النازحون يتساءلون اين الحكومة؟ - التهجير القسري ارباك للخطط التنموية وتغيير للتركيبة السكانية

التهجير القسري كلمة تشير إلى هجرة من الداخل إلى الداخل والخارج اذ يبدأ المهجر تحت ضغط التهديد والسلاح بالبحث عن ملاذ آمن يستقبله ومن معه وبذلك يضمن حياته التى لم يبق منها سوى اسمها.
هذه القضية التى بدأت تطغي على الواقع العراقي هي ليست جديدة بل هي سياسة استخدمها نظام البعث المجرم منذ تسنمه السلطة بانقلاب 8 شباط الأسود ليبثوا الفرقة بين صفوف الشعب العراقي.

بدايات التهجير
سياسات التهجير القسري بدأت تحديداً بعد تسنم البعث المقبور السلطة بعد عام 1968 اذ فكر باجلاء الاكراد من بعض مناطقهم التى كانوا يقطنونها وابعاد التركمان فى مناطق عديدة من كركوك واستبدالهم بعرب الجنوب خاصة من مدينة ميسان وهذه السياسة العراقية تهدف الى زرع الفتنة في المجتمع العراقي كما تؤدي الى تقسيمه عرقياً الى عربٍ واكراد، وجغرافياً " شماليين/جنوبيين" ووفق هذه المعادلة الغريبة استمر النظام البائد في التمادي بالاعتداء على حرمات المواطنين وتهجيرهم قسرياً من مناطقهم الى مناطق اخرى ربما لاتتلاءم وطبيعة تفكيرهم او طبيعة حياتهم نظراً لاختلاف البيئة المحطية بهم.
وتشير الدراسات الى أن سياسات التهجير التي استخدمها النظام السابق ازدادت مؤشراتها بشكل ملحوظ قبل الحرب العراقية الايرانية حيث بدأ النظام البعثي المباد بتهجير العوائل العراقية من الاكراد الفيليين على اساس طائفى وقومى، وهذا التمييز العنصري استمر حتى بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة ابان غزو الكويت، وما نتج عنه من حرب الخليج الاولى وقمع الانتفاضة الشعبانية والحصار الاقتصادي الذي فرض على الشعب العراقي وليس غريباً علينا ان يستمر اذناب النظام بممارسة اعمالهم الاجرامية ضد الشعب العراقي، فلو نظرنا الى هذا الموضوع بامعان لأمكننا أن نؤشر ملاحظات كثيرة تؤكد على ان هذه الاعمال التي يقوم بها الصداميون ومن اصطف معهم ما هي إلا استمرار لتلك السياسة الاجرامية لذلك النظام المخلوع.
الاضرار الاقتصادية لسياسات التهجير.
ان نظرة واحدة للارقام التي اشرتها وزارة المهجرين والمهاجرين كفيلة بأن تطير العقل من الرأس، لان هذه الارقام مهمولة وتسبب خسائر كبيرة سواء على الصعيد الشخصي ام على الصعيد الحكومي الرسمي حيث أشرت وزارة المهجرين والمهاجرين عدد المهجرين قسرياً من مناطقهم في آخر احصائية لها إذ وصل الى مليون ونصف المليون مهجر وتقول السيدة حمدية نجف الوكيل الاقدم لوزارة المهجرين والمهاجرين ان النزوح والتهجير القسري يشكل مصدر قلق للحكومة وتؤثر هذه العمليات سلباً على برنامج الحكومة، فضلاً على تأثيرات هذه الظاهرة على نفسية المواطن وطريقة تفكيره وانماط سلوكه وتضيق عليه الخناق فى مصادر قوته اليومي. وتضيف السيدة حمدية نجف ان هذه الظاهرة تؤدي الى اختلال خطط التنمية التي تضعها الحكومة لمعالجة حالات معينة في بعض المناطق، لكن ما ينتج عن سياسة التهجير التي يقوم بها الارهابيون من اضطراب في تزايد عدد السكان سوف يجعل هذه الخطط عاطلة عن النتائج وبالتالي فهي تصبح في عداد اللاشيء.
شجون الناس وارقام تشيب الراس
وفق الاحصائيات الاخيرة لمنظمة اليونيسكو التابعة للامم المتحدة يظهر العراق في المرتبة الخامسة في عدد النازحين، وقد يتساءل الفقراء من المواطنين الذي وقعت على رأسهم هذه البلوي " اين الحكومة " وهو سؤال مشروع طالما يمثل هذا الفرد الفقير إلى الله الوسيلة التي أوصلت هؤلاء السياسيين إلى دكة الحكم فمن حقهم أن يتساءلوا.
ولعل الحقائق التي يتجنبها الجهاز الحكومي حقائق مرة، فمساعدات العالم كله لاتكفي لهؤلاء الذين فقدوا وطنهم في وطنهم وتحت مرأى ومسمع حكومتهم دون أن تحرك الاخيرة ساكناً سوى اشياء تكاد لاتذكر لانها ببساطة من اختصاص منظمات إنسانية وليس حكومة قوية تزعم انها حكومة وحدة وطنية. سرب نساء يتلفعن ببكاء حاد يشبه سواد عيونهن التى نسين بريقها في بيوتهن التي تركنها للإرهابيين يعيثون فيها فساداً، هذا المشهد دائماً يطالعني كلما حاولت التحقيق في اسباب هذه الظاهرة التي مازالت تدق ناقوس الخطر في الدولة العراقية. وانت تتجول بينهن تري اثار دمعٍ حفر في وجوههنّ اخاديد عميقة لم يطوها الزمن بعد وكأنهن يسألن عن شيء لا تستطيع الاجابة عليه لانك لا تملك سوى قلمك أخيراً تحديت نفسي وقلت سأسألهن، عن مايدور في اذهانهن عن هذه الظاهرة سيصل في يوم ما الى مسؤول حكومي من طراز رفيع فيتحرك مع من معه لحل وفك خيوط هذه الظاهرة التي تؤدي الى فقدان الحكومة هيبتها.
اقتربت من سيدة طاغيةٍ في الحزن فسألتها اسباب هذه الظاهرة ومن يقف خلفها فأجابت "ام محمد" وهي سيدة بلغت الستين عاماً وقد هجرت من بيتها هي وعائلتها في العامرية: هناك اناس ملثمون لانعرفهم ولا نعرف من اين اتوا يرمون اوراق تهديد اما ان ترحلوا او تذبحوا. ولانني امرأة اعدم زوجي وابني الاكبر في بداية الثمانينات خفت على الباقين وفضلت ان اقايض اعمارنا بما نملك"
واضافت "ام محمد" وفي صوتها رعشة كادت تفقدني توازني: لقد ذبحوا جارنا وجاءوا برأسه في كيس ورموه امام البيت مما اصاب المنطقة بكاملها بالذعر والخوف والهلع" تركتها وقد اعترتني رعدة ربما صعد الدم الى رأسي كما يقال وتوجهت الى امرأةٍ ثانية من النساء اللواتي ابتلين بهذه المحنة "ام مريم" من سكنة عامرية الفلوجة وهي موظفة في منشأة اللقاء توجهت اليها وكانت متوجسة من الغرباء فحينما علمت اننا من السلطة تنفست الصعداء - طبعاً السلطة الرابعة n وأجابتنا :-
اسرتي تتكون من سبعة اشخاص هدد والدي بالقتل من قبل ملثمين مجهولين فخرجنا نبحث عن ملاذ داخل الوطن وأخيراً التجأنا الى مخيمات مدينة الصدر واضافت "ام مريم" وفي لهجتها سخط على الحكومة : "لم يلتفت الينا أحد سوى بعض الشخصيات التي هي الان خارج الحكومة اما الحكومة فهم يغطون في نوم عميق" اما السيد "ابو ابراهيم" من سكنة منطقة الدورة ويعمل كاسباً على باب الله لم يبك هذه المرة بل تبادلنا الادوار اذ ما أن بدأ حكاية هجرته حتى انتبهت وقد اغرورقت عيناي بالدمع، قال لي ابو ابراهيم: قتل الإرهابيون ولدي الكبيرين امام عيوني ولم استطع أن احرك ساكناً لاننا نقيم عزاءات اهل البيت في دورنا، واضاف خفت على اطفالي الصغار فهاجرت بعد أن هددوني بقتلهم رغم عمرهم الذي لم يتجاوز العشرة اعوام كما ذكر "ابو ابراهيم" ان الحكومة مهما فعلت لن تعوضني عن ولدي واخبرني في جزع أنه اوكل امره الى الله سبحانه وتعالي فهو الكفيل الوحيد به.
بعد السيد ابو ابراهيم جزعت وتعبت وقررت ان اجري اتصالات مكثفة للوصول الى السادة المسؤولين للكشف عن هذه الظاهرة الخطيرة والمتفشية في الاونة الاخيرة في الواقع العراقي .
وقبل أن ابدأ البحث وأدوخ كما يقال وجدت باب الدكتور ابراهيم بحر العلوم الامين العام لتجمع عراق المستقبل ووزير النفط المستقيل مفتوحاً امامي فذهبت اليه وسألته عن هذه الظاهرة فاجب: طوال العقود الماضية انتج النظام البائد سياسات اضطهاد ضد المواطنين، ومن تلك السياسات هي التهجير القسري والعمل علي تغيير التركيبة السكانية والانسانية في العراق وقد كنا نأمل أن نسدل الستار بعد سقوط النظام لكن في الشهور الاربعة الاخيرة شهد العراق نزوحاً طبيعاً والانكى من ذلك هو سكوت الحكومة على هذه الاعمال وعدم استطاعتها توفير الامن لمواطنيها والحفاظ علي ممتلكاتهم.
وطالب بحر العلوم الحكومة العراقية بتوفير الحماية للنازحين واعادتهم الى مناطق سكناهم لان المواطن العراقي وضع كل ثقته بالحكومة. بعد أن اغرقني بحر العلوم بالامل الذي اذهب الى جهة معنية بأحوال هؤلاء الناس فذهبت الى وزارة المهجرين والمهاجرين وقبل ان أصعد الى مكتب السيد الوزير دقت في يدي مجلة (طيور مهاجرة) الصادقة عبر اعلام الوزارة وبعض الاحتـــمالات
ابعاد هذه الظاهرة، فقد ورد في المجلة حديث للسيدة سهيلة عبد جعفر تشير فيه الى ان للتهجير اثاراً نفسية خطيرة وابعاداً اقتصادية ستوثر على الاقتصاد العراقي، واضافت ان على الحكومة ان تسارع لاتخاذ الاجراءات الكفيلة باعادة النازحين الى مناطق سكناهم بعد أن تعرضوا للتهديد المباشر من قبل التكفيريين والصداميين، واوضحت الوزيرة أن المساعدات التي تقدمها الوزارة للنازحين غير كافية على الاطلاق كما انها ليست علاجاً شافياً للمشكلة التي استفحلت بشكل غير طبيعي.
لملمت بعضا على بعض وذهبت لاطراف باب الوزير الجديد فاستقبلني على احسن مايرام مما هدأ من روعي قليلاً وأحسست في حديثه نبرة همة "وعزم" وكأنه يريد أن يضع حلاً لهذه الظاهرة حيث تحدث عن خطة انية كل هذا الموضوع وهذه الخطة هي انية، كما انها لا تتناسب مع حجم المشكلة فالمساعدات المقدمة للعوائل من قبل الوزارة لاتسد حاجات تلك العوائل ولهذا ينبغي أن تكون ميزانية وزارة المهجرين والمهاجرين كبيرة. وشدد الوزير عبد الصمد سلطان على ضرورة ان تأخذ وزارتا الدفاع والداخلية دوريهما في التصدي لهذه الظاهرة.
وما جعلني أعيد النظر في كل حساباتي التي كنت قد اشرت فيها الى دور الاعلام في ردم هذه الظاهرة التي باتت تشكل مؤشراً واضحا لفقدان الدولة برمتها لهيبتها حيث لم أر أياً من وسائل الإعلام العراقية والعربية التي طبلت وزمرت لمختلف القضايا غير المصيرية متخذة منها مادة إعلامية ضخمتها ونفخت فيها من وحيها الذي ما زال يصب الزيت على نار الواقع العراقي الذي مازالت تطحنه الحياة تحت ظلال الوضع الامني السيء وحصارات هذه الزمر الإرهابية وقمعهم الدموي ليظل المواطن العراقي البسيط يعاني غربة الروح العراقية في بيتها الكئيب المهدد بالمخاوف والموت والظنون والرعب اليومي والضياع.

احمد جليل لويس، كاتب من العراق

المصدر: جريدة الزمان، 12/8/2006