هل من مصالحة دون مصارحة؟
مصالحة أم مفاوضات؟

ظهرت منذ فترة دعوات "مصالحة" أطلقها ممثلو التحالف الكوردستاني والائتلاف العراقي الموحد من أجل وضع حد للقتال والإرهاب والهدم العشوائي الجاري في العراق وللدخول في العملية السياسية. ولم نسمع بمثل هذه الدعوات من القوى المسلحة.

المصالحة تتم عادة بين المخطئ والضحايا أو بين الجناة والمجني عليهم. المصالحة تتطلب اعتراف المخطئ الجاني بخطأ فعلته أو أفعاله والتعبير عن أسفه، دعك عن الاعتذار عنها، وقبول الضحايا والمجني عليهم بذلك الاعتراف بالخطأ. وهذا ما حصل في المصالحة التي جرت في جنوب إفريقيا مثلا، وفي كوردستان العراق بعد انتفاضة آذار 1991 حيث جرى نوع من "المصالحة" في عندما أعترف الفرسان بأخطائهم ووعدوا بعدم تكرارها وتم قبول ذلك من قبل ضحاياهم.

غير أن الغريب (أم هل هو كذلك؟) أن المصالحة في العراق تختلف عن المفهوم العام للمصالحة. فالمخطئين الجناة يتبخترون ويزهون ويغترون بالأفعال المنكرة التي اقترفوها بحق الغالبية العظمى من أبناء وبنات شعب العراق، من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، ويصرحون بذلك علانية، وبكل بفخر واعتزاز، للصحف والإذاعات ومحطات التلفزيون، وبدون أي ندم أو وازع من ضمير أو خجل ويتباهون بما حققوه على الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء والعزل العراقيين من "انتصارات باهرة" لا تفوقها سوى "انتصارات" هولاكو التي ملئت دجلة بدماء العراقيين – كما قرأنا في كتب مادة التاريخ في المدارس في العراق.

لقد حققوا "الانتصارات الباهرة" حين قتلوا الأطفال والنساء والشيوخ العزل ودفنوا الأحياء في قبور جماعية وقصفوا مدنا وقصبات بالأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا، وابعدوا أكثر من نصف مليون عراقي من الكورد الفيلية إلى خارج "البوابة الشرقية" واجبروا حوالي أربعة ملايين عراقي على ترك العراق هربا من البطش والتنكيل في غياهب السجون وفي أقبية وزنزانات ودهاليز الأمن والمخابرات والأماكن السرية الأخرى ، وحين شنوا الحروب العدوانية العبثية على الشعوب الجارة، "فارسية مجوسية" كانت أم "عربية إسلامية"، وملئوا السجون والمعتقلات بالرجال والنساء واعدموا الكثيرين منهم وأحكموا قبضتهم الحديدية على رقاب شعب العراق عن طريق أجهزة الدولة التي كانت في خدمتهم، وجلبوا الويلات لكل عائلة في العراق بسبب الحروب والحصار الاقتصادي وسوء الإدارة والفساد المالي. لقد أقدم الصداميون على فعلتهم المنكرة الأولى حين قتلوا بتهم ملفقة العديد من قادة حزب البعث بعد سيطرة صدام رهطه على حزب البعث وعلى العراق وسخروا أجهزة الدولة في خدمة أقلية من الشعب العراقي ووضعوا خيرات العراق تحت تصرف هذه الأقلية، تارة باسم العروبة وتارة أخرى باسم الإسلام.

وألان يقومون بأبشع من تلك الأفعال خارج نطاق أجهزة الدولة بقتلهم الناس الأبرياء بشكل عشوائي دون تمييز بين أطفال ونساء ورجال وينحرون رقابهم ويمثلون بجثثهم ويلقون بجثث دون رؤوس على قارعة الطريق هنا وهناك، ويشردون الناس ويغتصبون النساء والبنات ويدمرون الضرورات الأساسية لشعب العراق من ماء وكهرباء ومحروقات. يتباكون وينحبون ويملئون الدنيا صراخا وعويلا على مقتل أطفال في لبنان وهم يقتلون نحرا وذبحا وبالهاونات والمفخخات والانتحاريين العشرات من أطفال العراق يوميا ويبتهجون لتلك الانتصارات الباهرة على "الأعداء"

استخدم الطاغية صدام وبطانته لغة العربدة والتهديد والوعيد والانتقام (لغة "الشقاوات" التي اعتاد عليها عزت الدوري عند مخاطبته ملوك ورؤساء الدول العربية في قممهم خاصة قمة الرياض ولغة الصحاف – صاحب العلوج – في مؤتمراته الصحفية أثناء حرب 2003)، والآن يلجأ الصداميون إلى نفس اللغة، لغة العربدة والتهديد والوعيد والغدر والانتقام حين ينجحون (إذا "انجبرت أيديهم") في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى زمن دكتاتورية القلة القليلة الطاغية المتكبرة، واستخدام لغة أيام زمان الحكم الشمولي المطلق، لغة التهديد والوعيد والغدر والانتقام والقتل والتدمير ليست مؤشرا على النية الحسنة أو "المصالحة". ويبدو أن لا لغة أخرى لهؤلاء ألصداميين غير لغة العربدة والتهديد والوعيد والانتقام ، ولا توجد في قواميس لغتهم مفاهيم الحوار والتفاهم والاعتراف بالخطأ والتعايش السلمي وقبول ألآخرين. قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد "إنّا خلقناكم شعبوا وقبائل لتعارفا. إن أكرمكم عند الله اتقاكم"، ولم يقل الله سبحانه وتعالى إن أكرمك عند الله هو من يطلق أقوى التهديد والوعيد ومن يغدر بأصحابه ويقتل الشعوب والقبائل الأخرى ويغتصب نسائها ويسبي أهلها ويدمر ديارها ويقطع رؤوس أطفالها ويمثل بجثثهم.

تنبغي الإشارة هنا إلى عامل ثقافي مهم يجعل من الصعب على دكتاتور متعجرف مثل صدام وعلى أنصاره ومؤيديه ومريديه الاعتراف بالخطأ مهما كان واضحا ذلك الخطأ، ويجعل من الصعب على أصحاب ثقافة الموت والقتل (قتل النفس وقتل الآخرين) على قبول التعايش مع ضحاياهم السابقين، خاصة إذا كانت هذه الثقافة ثقافة مبنية على العنف والإرهاب وتمجيد الموت واعتبار الحياة (النعمة التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على الإنسان والحيوان والنبات) لا قيمة ولا أهمية لها أبدا. إضافة إلى الأوراق والدفاتر "الخضراء"، يدخل أصحاب هذه الثقافة في عقول البعض (من الذين يقتلون أنفسهم – الانتحاريين – ويقتلون الآخرين من الأبرياء، ومن الجزارين ناحري رقاب الأطفال وقاطعي رؤوس البشر) أن أبواب الجنة مفتوحة أمامهم والحوريات البكر بانتظارهم والنبي محمد (ص) في استقبالهم بحفاوة وبمآدب تحوي ما لذ وطاب من مأكل ومشرب!

يعمل أنصار ومريدي النظام السابق إلى ألآن كل ما بوسعهم للإبقاء على أفكار وممارسات و"رموز" النظام السابق أو إعادة الملغي منها إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا. لذا اثأروا زوبعة في فنجان فارغ حول وضع العلم ألصدامي في إقليم كوردستان، لأنهم يعرفون حق المعرفة انه يمثل ويرمز إلى ذلك النظام وليس للعراق كشعب ووطن. وإلا فلماذا إذن غير قادة ثورة 14 تموز 1957 (الذين كان من بينهم العديد من البعثيين والقوميين العرب) علم العراق في عهد النظام الملكي إذا كان يرمز إلى العراق شعبا ووطننا؟ ولماذا غير القادة البعثيين والقوميين العرب لانقلاب شباط الأسود عام 1963 علم العراق في عهد عبد الكريم قاسم إذا كان يرمز إلى العراق شعبنا ووطنا؟ ولماذا يحرق علم الولايات المتحدة الأمريكية عندما تخرج تظاهرات غاضبة ضد سياساتها إذا كان ذلك العلم يمثل الشعب والوطن الأمريكي وليس رمز لسياسات الولايات المتحدة؟ ولماذا ترفع أعلام الجيوش المنتصرة وتنزل أعلام الجيوش الخاسرة في كل زمان ومكان مع أن أوطانها وشعوبها باقية؟ ولماذا تغيّر أعلام الدول بعد حصول تغيرات سياسية كبيرة أو مهمة فيها؟ لماذا التجني على الحقائق؟ وعلى ذقون مَن يضحك هذا البعض؟

كما أن صدام ورهطه لم يقتلوا ألآلاف المؤلفة من العراقيين ولم يهدموا بيوتهم وقراهم ولم يغتصبوا نسائهم وبناتهم ولم يعتدوا على كل ضحايا النظام السابق بأنفسهم لوحدهم رغم إصدارهم الأوامر ومسؤوليتهم عنها، ولكن كان هناك الآلاف، إن لم يكن عشرات الآلاف، في صفوف الحزب والقوات المسلحة والأمن والمخابرات وفدائيي صدام وغيرها من الذين اقترفوا هذه الأفعال المنكرة وتفننوا فيها وتلذذوا لها وقدموا المقترحات لجعلها أشد وطأة وأكثر إيذاء وتلوا آيات من الذكر الكريم والأحاديث النبوية لتبريرها والدفاع عنها وتمجيدها. وكان قسم منهم أسوء من صدام وبطانته واشد قسوة. ذكر شخص مطلع أن احد أئمة المساجد في الموصل التقي صدام في حينه وعاتبه على عدم التزامه الدقيق بآية "الأنفال"، فاستغرب صدام وسأله كيف؟ فأجاب إمام الجامع "سيدي الرئيس انك صفيتهم وأخذت مالهم ودارهم ولكنك لم تعطنا نسائهم وبناتهم لنتمتع يهن"!

إن ما يجري ألآن هو "مفاوضات" بين مجموعات رفعت السلاح ضد النظام الجديد وقتلت وسببت الدمار للشعب العراقي واتخذت من الإرهاب وسيلة لمحاولة فرض نفسها وأفكارها وممارساتها السابقة واستعادة امتيازاتها السابقة وهيمنتها على جهاز الدولة وجعله من جديد تحت إمرتها ووضع موارد العراق في خدمة مصالحها الفئوية الضيقة، وبين السلطة التنفيذية الفدرالية. كما يلاحظ بشكل صارخ إهمال وغياب الضحايا المجني عليهم أو ممثليهم وتدليل من قبل البعض للمخطئين رغم استمرارهم في عنجهيتهم وتهديداتهم المعروفة وعدم إخفاء افتخارهم وزهوهم بما أقدموا عليه من أفعال منكرة بحق العراقيين ألأبرياء العزل. ويتساءل كثيرون كما تساءل احد الإخوة مؤخرا "لماذا لا تسمى الأشياء والأمور بأسمائها الحقيقية" في بلداننا من قبل ذوي الأمر؟ هل لأنهم في أغلب الأوقات لا يقولون ما يقصدون ولا يقصدون ما يقولون؟ أم هل هو لنجمل ما هو قبيح ومنكر؟ لماذا نسمي المفاوضات صلحا؟ هل هو للجهل بمعنى هذه الكلمة وهذا التعبير؟ أم لماذا؟ ما هو جوابكم للضحايا؟ ماذا تقولون لضحايا القبور الجماعية؟ لضحايا انتفاضة 1991 من العرب والكورد التركمان وغيرهم؟ ولضحايا الإبعاد ألقسري والمصادرة ولعائلات وذوي المحجوزين المغيبين من الكورد الفيلية؟ ولضحايا الأنفال؟ ولضحايا الأسلحة الكيماوية؟ ولضحايا ألاهوار المجففة؟ ولضحايا الغدر ألصدامي بالبعثيين في بدأ هيمنته على الحزب وبالقوميين العرب فيما بعد؟ ولضحايا ألإرهاب العشوائي الأعمى والدمار الذي تسببه للعراقيين عموما وبدون تمييز هذه المجموعات المسلحة وحليفاتها المجلوبة من الخارج؟ هل يعترف هؤلاء بأخطائهم بحق ضحاياهم من العراقيين؟ وهل هم آسفون على ما سببوه للعراقيين من مآسي وويلات ودمار وخراب؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فعندئذ يمكن الكلام عن "المصالحة" وإلا فما يجري لا يمكن أن يسمى سوى "مفاوضات".

أمجد الشيخلي
4/9/2006