دم رخيص وأمن مفقود..

تجنبت الكتابة عن الوضع العراقي عدة أسابيع تعبيرا عن الشعور بالمرارة والإخفاق، وكان بعض الأصدقاء الأعزاء قد أكدوا أن من واجب الكاتب الوطني التعبير عن رأيه، سواء كان خطأ أو صحيحا، وسواء جرى تجاهله أم وجد من يقرأه ويهتم به. بقيت مرارتي هي هي وهو ما جعل البعض يضعني في خانة المتشائمين.
صحيح وجدت في العالم حالات انطبق عليها المثل "اشتدي أزمة تنفرجي" أو لا يصح في النهاية غير الصحيح. ولكن بأي ثمن وبكم من السنوات "العجاف" المظلمة؟
وصفت قبل حوالي شهرين الوضع العراقي ب"الجحيم العراقي"، وكلما يمر يوم علينا أزداد شعورا بأن العراق هو حقا في جحيم حقيقي على الأرض بدل أن ينتقل نحو الأفضل بعد التاسع من نيسان 2003.
فأما الوضع الأمني فاقرأ عليه السلام مما يجعلني حائرا جدا إزاء تصريحات كبار المسؤولين الحكوميين عن أن القوات العراقية صارت قادرة على تحمل كامل المسؤوليات الأمنية ولوحدها.
وهذه بعض الوقائع عن استمرار تردي الوضع الأمني:
ازدياد عدد القتلى والجرحى من شهر لشهر، وازدياد عدد عمليات التفخيخ القنابل المتفجرة والضرب بالهاونات. ووفقا لآخر التقارير العسكرية الأمريكية في العراق فإن عدد المتفجرات المزروعة تضاعف منذ بداية السنة؛ ففي كانون الثاني/ يناير الماضي كان العدد 1400 انفجرت منها 700، أما في تموز المنصرم فالعدد وصل 2625 قنبلة انفجرت منها 1666 و اكتشف منها مسبقا 959.
لقد بلغت هجمات الإرهابيين الصداميين والقاعديين التكفيريين أعلى المستويات في الشهور الأخيرة وازدادت الهجمات على المدنيين والقوات العراقية والقوات الأمريكية. وعلى صعيد آخر وربما أخطر تصاعد عمليات التطهير والعزل الطائفيين التي تنفذها القوى والعصابات المسلحة من الطرفين السني والشيعي، وصرنا في وضع صارت فيه مناطق وأحياء عراقية مقفلة لأصحاب هذا المذهب أو ذاك. وقد نشرت صحيفة "الحياة" يوم 19 آب الجاري تقريرا معبرا عن الحالة الطائفية في العراق. العنوان نفسه يفسر المحتويات والوقائع الواردة في التقرير: " صور المراجع تنقذك في مناطق الشيعة وأغاني المقاومة تنجيك في مناطق السنة."!!
لم تنجح الحكومة مع كل أسف في إلحاق ضربات قاصمة بالإرهابيين وبقوى الجريمة المنظمة، ولم تستطع تنفيذ وعدها بحل المليشيات، التي راحت تستعرض عضلاتها وسلاحها علنا في بغداد والبصرة والحلة وكل الجنوب، وخصوصا ما يسمي بجيش المهدي الإيراني الصنعة والولاء وأعوان الصرخي وأمثالهما. ومما يزيد الأوضاع تفاقما وخطورة اشتداد خطر التدخل العشائري في شؤون الدولة وانتهاك الأمن، وإن ما جرى في البصرة منذ أيام شاهد أخير وليس بالشاهد الوحيد. إن انتعاش الولاء والعصبية العشائريين بدأ زمن صدام في العقد الأخير من حكمه حيث وظف العشائرية لتثبيت سلطته الغاشمة. أما الحكام الجدد فلم يعملوا شيئا لوقف الزحف العشائري على السياسة بدل أن تظل العشائر عامل استقرار وتضامن. وقد عبر الكاتب المتميز رشيد الخيون في مقالته الأخيرة في "الشرق الأوسط" يوم 19 آب الجاري، عن خيبته ومرارته من استفحال العصبية العشائرية، وهو أصلا من أبناء العشائر. وكان مقاله تعليقا على هجمة عشيرة بنو أسد التي تنتمي لها عائلته، على مبنى محافظة البصرة، مما جعله يكتب:
" أين أنا وتقاليد العشيرة التي هجرتني وهجرتها! لكن وكما يبدو أن انفعال من يعيش المأساة غير انفعالي، وليس لي الحق في الحديث عن عراق جديد، ومتجدد، وعن سقوط طاغية وسلطة دكتاتورية، بل ليس لي حق التذكير بعصر أبي نواس وحداثتها التي تبدو منتمية إلى عصر الفضاء والإنترنيت.." ويضيف الخيون، وهو في هذا كأنه يعبر عن شعوري وخاطري:
"تعيش البصرة وغيرها من بلدان العراق انتعاش العشيرة والمذهب وكل ما يضيق العقل ويحزن الصدور، ومع ذلك الانتعاش تنشأ أجيال مفارقة للضياء مكبلة بداء الطائفية، وما يصاحبه عادة من الجهل والتجهيل. هذا عصر مقتدى الصدر، وقوله " لا أستطيع حل جيش المهدي لأنه من صلاحيات الإمام." هذا عصر آية الله الصرخي الحسني، وهو يلتقي بالإمام المهدي المنتظر على مدار الساعة. هذا عصر ليس كبقية العصور، ينفرد بجهله وقسوته، مع ما يصاحبه من ادعاءات شفافة: حرية، فيدرالية، ديمقراطية!"
ترى هل من حاجة لإضافة اتساع التدخل الإيراني في الجنوب ومفاصل الدولة، وتهريب النفط،، والفساد الإداري والمالي، وسقوط الخدمات سقوطا مروعا في حر بغداد الذي هو وحده جهنم يشوي الأبدان؟ ولكي لا أطيل أحيل القارئ أيضا لمقال ممتاز للكاتب العراقي جابر حبيب جابر في "الشرق الأوسط" يوم 20 آب الجاري عن هذا كله، وفشل الحكومة في معالجة الملفات الساخنة وخصوصا ملفي الأمن والخدمات.
ليست هذه الكلمات للتثبيط بل لحفز المخلصين والإهابة بهم للعمل معا وبشعور وطني عراقي على ضرب الإرهاب ووقف الموجة الطائفية، ومن أجل الأمن وتحسين الخدمات. كما أنه رأي نقدمه لحكومة المالكي راجين منها، وكما عبر الأستاذ جابر، إدراك خطورة ضياع هيبة الدولة، [ كتمرد مجلس محافظة البصرة على قرار رئيس الوزراء حول اللجنة الأمنية]، وأن ولا يضع المالكي وضغوط الكتل والفرقاء والحلفاء السياسيين، وأن يخرج من "دوامة المساومات والترضيات والسكوت عن وزراء الفشل والاتكاء على المرجعية."
هل من حقنا أخيرا أن نقول : عسى ولعل؟ وأن أبواب الأمل قد تنفتح؟؟!

د. عزيز الحاج
20 آب 2006