صدام الأسطورة التي خلقها الأمريكان ثم سحقوها بأقدامهم

صناعة الطغاة أمر ليس بتلك الصعوبة خاصة في العصر الحديث وبعيد الحرب الكونية الثانية ، وبدء الصراع من اجل النفوذ الدولي بين القطبين الكبيرين الولايات المتحدة الأمريكية ، والاتحاد السوفييتي القديم إثناء الحرب الباردة ، حيث بداية نشاط وكالة المخابرات الأمريكية في صناعة الطغاة في العالم الثالث، وكان نصيب البلدان العربية الخارجة لتوها من الهيمنة الاستعمارية البريطانية والفرنسية نصيب الأسد من ذلك المسعى ، وكان صدام حسين احد أولئك الطغاة الذين كتب على مؤخراتهم ( MADE IN USA ) . وقد عرفت شعوب العالم الثالث ملازمين ونواب ضباط وعرفاء وجنود ، وحتى مدنيين وضعوا رتبا عالية على أكتافهم ليصبحوا جنرالات يسومون شعوبهم العذاب ، بعضهم تم التخلص منه كالعريفين بوكاسا وموبوتو ، وآخرين لازالوا يحكمون باسم ( الشعوب ) والعروبة الزائفة ، ولا زالوا ينتهكون حرمتها باسم ( حماية الثورة ) لحد الآن ، كالملازم ( العقيد ) القذافي ، والعريف ( العقيد ) علي عبد الله صالح في اليمن ، بينما دارت الدنيا على احد الجنرالات المزيفين وهو صدام حسين ووضعته الأم الحاضنة أمريكا في قفص الاتهام جزاء تعديه وتجاوزه على الخطوط الحمراء التي رسمتها له طوال هيمنتها وسيطرتها عليه هو وحزبه الفاشي الذي جاءت بهم للسلطة في 8 شباط 1963 .
فيوم كانت المعارضة العراقية تصرخ بأعلى أصواتها محاولة تنبيه العالم بالصوت والصورة ، والوثائق والشهود للناجين من مجازر حلبجة والأنفال ، وسم الثاليوم والخارجين من أقبية النظام السرية والشهادات الحية للخارجين على النظام من رجال أمنه ومخابراته ، وضحايا الانتفاضة الشعبانية في عام 1991 من القرن الماضي ، والعدد الكبير من شهداء البرزانيين ، وآل الحكيم ، كل ذلك لم ينفع مع العالم ( الحر ) الذي كان يتعامل مع صدام حسين بكل جديه وبدون تحسس من نظامه . حتى أمريكا نفسها الأم الرءوم والحاضنة الأولى لنظام البعث لم تقلب له ظهر المجن إلا بعد أن اعتدى على إحدى حليفاتها ، وهدد بصورة جديه منابع النفط التي تسيطر عليها باحتلاله للكويت عام 1990 .
ففي حربه مع إيران كان هناك فريق كامل من ( CIA ) متواجدا في بغداد باعتراف وفيق السامرائي احد أعمدة سلطة القمع الصدامية خاصة في حرب البعث ضد إيران . حيث كانت طائرات الاواكس المتواجدة في السعودية تزود العراق بكل تحركات القوات الإيرانية ، وكانت المشارك الأساسي في عملية إعادة الفاو للعراق وطرد القوات الإيرانية منها .
وشاركت كل دول العالم الغربي بتزويد النظام الدكتاتوري بكل وسائل القمع والقتل والابادة البشرية من دون استثناء ومن ضمنهم من كان ينادي بإحلال السلم في العالم من المنظومة الاشتراكية السابقة .
وشمرت كل الدول العربية قاطبة ماعدا ثلاث دول هي ليبيا وسوريا و’عمانْ عن سواعدها كل حسب إمكانيته لدعم النظام الدكتاتوري في حربه الكارثية ضد إيران . وكانت موانئ الكويت تبدأ العمل منذ منتصف الليل حتى طلوع الفجر لنقل المعدات والأسلحة على اختلاف أنواعها لصب الزيت على النار المشتعلة بين الدولتين . ووصل طيارون عراقيون للكويت للتدريب على طائرات الميراج 2000 الفرنسية في الأجواء الكويتية . وكانت معظم الطائرات العراقية التي تحاصر في الأجواء الإيرانية تدخل في المجال الجوي الكويتي من جهة الخليج الفارسي – مشاهدات عيانية للكاتب لطائرات عراقية في أجواء جزيرة فيلكا الكويتية - ، ناهيك عن الدعم الإعلامي لصحف وإذاعات وتلفزيونات دول الخليج الفارسي للتحريض على إدامة الحرب والعدوان على الشعبين العراقي والإيراني .
ثم وبقدرة قادر جرى اصطفاف غريب بين كل القوى المتصارعة في الساحة العربية بعد أن قام صدام حسين بفعلته التي كان معروفا مسبقا انه سيقوم بها بعد انتهاء حربه مع إيران وهي احتلال الكويت ، استثنت من تلك القوى الأردن وفلسطين واليمن والسودان ، وعرف العالم الذي كان يختلق عدم درايته بما يفعله الدكتاتور في داخل وطن مستباح اسمه العراق ، إن هناك دكتاتورا اسمه صدام حسين . يومها بدأت عملية هدم تدريجي لسلطة الطاغية وحزبه المشئوم ولكن بأمر وإصرار أمريكي بحت . ولم تسمح أمريكا أن يجري تحول للسلطة في العراق بالطريق الديمقراطي السلمي ، وذلك بتطبيق أحد قرارات مجلس الأمن الدولي لتحرير الكويت وهو القرار 688 الذي كان يدعو لإجراء الانتخابات في العراق وإشاعة الديمقراطية ، بل أصرت على السير قدما في الإعداد للحرب على النظام بالنهج العسكري دون اللجوء لمجلس الأمن الدولي واستصدار قرار ملحق بالقرار 688 ، وضمن البند السابع الذي يلزم السلطة العراقية بقوة المجتمع الدولي إجراء انتخابات ديمقراطية ، وتحت رعاية المجتمع الدولي والأمم المتحدة .
ولأن أحدا من صنائعها قد انتهت صلاحيته وتطلبت الظروف الدولية وما جرى على الساحة الدولية من تغييرات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ، وغياب العالم الاشتراكي الند القديم للولايات المتحدة الأمريكية ، فقد أسرعت الخطى نحو الحرب على النظام الدكتاتوري بغية إزالة العصابة الحاكمة وتغييرها حسب الطلب الأمريكي بوجوه بعثية جديدة ، لكن الرياح لم تجري بما اشتهته أمريكا فكانت عملية التغيير وبالا عليها وعلى الحزب الذي احتضنته وربته طوال أكثر من خمسين عاما . فقد انطلق المارد الذي كان محبوسا داخل القمقم واخذ يهدد الوجود الأمريكي نفسه ، بعد أن رفس بقدميه حثالة البعث ، ورماها في مزابل التاريخ .
وإذا عدنا للتاريخ القريب وتفحصناه نرى أن ليس شخص صدام الهزيل هو من صنع تلك الهالة الكبيرة حوله خلال ثلاثة عقود ونصف ، بل إن هناك خطة كانت معدة لظهور هذا الدكتاتور منذ بداية ستينات القرن الماضي يوم التقط البعث من بين أوساط شقاوات بغداد صدام حسين وكم شقي آخر التي لم تكن قيادته معروفة تماما للشعب العراقي ، وذلك لتنفيذ عملية اغتيال الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم وسط شارع الرشيد وبأيد أولئك ( الاشقيائية ) الذين كانوا لا يتوانون عن فعل أي شئ من اجل إدامة حياتهم المعيشية كونهم يمثلون أسفل السلم في المجتمع العراقي آنذاك . وتاريخ كل منهم يشهد على ذلك وصدام حسين احد أولئك( الاشقيائية ) الذين لم يفلحوا في الانخراط كأفراد أسوياء في المجتمع العراقي السوي . لذلك فلا غرابة حينما قال الرئيس الأوغندي السابق ( عيدي أمين ) عندما شاهد أول مرة صدام حسين ( إنه شاهده في إسرائيل في ستينات القرن الماضي عندما كان – أي عيدي أمين – يتدرب على الطيران الحربي فيها ) . أو ما كتبه خالد جمال عبد الناصر نجل الرئيس الراحل عبد الناصر عن اختفاء صدام حسين إثناء فترة لجوءه لمصر بعد أن ترك سوريا إليها . كذلك القصة التي رواها العماد مصطفى طلاس في كتابه نقلا عن الرئيس عبد الناصر الذي اخبرهم في إحدى لقاءاتهم معه بأن الرئيس السوفييتي اليكسي كوسيجين قد اخبره بان هناك جاسوس وسط الزعماء العرب ، ويريدون التأكد منه تماما ، وفي مؤتمر القمة العربية الذي عقد في القاهرة في سبعينات القرن الماضي اثر القتال الذي جرى بين الأردن والمنظمات الفلسطينية ، والذي توفي عبد الناصر أثره مباشرة اخبرهم بان السوفييت قد أكدوا له بأن توقعهم صحيح والشخص الذي شخصوه من الأول هو صدام حسين .
وروي ضابط مصري برتبة عالية لراديو صوت أمريكا في ثالث يوم لاحتلال الجيش الصدامي للكويت حادثة تثير الغرابة تماما عن صدام حسين والتي حدثت أيام كان لاجئا في مصر ، حيث قال : انه كان ضابطا برتبة صغيرة آنذاك وحضرت إحدى بنات الليل للمخفر الذي كان يعمل به تشكو طالبا عربيا أطفأ سيكارته في مناطق حساسة من جسدها بعد قضاء وقت ممتع معها . لذلك أرسلتها للطبيب الشرعي كما قال الضابط الذي زودها بتقرير عن مناطق الإصابات والحروق في جسدها ، ولذلك سارعت لإلقاء القبض عليه بعد مداهمة شقته ، ولم يمر وقت طويل على اعتقاله واستجوابه حتى وصلني تلفون من مكتب وزير الداخلية آنذاك يأمرني بإطلاق سراحه فورا. وهذا التصرف جعلني أتميز غيضا وأتحين الفرص للقبض عليه مرة ثانية ، حيث وضعته تحت المراقبة ووصلتني معلومات عن زيارات متعددة للشقة التي يسكنها الطالب المذكور ، فاستصدرت أمرا من النائب العام وداهمت الشقة وبعد تفتيشها عثرت على ضالتي وهي رسالة تطلب الاهتمام بتقوية التنظيم ، مع وجود مسدس . وعند وضعه في الحجز اتصل بي بعد اقل من ساعة مكتب الرئيس عبد الناصر يأمرني بإطلاق سراحه حالا . وبذلك عرفت مكامن القوة التي تقف ورائه ، وتركت ملاحقته .
لذا فلا غرابة أن يعود البعث مرة أخرى للسلطة ويسحب البساط في يوم 30 تموز 1968 من تحت أرجل شركائه من محور النايف – الداوود ، ويصفي بعد ذلك من خلال مكتب حنين كل من يشك بولائه لمحور صدام – البكر ، ويصعد صدام حسين بقدرة قادر من حارس يقف برشاشه خلف البكر يوم 30 تموز 1968 إلى نائب للبكر متخطيا كل القيادات البعثية ، رغم معرفتهم جميعا إن من كان يدل رجال الأمن على بيوت ( الرفاق ) يوم انقلاب شريكهم عليهم في 18 تشرين 1963 العقيد عبد السلام عارف هو نفسه صدام حسين .
وقد جاهدت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA لكي يكون صدام حسين رجلها القوى في المنطقة بعد رحيل شاه إيران ، وسقوط إيران بيد رجال الدين الإيرانيين المتشددين بقيادة المرحوم الخميني ، لذلك وقفت بكل قوتها وهي تأمر حليفاتها في المنطقة من دول الخليج بمعاضدة ومساعدة نظام صدام حسين ماديا ومعنويا وإعلاميا لكي لا يخسر المعركة ضد إيران .
ولعب تأميم النفط في العراق وزيادة أسعاره في منتصف سبعينيات القرن الماضي دورا مهما في تسليح الآلة العسكرية البعثية ، وتوفير غطاء ديماغوجي من خلال رشاوى النفط للعديد من الكتاب والصحفيين والسياسيين لكي يرسموا هالة خرافية كبيرة حول شخصية صدام حسين ، واستمر هذا الخداع للعالم حتى بعد سقوط القناع العروبي الذي تلبس به صدام حسين ونظامه القمعي اثر هزيمته المخزية من الكويت بعد تحريرها على يد قوات التحالف الدولي ، وتعرض الشعب العراقي لحصار مزودج ، حصار النظام الفاشي القمعي من الداخل ، والحصار الاقتصادي من الخارج . وظلت نفس الأبواق السابقة تزمر وتطبل لـ ( القائد الضرورة ) وتسبح وتمجد بحمده ليل نهار من على فضائيات العروبة دون أن يرف لها جفن ، وهي ترى آلاف الأطفال يموتون يوميا بسبب نقص الدواء والغذاء بينما ( القائد ) مستمر في بناء قصوره الفارهة ومنتجعاته العديدة .
وعندما حانت ساعة القصاص الأمريكي من النظام الذي تخطى كل الخطوط الحمر بدون تروي أو تفكير بـ ( الراعي ) الأمريكي تعالى صراخ غلاة العروبيين ، متنادين باسم خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي ، رمز القهر العربي والإسلامي بغية إنقاذ ( بطلهم ) الأسطورة ، خاصة بعد هروبه مع كبار جنرالاته ( الشجعان ) أمام أول دبابتين أمريكيتين دخلتا ساحة الفردوس يوم 9 نيسان 2003 ، ليخسر ( بطل العروبة 9 امتحانه العسير أمام أمه الرءوم التي أرضعته ( حليب الوطنية ) أمريكا .
وحتى عندما عاد البعث ممثلا برجال أمنه ومخابراته وفدائيي صدام المنهزمين للساحة العراقية ولكن بوجوه ملثمة هذه المرة ليواصلوا إبادتهم للشعب العراقي التي استمروا عليها منذ يوم 8 شباط 1963 بحجة المقاومة ، فقد استلهموا كل جرائمهم بأسماء طغاة العرب القدماء ، وتوسلوا بتاريخ بائد لا حياة فيه لكي يستنهضوا همم ( بواسلهم ) الذين فروا بكل خزي أمام دبابتين أمريكيتين فقط ، متناسين تاريخهم المزور الذي رسموه لأبطالهم المنقرضين أمثال قاطع الطريق الشيخ ضاري ، الذي قتل الكولونيل الإنكليزي لجمن ليس لأنه ثائر كما وصفه إعلام البعث وصوره للناس بل لان الكولونيل لجمن قال له انظر لكلبي هذا فانه أنظف منك . واختفت (بطولات ) صدام حسين التي رسمها له عبد الأمير معله في فلم ( البطولة المزيفة ) – الأيام الطويلة – لتضمه حفرة العنكبوت التي اخرج منها ذليلا مكسورا بدون نجوم ولا سيوف متقاطعة تلمع بزيف على كتفه فقط لان أمريكا قد اعتزمت إطلاق النار على الكلب الذي ربته بعد أن نهش إحدى قدميها .
وهكذا كان فقد صنعت إدارة المخابرات المركزية الأمريكية البعث وصدام حسين بيديها ، وعندما حانت ساعة التخلص منه داست عليه بقوة وعنف بقدميها .

آخر المطاف : هناك مثل عراقي جميل يتمثل فيما حصل بين أمريكا وصدام حسين فالمثل يقول (الچريدي لو سكر .. يمشي على شوارب البزون ) .

وداد فاخر
alaa_ahmed2005@hotmail.com
شروكي من بقايا القرامطة ، وحفدة ثورة الزنج
15/11/2006