، لن يتم له النجاح إلا عن طريق الاستعانة بأمريكا وبمشروعها.
كان العراقيون في معظمهم يتمنَّـون أن يحكمهم شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، والذي لا يُعرف عنه إلا القسوة والإجرام، بدلا من البقاء تحت هيمنة نظام صدّام وجمهورية الخوف، التي أسسها بواسطة عدد غير قليل من مؤسساته الأمنية والاستخبارية.
وفي المناظرات التلفزيونية، التي كانت قناة سحر (كوثر) الإيرانية تجريها ضمن برنامج "قضية ساخنةط قبل سقوط نظام صدام، لم يكن يتردد متداخلون أو مشاركون في التعبير عن هذه الأمْـنيَـة، التي تعكس نجاح الإدارة الأمريكية في خُـططها التمهيدية "آنذاك" لإسقاط صدام، والتي أوصلت غالبية العراقيين إلى استنتاج يعكس الانهزامية وحجم الإحباط الشديد، الذي كان الشعب العراقي يعيشه، وهو أن أوراق اللُّـعبة كلها بيد واشنطن.
ولا يمكن أن يتجاهل أي مراقب ذلك الدّعم الذي حصل عليه نظام صدام من واشنطن في الكشف عن العديد من محاولات الانقلاب عليه، ودعمه والسماح له باستخدام طائراته ومروحياته وصواريخه للقضاء على الانتفاضة الشيعية (مارس 1991)، في ظل الحظر الذي كان مفروضا على الطيران العراقي، ما جعل مُـعظم الشيعة يقتنعون أن لا حلَّ للعراق إلا بالتوجّـه صوب واشنطن.
هذه الصورة، وبعد شهور قليلة من سقوط النظام، غابت وما عادت موجودة بعد أن ذهبت السّـكرة وجاءت الفكرة.. بعد أن رحل صدام عن الحكم وبقي نهجه الانفرادي الإقصائي في العراق الجديد، بل وظهر عدد لا حصر له من رجال على شاكلة صدام (مع الفارق)، انتشرت صورهم في أرجاء العراق، بل وأن أحدهم، وهو مدير مؤسسة ليس إلا، علّـق صورة كبيرة له عند مدخل المؤسسة، وهو يتحدث كغيره من "المسؤولين" الجُـدد بنفس نبرة الرئيس السابق.
وبعد أن حلّ الحاكمُ المدني السابق للعراق بول بريمر الجيشَ العراقيَّ وكافة مؤسساته، الأمنية والإعلامية، ليجد مئات الآلاف من العسكريين أنفسهم فجأة في الشارع، وانتشرت الجريمةُ المنظمة في ظل غياب أجهزة الدولة وتحوّل العراق، الذي كان جمهورية الخوف في العهد السابق، إلى جمهورية الرُّعب، وصار الأحياء من العراقيين يصفون عراق صدام بأنه الأكثر أمنا واستقرارا، وأتخذ من حالفه الحظ منهم، سبيله إلى الهجرة خارج البلاد هربا من الموت المنتشر في كل مكان، بحثا عن الأمن الشخصي.

أسلاك شائكة!
والزائر لبغداد، يجد هذه المدينة قد تأخّـرت كثيرا عن المدنية، وأن عجلة الزمن توقّـفت فيها منذ أمد بعيد، وتحوّلت إلى جدارية للشعارات المتصارعة والمتناقضة بين العلمانيين والإسلاميين، والإسلاميين أنفسهم، ليشمل الأمر طائفة واحدة أو حتى جماعة واحدة، وهي مُـحاطة بجدران "كونكريتيّةّ وأسلاك شائكة ترسم حدودا لها مغزى بين الأحياء والمناطق، وهذه تحوّلت إلى كانتونات انعزالية في أغلب الأحيان.
وليس غريبا أن يُكشف النّقاب عن هوية الشركة الأمريكية التي تصنّع الجدران "الكونكريتيّة" العازلة في بغداد، ليجد العراقي أنها نفس الشركة الأمريكية التي أقامت الجدار العازل في فلسطين.
وفي باقي المدن العراقية، فان الوضع، ربما يكون مُـختلفا من حيث الشكل، لأن المدن العراقية الأكثر تخلّـفا من العاصمة، ولكنها تشترك مع بغداد في طبيعة الأسوار التي تحيط بالمؤسسات الحكومية، وبشكل خاص في المواقع القريبة من قواعد قوات الاحتلال.
والمصيبة، أن هذه الأسوار لم تبعد شبَـح الموت، المتمثل في التفجيرات وغارات القصف... الجوية!

استهداف المعتدلين من الشيعة
الشيعة، في العراق وخارجه، لم يكونوا متّـفقين على مشروع التعاون مع أمريكا لإسقاط صدام، وأصدر كبار مراجعهم الدّينيين في قُـم والنجف والكاظمية ولبنان، فتاوى حرّمت الاستعانة بالأجنبي، ومنهم من صرّح بذلك، مثل آيات الله حسين علي منتظري، ومحمد حسين فضل الله، وطبعا السيد السيستاني، وحسين إسماعيل الصّـدر، وعدد آخر من المراجع المؤيّـدة للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
بعض الشيعة العراقيين، كالحاج كاظم (مهدي عبد مهدي) المعروف بـ "أبو زينب"، والذي كان يقود منظمة مُـجاهدي الثورة الإسلامية في العراق، ومقرها الأهوار جنوب العراق، دفع ثمن معارضته المشروع الأمريكي، واعتُـقل من قبل القوات الأمريكية، فور دخوله العراق بعد "التحرير"!!
وتعرّض آخرون ممّـن كان في ايران، وعارض بقوة الاستعانة بالأجنبي لإسقاط صدام، إلى قمع مباشر واضطهاد من قبل أجهزة الأمن الإيرانية، لاستمراره بعد "التحرير"، في معارضة المشروع الأمريكي، إن كان كشفه قبل الإعلان عنه عبر وسائل الإعلام، فإيران كانت تريد دعم حلفائها العراقيين في العراق الجديد.
الشيعة العراقيون، ومن ورائهم إيران، الذين انخرطوا في العملية التي قادتها الولايات المتحدة في العراق، كانوا يعتقدون أن شهر العسل بينهم والأمريكيين لن يدوم طويلا، وكانوا يُـخططون للسيطرة على الشارع وعلى مؤسسات الدولة الجديدة، وفرض رؤيتهم كأمر واقع باعتبارهم يمتلكون الأغلبية العددية، وهو ما صرّح به بشكل واضح السيد محمد باقر الحكيم، والذي ما انفكّ يُـعبّـئ العراقيين للانقلاب بطريقة أو بأخرى على الاحتلال من خلال خُـطب الجمعة، التي كان يُـلقيها في الصحن الحيدري بالنجف، حيث مرقد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
الحكيم، وهو مرجع ديني وزعيم سياسي يحترمه العراقيون بمختلف انتماءاتهم الدينية، تمّـت تصفيته في أغسطس 2003، وقُتل في تفجير مروّع لم يُـكشف عن خيوطه، كما لم يعرف أحد لماذا استهدفت الاغتيالات المعتدلين من زعماء الشيعة والسُـنة، وعلى رأسهم السيد الحكيم، الذي كان أمين عام مجمع التقريب بين المذاهب، ورئيس مجلس الحكم عبد الزهراء عثمان (لاحظوا الاسم الذي يشير إلى التسامح الديني الذي كان سائدا في العراق)، والأستاذ الجامعي المعروف عصام الراوي، عضو هيئة علماء المسلمين السنية، وغيرهم من دُعاة المصالحة والتسامح، كالشيخ السُـني الراحل يوسف الحسان في البصرة، العضو البارز في هيئة علماء المسلمين، والدكتور علي العضاض من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية.. والقائمة تطول.

السُـنّة يقعون في الفخ
أما السُـنّة، فإن العديد من زعمائهم تَـعاطى مع التغيير الجديد، بطريقة جعلتهم يصطفّـون طَـوعا أم كرها خلف النظام السابق، وتحديدا خلف صدّام حسين، وهذا أيضا كرّس الطائفية بشكلها المقيت، بعد أن زُرعت بذرتُها في مؤتمر المعارضة العراقية بلندن في منتصف شهر ديسمبر 2002 برعاية السفير الأمريكي الحالي، زلماي خليل زادة.
ينادي السُـنة في العراق بمشروع وطني، ولكنهم وقعوا في شرك الطائفية بشنّـهم الحرب الإعلامية على إيران وهاجموا حلفاءها العراقيين واعتبروهم مخلب القوة الإيرانية الصاعدة في العراق الجديد.
معظم قادة السُـنة، من الذين عانَـوا كثيرا من نظام صدّام، استعان برجال أمن وضبّـاط مخابرات النظام السابق، للعمل معهم كمرافقين ومستشارين، وهذا الأمر عزّز في جدار الشكّ بينهم وبين الشيعة، الذين أصرّوا على اجتثاث البعث وتصفية رموزه، دون أن يمنعهم ذلك من الجلوس معهم جنبا إلى جنب تحت قبة مجلس النواب وفي الحكومة أيضا، "مادام ... المُخرج عاوز كده"!
كما نادى سُـنة العراق بحلّ وطني، إلا أنهم وكالشيعة، مدّوا أعناقهم إلى خارج الحدود ليكرّسوا المُـعادلة الإقليمية، التي تعبَـث بالعراق ولن تساعده للخروج من فم الموت المتواصل. وطالب سُـنة العراق بخروج قوات الاحتلال، ولكنهم اليوم رضخُـوا للأمر الواقع الجديد، وما كان يردّده الشيعة الرسميون، وربط الانسحاب ببناء قوات الأمن العراقية بشرطها وشروطها.

إسرائيل!
المستفيد الأكبر من كل ما يجري في العراق، هو إسرائيل، والذين كانوا يتمنّـون حُـكم شارون بدلا من صدام، لم ينتظروا كثيرا ليُصرّح العديد منهم لمراسلي الفضائيات، بعد أقل من شهرين من سقوط الرئيس السابق، أن حرب "تحرير" العراق، ربما يكون شارون قادها أو خطّـط لها من خلف الكواليس.
كان اليهود الأمريكيون من مهندسي الحرب على العراق، ومنهم بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع، الذي زار بابل بعد "التحرير" مباشرة، ليؤكد إيمانه بالمُـعتقدات التوراتية، شأنه في ذلك شأن المستشارين الأمريكيين اليهود الذين وُضعوا في الوزارات العراقية في عهد الحكومة المؤقتة، التي شكّـلها بريمر.
إسرائيل حضرت بقوة إلى العراق عبر شركات متعدّدة الجنسية في كردستان وبغداد وكركوك وبابل والمدن الأخرى، واهتمت هذه الشركات بشراء الأراضي ونشر رجال الاستخبارات " الموساد" و"مافيات" تمارس التجسّس ولعبة الموت والاصطياد والتفجير واغتيال المفكرين والعلماء وأساتذة الجامعات والأطباء وباقي الأدمغة، كما تقوم باقتلاع الآثار ونهبها، ليبقى العراق خاويا من أهله ومن تأريخه وحضارته.
وليس بخافٍ على أحد أن أحد أهم أهداف المشروع الأمريكي في العراق، هو ضمان أمن إسرائيل، والذي تحقق منه الكثير بتصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت، أن العالم أفضل بغياب نظام صدام، وهو يقصد طبعا حال العراق الذي لا يسُـر الصديق!
فتدمير الجيش العراقي وتفكيك الدولة وتقسيم العراق إلى أقاليم ومناطق غير متوازنة، يساعد في تحقيق الحُـلم الإسرائيلي القديم، من النّيل إلى الفُـرات!
وفي خط مواز لقتل الأدمغة وسرقة الأثار، والاغتيالات والتفجيرات التي لا تميز بين دم وآخر، انتشرت في العراق عشرات المنظمات المشبوهة تحت غطاء "منظمات المجتمع المدني"، وخصوصا النسوية، التي أخذت تروّج بشكل علني للإلحاد والإباحية والعلاقات بين المثليين والكفر بالأديان والتشكيك بها وبالكتب السماوية، وتدعو إلى كره الحجاب الإسلامي. فما بين قتل التاريخ ومسخ الحاضر، يبدو أنه يُـراد للعراقي أن ينفتح على مستقبل جديد، خال تماما من القيَـم الإنسانية.

حرب أهلية!
منذ اليوم الأول لسقوط الرئيس المخلوع يوم 9 أبريل 2003، شكّـل الأمن المفقود في العراق، مُـعضلة كبيرة أخذت تزداد شدة يوما بعد آخر، حتى أن وزير الدفاع المستقيل دونالد رامسفيلد، كان يُـصرح على الدوام بأن الوضع في العراق لن يتوقف عن التفجّـر، ولمّـح أكثر من مرة مع الرئيس بوش وعدد غير مُـحدد من القادة الأمريكيين، السياسيين والعسكريين، إلى أن العراق في ظل الاحتلال الأنكلو أمريكي، على وشك الدخول في مرحلة الحرب الأهلية، إذا لم يكُـن قد دخلها فعلا.
وتحاول الولايات المتحدة، ومعها حليفتها بريطانيا، إيجاد مخرج من المأزق العراقي باستمرار ارتكاب الأخطاء القاتلة، ونشر الفوضى "البنّـاءة"، التي حصدت أرواح أكثر من 650 ألف عراقي، بحسب تقديرات نشرة لانسنت الطبية الدولية، وهجّرت مليونين داخل العراق وحده، ودمرت البنية التحية للدولة والإنسان، وتحول العراق إلى ساحة لتسوية الحسابات الإقليمية والدولية، وقبل ذلك، إلى غابة تتصارع فيها الوحوش.
واحدة من الأخطاء الأمريكية والبريطانية المتواصلة، تكمن في تسليم مسؤوليات الأمن في بعض المدن للحكومة العراقية، غير القادرة على حفظ الأمن، والتي تتنازعها أهواء وولاءات لأحزاب العراق في عهده الجديد، وهذا سيفتح الباب على مجهول لا يعرف منه إلا الموت، عندما تتصارع الأحزاب والجماعات على مراكز القوة والنفوذ.

كل الطرق تؤدي إلى إيران
لكن صور الجُـثث والرائحة المنتشرة في كل مكان، وسياسة الاغتيال وأجواء الرُّعب هذه، ليست إلا جزء من كل في سياسة عامة، بدأت من عمليات النَّـهب وفتح الحدود على مصراعيها لكلِّ من يبغي سوءا بالعراق من التسلل إليها في وضح النهار للانتقام!
معسكرات الجيش ومصانع عسكرية بأكملها، منها مصنع محرّكات الدبابات في منطقة الكرخ ببغداد، ودبابات ومدافع، وخطوط نقل الطاقة الكهربائية تم تفكيكها ونقلت، بحسب شهود عيان، لتُـباع "خردة" في إيران.
السيارات الحكومية ومعدّات ثقيلة، عسكرية ومدنية، تمّ تهريبها إلى إيران، وهذه لم تتأخر في إرسال أجهزة استخباراتها إلى بلد مفكّـك، يعيش الرّعب والفوضى، حالها في ذلك، حال العديد من الدول، خصوصا المجاورة وحتى البعيدة.
في السياسة أيضا، فإن إيران أصبحت قبْـلة مُـهمة للسياسيين العراقيين، لأنها اليوم لاعب مُـهم ومستفيد أكبر مما يجري في العراق، ويجب أن لا تستدعيها الحكومات المتعاقبة!
بعض الجهات العراقية لم يُـخف رغبته في القيام بدور الوسيط بين إيران والولايات المتحدة، ونذكر هنا السيد عبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وهي محاولة لكي لا يتحوّل العراق إلى ساحة منازلة إيرانية أمريكية، ورغبة في تخفيف الاحتقان الدبلوماسي بين طهران وواشنطن، على خلفية البرنامج النووي الإيراني.
إيران اليوم، قادرة على قلب الطاولة على الأمريكيين والبريطانيين، المتّـهمين بدعم جماعات عربية انفصالية في خوزستان، وهي لا تتوانى عن توسيع دائرة تحالفاتها، لتشمل المعارضين للعملية السياسية من السُـنة والشيعة، وتنفتح في وقت واحد على الشيعة والسُـنة والعلمانيين والإسلاميين، وعلى القوميات المختلفة، ويتّـهمها أكثر من طرف بإيواء (أو اعتقال) عناصر بارزة من تنظيم القاعدة، كانوا لجأوا إلى إيران، بعد سقوط حكومة طالبان.
في هذا السياق، لابد من التوقّـف عند الأساليب التي اتـبعتها إيران في الموضوع العراقي وآثارها على طبيعة الاصطفافات السياسية، حيث لا تركّـز إيران اهتمامها على الشيعة الإسلاميين، وربما تعتمد عليهم فقط في تمرير برنامجها النووي، وتتخلّـى عنهم، إذا دخلت في صفقة جدّية مع الولايات المتحدة، خصوصا عندما يتعلّـق الأمر بحماية كيانها السياسي من التفكّـك والانهيار، على غرار ما حصل للاتحاد السوفيتي السابق عام 1991.
ولا نأتي بجديد، إذا قلنا إن السّجال السياسي في إيران، بين الإصلاحيين والمحافظين، وبين أقطاب الحكم وأركان النظام، يترك تداعيات مباشرة على الملف العراقي، بل أن العراق هو واحد من أهم الموضوعات، التي يحتدم حولها النقاش داخل الجمهورية الإسلامية.

فرق الموت
تُتّـهم إيران من قبل أقطاب السُـنة وزعماء حزب البعث المختلفين في أقطار الأرض، بأنها تقف خلف العديد من فرق الموت، وهذا ما لم يُـثبت أو يتأكّـد لدى السياسيين الآخرين من الشيعة والأكراد.
وعلى العكس، فإن كل الدلائل، أيّـدتها تقارير لصحفيين أمريكيين مستقلين، أشارت إلى قوات الاحتلال التي قامت بتشكيل قوات الأمن الداخلي والشرطة، واعتبرتها مسؤولة عن تأسيس فرق الموت، التي لا تفرق بين عراقي وآخر ما دامت مهتمّـة بتنفيذ مهمّـة محدّدة، وهي جر العراقيين إلى الحرب الأهلية الشاملة.
ونشهد هذه الأيام جُـرأة لدى بعض المسؤولين العراقيين وهم يتحدثون أمام الملأ عن أمريكيين وبريطانيين، بل وحتى إسرائيليين، يجري اعتقالهم، خصوصا بالبصرة، متلبّـسين في عمليات إطلاق نار على مدنيين أو على الشرطة العراقية.
فالبصرة، التي تُـوصف على الدّوام بأنها الأكثر أمنا واستقرارا، تشهد هذه الأيام تطورات مثيرة على الصعيد الأمني، ودشّـنت أيضا ما يمكن وصفها بميزانية انفجارية لتفعيل قانون الاستثمار.
قبل أيام، تم خطف خمسة غربيين، وهم أربعة أمريكيين ونمساوي يعملون في شركة أمنية. كما احتُـجز خمسة بريطانيين يعملون في شركة حماية أهلية، وهو ما ألقى بتداعياته على مُـجمل التطوّرات الأمنية والسياسية في هذه المدينة الغارقة في ظلال النخيل.
وبينما يستمر البحث عن الأمريكيين والنمساوي من قبل القوات الأمريكية والبريطانية، وكانوا خطفوا على الخط العسكري، الذي يخضع لسيطرة القوات الأمريكية والبريطانية، فان مسؤول اللجنة الأمنية في البصرة اللواء علي حمادي يقول لسويس انفو، إنهم احتُـجزوا من قبل شرطة الجمارك العراقية، لعدم حيازتهم على وثائق أصولية، وحصل تبادل إطلاق نار معهم، جُـرح على إثرها شرطي من الجمارك وبريطانيان، توفي احديهما إثناء نقله إلى المستشفى.

سوريا والدور المرتقب
بعد ما أخفق العراقيون في الداخل في لملمة شعثهم وغسل جراحهم، ها هم اليوم يلمون طرفهم صوب إيران وسوريا.
وبالنسبة لسوريا، فإن زيارة وزير خارجيتها وليد المعلم إلى بغداد، وهي الأولى منذ سقوط نظام صدام حسين، اعتبرها العراقيون نقلة نوعية في العلاقات العراقية السورية، وأنها جاءت على وقع اتهامات لدمشق بمساعدة من تُـسميهم الحكومة العراقية بـ "الإرهابيين" وإيوائهم في سوريا، وقد تزامنت مع تفجير مروّع، استهدف المدنيين في مدينة الحلة نفّـذه انتحاري سوري.
طبعا، هذه الزيارة يجب ان تُتَـرجم إلى واقع عملي بعد تصريح المعلم، الذي أكد دعم دمشق للعملية السياسية في العراق وللحكومة العراقية.
كما أن الزيارة سبقها حوار هاتفي بين أمين عام الأمم المتحدة كوفي أنان، أجراه مع الرئيسين السوري بشار الأسد والإيراني محمود احمدي نجاد، وقد ركّـز على الملفين، اللبناني والعراقي.
فسوريا تلعب دورا مفصليا في العراق، وهي مع إيران على تنسيق إستراتيجي في مُـعظم الملفات من فلسطين إلى العراق، إلى العلاقات العربية الإيرانية، وكلا البلدين له من التأثير الواسع في البنية الاجتماعية العراقية، أكثر بكثير مما لأميركا وحلفائها. وسوريا تستفيد اليوم من التعثر الأمريكي المكشوف في العراق، ومتحفّـزة لقطف ثمار الأخطاء الأمريكية.
سوريا، التي يقيم فيها نحو مليوني عراقي مهاجر، تأوي أيضا قيادات في حزب البعث العراقي، وقد التقى مسؤولون فيها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر، الذي يرأس مجموعة دراسات أمريكية عن العراق، وإذن، فان زيارة المعلم إلى بغداد، ستعزز دور جهات عراقية نادت بفتح حوار سوري إيراني أمريكي لصالح العراق، وعقد قمة ثنائية بين العراق وسوريا، أو ثلاثية بين العراق وسوريا وإيران، بمباركة أمريكية.
فهل ستصبح سوريا وإيران أيضا، جزءا من الحل في قضية العراق، وليس جزءا من المشكلة، وهو ما تُـردّد باستمرار واشنطن ولندن، منذ سقوط نظام صدام؟

نجاح محمد علي ـ دبي
2/12/2006