آمال ستذروها الرياح!!

يبدو أن الولايات المتحدة باتت تتشبث بأية قشة لإنقاذ نفسها من الغرق في المستنقع العراقي الذي صنعته سياستها الحمقاء في العراق ، فهي التي غزت العراق بحجة إسقاط نظام ربيبها صدام الذي ربته منذ كان يافعا، وجندته لتنفيذ مشاريعها الاستعمارية للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط ، ودفعته لشن الحرب على إيران ، تلك الحرب الإجرامية التي ليس لشعب العراق فيها ناقة ولا جمل ، كما يقول المثل ، وهي التي دفعته لغزو الكويت الشقيق ناصبة له الفخ المعروف لدى كل المتتبعين للسياسة الأمريكية، بغية تجريد صدام من الأسلحة التي زوته بها خلال الحرب مع إيران، بعد أن استنفذت أغراضها، لكي لا تكون مصدر تهديد لمصالحها في الخليج ، أو تهديد حليفتها وقاعدتها العسكرية المتقدمة في الشرق الأوسط [ إسرائيل] ، بعد أن أحست أن تطلعات ربيبها صدام باتت تتجاوز حدود العراق لكي يجعل من نفسه إمبراطوراً للخليج ، وهكذا اتخذ الرئيس الأمريكي بوش قراره بتصفية نظام صدام ، وسحق القدرات العسكرية للجيش العراقي .

ولم يكتفِ بريمر الذي نصبه بوش حاكما على العراق المحتل بسحق القدرات العسكرية للعراق ، بل سارع إلى حل الجيش وجهاز الشرطة وكافة المؤسسات الأمنية لكي يبقَ العراق دون سيطرة أمنية ، وفسح المجال أمام العصابات الإجرامية الشريرة التي أطلقها دكتاتور العراق صدام من السجون، والتي يتجاوز عددها عشرات الألوف من المحكومين بأحكام ثقيلة بجرائم القتل والسرقة والاغتصاب ، لكي تعيث في البلاد نهباً وتخريباً وتدميرا لكافة المؤسسات العراقية المستباحة ، وكأن جيش الاحتلال الأمريكي لا يعنيه ذلك وهو المسؤول عن الأمن والنظام وحياة المواطنين بموجب القانون الدولي الذي حدد مسؤولية جيوش الاحتلال .
لقد حولت أمريكا بقرارها حل الجيش والمؤسسات الأمنية، أعداد كبيرة من الجنود والضباط وأفراد الشرطة والأمن والمخابرات من المنتمين لحزب البعث إلى جيش هائل من الإرهابيين ، وتغاضت عنهم في بداية الاحتلال لكي ينظموا أنفسهم ، ويستعيدوا أنفاسهم ، ويطمئنوا إلى الديمقراطية الأمريكية التي لم تركز جهودها إلا على اعتقال 55 من أعوان صدام ، وكأن هؤلاء وحدهم هم الذين ساموا الشعب العراق العذاب طيلة أربعة عقود من حكمهم الكريه، والغى الحاكم الأمريكي بريمر حكم الإعدام مبشرا بالديمقراطية الأمريكية وحقوق الإنسان !! والتي تحولت بسرعة خاطفة إلى حقوق المجرمين في إذاء الشعب العراقي ببشاعة منقطعة النظير فكانت سياراتهم المفخخة بعشرات القنابل، وعبواتهم الناسفة المزروعة في الطرقات لإيقاع أكبر قدر من الضحايا في صفوف المدنيين الأبرياء ، بل لقد طوّرَ المجرمون أساليبهم ووسعوا من أهدافهم الشريرة بعد أن لم يلقوا العقاب الصارم ، فكانت عمليات القتل والاغتصاب وخطف الأطفال والنساء وطلب الفدية من ذويهم بآلاف الدولارات ، وفي غالب الأحيان يقبضون على الفدية ويقتلون المختطف ويلقونه في احد الطرقات أو في المزابل طعاماً للكلاب ، وبات المواطن العراقي اليوم لا يأتمن على حياته وحياة أفراد عائلته حتى داخل بيته بعد أن وصل الانفلات الأمني إلى مداهمة البيوت الآمنة من قبل عناصر من شرطة صولاغ المليشياتية التابعة لمنظمات بدر، وجيش المهدي، وثار الله، وحزب الله وغيرها من المليشيات التي جاوزت أعدادها 33 مجموعة ، والتي أطلق عليها الشعب [ فرق الموت]، إلى جانب العصابات البعثية وحلفائها من قاعدة ابن لادن الربيب الآخر لأمريكا الذي جندته لمحاربة الشيوعية في أفغانستان .
لكن الكارثة الكبرى الأخرى التي سببتها الولايات المتحدة في العراق والتي تمثلت في تشكيل ما سمي بمجلس الحكم على أساس طائفي ، والإتيان برجال الدين ليتولوا شؤون العراق السياسية ، ومن ثم تشكيل حكومات محاصصات طائفية ، وتوكيل تلك العناصر الطائفية والعنصرية بطبخ الدستور على عجل ليأتي بصيغته الطائفية المتخلفة ، وليفتح المجال واسعاً أمام الأحزاب الإسلامية الطائفية الشيعية لتمزيق العراق باسم فيدرالية الجنوب والوسط، وليدخل البلاد في حرب طائفيه لم يشهد لها الشعب العراقي مثيلا من قبل في كل تاريخه الحديث . لقد خلقت هذه السياسة الخرقاء للولايات المتحدة في العراق صراعا طائفيا مقيتا وخطيرا، فقد اندفع الطائفيون السنة من رجال الدين يحرضون على مقاومة الإرهاب الطائفي الشيعي ، وتحالفت الأحزاب الطائفية السنية مع زمر حزب البعث المنحل لكي يتوسع الصراع الطائفي نحو الحرب الأهلية التي نشهد اليوم بداياتها التي باتت تزهق كل يوم أرواح المئات من أبناء الشعب، وبات الانتماء الطائفي يستوجب القتل من كلا الطرفين على الاسم وعلى الهوية ، وكل ذلك يجري باسم الدين حتى غدا المسلمون في عيون شعوب العالم أجمع إرهابيون قتلة وسفاكي الدماء .
لقد بات العراق اليوم على كف عفريت، وباتت الأوضاع تنذر بنشوب حرب أهلية طائفية لا تبقي ولا تذر، وبات الأمريكيون يتخبطون في سياستهم الحمقاء ولا يعرفون كيفية الخروج من هذا المأزق الذي وضعوا أنفسهم به ، ووقع ضحيته الشعب العراقي الذي يعيش اليوم محنة ما بعدها محنة ،حيث أفادت التقارير باستشهاد 650 ألف مواطن ومواطنة ، ومئات ألوف العائلات المشردة التي أجبرتها العصابات الطائفية على مغادرة سكناها مهددة إياها بالموت الزؤام ، في حين تعيش اليوم في الخيام تفتقد ابسط الشروط الصحية ويعضها الجوع القاسي ، في حين هجر العراق ملايين المواطنين ، وبضمنهم معظم كفاءات العراق ، ورجال الأعمال، نحو الأردن وسوريا ومصر والإمارات، وشهدت الدول الأوربية والأمريكية واستراليا موجة عاتية من العراقيين الطالبين اللجوء الإنساني هرباً من الموت.
لقد فشلت كل الخطط الأمريكية والحكومة التي نصبوها لوقف هذا الطغيان الطائفي المتوحش الذي يطحن بالأبرياء من المواطنين كل يوم، وبات الوضع ينذر بوقوع الكارثة ، فتفتق ذهن الولايات المتحدة عن خطة لجمع رجال الدين الشيعة والسنة في مؤتمر يعقد اليوم في مكة برعاية الملك عبد الله، والمؤتمر الإسلامي، في محاولة أخيرة لإنقاذ الموقف المتدهور في العراق نحو حافة الهاوية .
لكن الآمال المعقودة على هذا المؤتمر تبدو بعيدة المنال، فالأزمة العراقية الراهنة أخطر وأكبر من ذلك بكثير ، ولن تحل بتقبيل اللحى بين المعممين أزمة العراق أبداً ، لسبب بسيط هو أن الأزمة العراقية ليست دينية طائفية ، بل هي في واقع الحال سياسية بحتة ، يجري استخدام الطائفية كوسيلة فعالة من وسائل الصراع ، أنها صراع على السلطة ، وصراع على الثروة ، وهؤلاء المعممين الذين يقودون ويحرضون على الصراع ، ويدفعون تابعيهم كما يدفع الرعاة الأغنام إلى القتل والتخريب هؤلاء لا دين لهم، ولا يهمهم سوى السلطة والمال والثروة ، وهم جميعاً مرتبطون بوشائج مختلفة مع دول الجوار تدعمهم وتسلحهم وتمدهم بالأموال، وتسخر لهم وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة لكي يزيدوا النار اشتعالاً ، ولكل دولة من هذه الدول مصلحة وشؤون في هذا الصراع المجنون.
إن الأزمة العراقية اليوم تمر في اخطر مراحلها، والحكومة الحالية ومجلس النواب الطائفي بوضعه الحالي لا يمكن أن يعتبر جزءاً من الحل ، بل جزء من المشكلة فمجلس الوزراء يضم قادة للميلشيات التي تمارس الإرهاب ومجلس النواب موزع بين قادة هذه الميليشيات ، ولذلك فإن مؤتمر كهذا لا يلبث أن تذروه الرياح الطائفية لينتشر لهيب الصراع المخيف، فهل من مدرك لهذا الخطر الرهيب ؟؟؟
إن الحل الوحيد الذي يمكن أن يجنب العراق ويلات الحرب الأهلية يتطلب تشكيل حكومة مركزية قوية ومصغرة ، وذات صلاحيات واسعة لتصفية كل المليشيات المتواجدة على الساحة العراقية، وتنظيف الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية من كل العناصر الطائفية ، وحل المجالس المحلية في الوقت الراهن وتعيين محافظين خاضعين للحكومة المركزية مباشرة ، ويتمتعون بسلطة واسعة لإعادة الأمن والنظام في المحافظات كافة ، وتطبيق قانون الطوارئ لمدة زمنية كافية للقضاء على النشاط الإرهابي في البلاد ، وعندما يعود الأمن والسلام في ربوع العراق ، عند ذلك يمكن تكليف لجنة من كبار رجالات القانون الدستوري لوضع دستور علماني ديمقراطي جديد بعيداً عن الطائفية ، وعن تدخل رجال الدين ، وتشريع قانون جديد للأحزاب يمنع قيام أحزاب على أساس ديني أو طائفي ،أو عنصري، وتتعهد الأحزاب باحترام الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة ، واحترام حقوق الإنسان وحرياته العامة والخاصة بما لا يتجاوز حقوق وحريات الآخرين، وانتخاب برلمان جديد، يقرر شكل الفيدرالية لمنطقة كردستان العراق بما يحفظ وحدة العراق شعبا ووطنا ، والسعي الحثيث لإعادة اللحمة بين سائر مكونات الشعب العراقي عامة والشعبين العربي والكردي خاصة ، ونشر ثقافة الحوار والقبول بالرأي والرأي الآخر سبيلا لتجاوز كل المعوقات التي تحول دون عودة الصفاء والأخوة والمحبة بين سائر أطياف الشعب.

حامد الحمداني
20/10/2006
H.Alhamdany@comhen.se